ختام رمضان عن أحكام الاعتكاف وليلة القدر والدعاء

منذ يوم

أظلنا خير أيام شهرنا، أيام مباركات، وليالٍ تعظم فيها الهبات، وتتنزل فيها الرحمات، وتُقال فيها العثرات، فيا الله كم رقاب اعتقت، وعن النار حرمت! وكم ارتفع لربنا العظيم من أعمال صالحات! وكم فتح على قلوب الناس من خيرات!

الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وخلق الزوجين؛ الذكر والأنثى، وأرانا في خلقه وأمره شيئًا من عظمته، وأرانا في آياته ما يدل على وحدانيته، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، السراج المنير، والبشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنهى، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الملتقى، أما بعد:

التقوى جِماع الخير كله؛ لذا تكرَّر في القرآن والسنة الأمر بها، فهي سبيل الرشاد والفلاح في الدنيا والآخرة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

 

يتسارع سير الأيام، معلنة قرب نهاية شهر الصيام والقيام، فالله الله بالتشمير لصالح الفعال وطيب الكلام، والإكثار من الذكر وطول السجود مع القيام، والله الله بالحرص على تكميل الصيام وجبر خلله ونقصه بالانكسار والاستغفار لرب الأنام، والحرص الحرص على مسابقة الثواني قبل الانصرام هذه الأيام الكرام، ومحاولة التخفُّف من المشاغل وطلب التخفف من الذنوب والآثام.

 

عباد الله، أظلنا خير أيام شهرنا، أيام مباركات، وليالٍ تعظم فيها الهبات، وتتنزل فيها الرحمات، وتُقال فيها العثرات، فيا الله كم رقاب اعتقت، وعن النار حرمت! وكم ارتفع لربنا العظيم من أعمال صالحات! وكم فتح على قلوب الناس من خيرات!

 

عباد الله، ما الهدي النبوي لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ختمت به الرسالات في هذه العشر الطيبات؟ تقول أُمُّنا عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، وتقول رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله؛ متفق عليه.

 

قال ابن حجر في شرحه: وفي الحديث الحرص على مداومة القيام في العشر الأواخر، إشارة إلى الحث على تجويد الخاتمة. وروت زينب بنت أم سلمة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه، وكان يطرق الباب على عليٍّ وفاطمة ويقول: أيقظوا صواحب الحجرات، ألا تقومان فتصليان؟ وهو يتلو قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، كم من كاسية عارية! وقد كان عليه الصلاة والسلام يحرص على قيام العشر الأواخر واعتكافها، والاعتكافُ عبادةٌ مشروعةٌ ومستحبةٌ حتى في الشرائع السابقة، ويدل عليه قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وقال ابن عمر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، واستمر حتى مات، وهي مسنونة حتى للنساء، فلقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم، واعتكف أزواجه من بعده، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة وحفصة أن يعتكفا معه، وهو لزوم المسجد لطاعة الله، يقول ابن القيم رحمه الله: شرع الله الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف على الله تعالى، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، فيصير أنه بالله بدلًا عن أنه بخلقه.

 

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه أن يمكث في المسجد ولا يخرج إلا لحاجة، وكان يعتني بالنظافة في الاعتكاف؛ فكان يخرج رأسه من المسجد لحجرة عائشة، فكانت تغسل رأسه وترجله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يخرج من المسجد لأعمال البر؛ كعيادة المريض وشهود الجنازة، ولا يخرج إلا لما لا بد منه، وربما زاره بعض أزواجه وهو معتكف فتحدثه، وهذا لا إشكال فيه، ومما ينبغي التنبيه عليه أنه ينبغي على المعتكف استغلال غالب وقته في الطاعة، ينقلب من طاعة إلى طاعة، ومن ذكر إلى ذكر؛ حتى لا يمل ولا يكثر من الندم، ولا يكثر من الخروج من المسجد لغير طاعة، ومن لم يستطع اعتكاف في العشر كلها، فليعتكف جزءًا منها، وليكثر المكث في المسجد، ومن كان له والدان يبرهما أو يحتاجان إليه أو ذرية لو اعتكف لتضرر أهله، الأولى له عدم الاعتكاف، والله يقول: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء: 25]؛ ولهذا سارع له السلف الصالحون اقتفاءً لسنة نبيِّهم، وكل هذا طلبًا لتحصيل ليلة عظيمة تفضل ليالي الدنيا بأسرها، ليلة العمل فيها خير من ألف شهر، ليس فيها مثل هذه الليلة، إنها ليلة القدر، ليلة نزول القرآن، فأي بركة تعدلها هذه البركة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].

