مجاهدة النفس في أواخر رمضان

منذ 9 ساعات

إن المطالب العالية في الدنيا أو في الآخرة، لا تنال براحة الجسم، وفلاحُ الإنسان وبلوغه المراتب العالية- سواء في أمور الدنيا أو الآخرة- مرهونٌ بمجاهدة نفسه.

أيها المؤمنون، إن المطالب العالية في الدنيا أو في الآخرة، لا تنال براحة الجسم، وفلاحُ الإنسان وبلوغه المراتب العالية- سواء في أمور الدنيا أو الآخرة- مرهونٌ بمجاهدة نفسه.

 

وقد قال الشاعر قديمًا:

على قدر أهل العزم تأتي العزائـم   **   وتأتي على قدر الكرام المكـــارم 

وتعظم في عين الصغير صغارها   **   وتصغر في عين العظيم العظائم 

 

ولو كانت معالي الأمور مما ينال براحة الجسد، لاستوى فيها كل الناس، ولكن الأمر على خلاف ذلك، فمن أراد بلوغ القمم فلا بد من المجاهدة، كما قيل:

ومن يتهيَّب صعود الجبال   **   يعِشْ أبد الدهر بين الحُفَر 

 

وكلما عظم الهدف، عظمت المجاهدة؛ فالعبد لا ينال الجنة إلا بمجاهدة نفسه، كما أخبر رب العزة جل في علاه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وقال جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 34 - 39].

 

فهذه الدنيا ـ عباد الله ـ ميدان جهاد للمؤمن، يصل به إلى سبيل ربه، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

 

معاشر الصائمين، لقد مضى رمضان سريعًا وسعى سعيًا حثيثًا، وصدق الله إذ قال: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]، فجاء التعبير القرآني في غاية البلاغة وخفة اللطافة، فعبر عنها بجموع القلة شحذًا للهمم وتنشيطًا للفطن الملهم، فإن الأبدان في نهاية الطريق قد تتعب، والنفوس قد تضعف أو تمل، وعلى المؤمن المخلص الجهاد.

 

فجدوا ـ عباد الله ـ واجتهدوا في العبادة؛ فإنكم أدركتم الثلث الأخير من رمضان وهو أفضله؛ فقد اجتمعت فيه الفضائل، حيث إجابة الداعين، وإعطاء السائلين، والمغفرة للمستغفرين، فعليكم ـ عباد الله ـ بالصبر على أداء الطاعات، ومجاهدة النفس على ذلك، فإنه لا يتم الإيمان إلا بالصبر، قال ابن رجب -رحمه الله-: "وأعظم مجاهدة النفس على طاعة الله عمارة بيوته بالذكر والطاعة".

 

ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأروا الله تعالى من أنفسكم خيرًا تجدوا خيرًا، وجاهدوا فيما تبقى من أيام وليالي رمضان، فإن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، وإنما الأعمال بخواتيمها، قال ابن الجوزي رحمه الله: "إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم، فإنك إذا لم تحسن الاستقبال، لعلك تحسن الوداع"؛ ا هـ.

 

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
 

أيها المسلمون، هذه العشر التي أدركناها نعمة من الله تعالى على عباده، فَضَّلها بليلة القدر، ووصفها بأنها مباركة، وأنها خيرٌ من ألف شهر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسها فقال: « «التمسوها في العشر الأواخر في الوتر» »؛ (رواه الشيخان) ، وأخبر أن في قيامها مغفرة الذنوب، فقال صلى الله عليه وسلم: ««من قام ‌ليلة ‌القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» »؛ (رواه الشيخان) .

 

ولذا كان السلف الصالح يُعظِّمون العشر الأواخر من رمضان بزيادة العبادة فيها، قال النخعي: "العملُ في ليلة القدر خيرٌ من العمل في ألف شهر".

 

وكان بعض التابعين يخصون قيام ليال العشر بزيادة ركعات: فعن وقاء بن إياس رحمه الله قال: «كان سعيد بن جبير يؤمنا في رمضان، فيصلي بنا عشرين ليلةً ست ترويحات، فإذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد وصلى بنا سبع ترويحات»؛ رواه ابن أبي شيبة.

 

وفي حديث السائب بن زيد قال: "كان القارئ يقرأ بالمئين – يعني: بمئات الآيات - حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، قال: وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر".

 

كما كانوا يعظمونها أشد التعظيم؛ فقد كانوا يتهيئون لها ويستقبلونها كما