 

ليلة لا يقصر فيها إلا مغبون، ولا يحرم فضلها إلا محروم، قال الزُّهْري رحمه الله: سميت ليلة القدر؛ لعظمة قدرها وشأنها ومنزلتها، إنها الليلة التي تنزل الملائكة مع الروح الأمين، إنها ليلة عظيمة يعطي ربنا الكريم مَنْ عبده فيها وعمل الخير ثوابًا عظيمًا، فمن قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

 

وتتحرَّى هذه الليلة في العشر الأخيرة، وأوكدها في الأوتار؛ وهي ليلة 21، 23، 25، 27، 29. وهي ليلة متنقلة في كل عام، فالمطلوب الجد والاجتهاد في طلب أجرها، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول إن وافقت ليلة القدر، فأرشدها إلى أن تقول: «اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعْفُ عنا».

 

عباد الله، لقد أخفى الله علينا ليلة القدر كي يجتهد الناس في تحصيلها وعمل الصالحات فيها، وفي باقي أيام العشر، فما بال أقوام يحرصون على كشف وقتها، ويتناول أخبارها بين الناس، وحتى لو فاتت ليلة القدر، ألم تعلم أن لله كل ليلة عتقاء، فلا تثبط الناس عن عمل الطاعات.

 

عباد الله، مقصود الصيام والقيام الأعظم تحقيق عبودية الله وتعظيمه، وهي فرصة تفضل الله بها على عباده ليعظموه ويعبدوه، ومن أعظم العبادات الدالة على كمال الخضوع لله رب العالمين الدعاء، وقد ورد ذكر بين آيات الصيام، فالدعاء فيه اعتراف من العبد بحاجته لربِّه ومولاه، وفيه انكسار وذِلَّة لله؛ ولذا ورد في الحديث «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء»؛ بل إن الله يغضب إذا لم يسأل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من لم يسأل الله يغضب عليه»، والدعاء هو أن يطلب الداعي ما ينفعه، وأن يكشف ما يضرُّه، وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله والتبرُّؤ من الحول والقوة، قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: أفضل الدعاء الإلحاح على الله، والتضرُّع إليه.

 

وحذار حذار أن تعجب بعملك، فرُبَّ حسنةٍ أدخلت صاحبها النار، كلما تذكرها مَنَّ بها، ورُبَّ سيئةٍ أدخلت صاحبها الجنة، كلما تذكَّرها استغفر وتاب وندم، حتى قبل، ولنعلم جميعًا أنه كلما عظم افتقارك لربك في دعائك قربت إجابتك، قال تعالى على لسان كليمه موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].

 

الدعاء هو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل وإضافة الجود والكرم إليه.

 

الدعاء دليل على التوكُّل، فسِرُّ التوكل وحقيقته اعتمادُ القلب على الله وفعلُ السبب المأذون به.

 

الدعاء سلاح الأنبياء الصالحين، هو الذي نجَّى الله به نوحًا عليه السلام، وأغرق قومه بالطوفان، ونجَّى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون، ولما أطبقت الظلمات على يونس بن متَّى عليه السلام اعتذر ونادى وندم واعترف بالزلل والظلم، فنجَّاه الله {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وأنت يا صاحب الحاجة، يا من تشكو قلة المال، وترجو صالح الزوج والعيال، ويا من أنهك المرض جسده، وخاف على مستقبله، ورجف قلبه على حال المسلمين إخوانه، ويا من لا يدري أفي الجنة أو النار مصيره، ارفع يدك وأمل ربك، فالله قريب ممن دعاه، مجيب لمن رجاه، أو لم تسمع قول الله {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

 

عباد الله، للدعاء آداب منها: أن يبدأ الإنسان بحمد الله والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بمطلوبه.

 

والدعاء له أوقات تتحرَّى فيه الإجابة في يوم الجمعة، وعند فطر الصائم، وبين الأذان والإقامة، وفي الثلث الأخير من الليل حين ينزل الله إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله وعظمته، فأروا من أنفسكم خيرًا، وأظهروا له ضعفكم وافتقاركم تفوزوا برضا ربكم، وحصول مطلوبكم، فالساعات التي نحن فيها ثمينة، ولا ندري هل ستعود إلينا مرات أخرى أم لا، فالسعيد من استغل الفرصة، وعمل في زمن المهلة.

 

رزقنا الله وإياكم رضوانه، وجعل الفردوس الأعلى منزلنا ومستقرنا برحمته وفضله وجوده وإحسانه.

___________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني

  • 1
  • 0
  • 75

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً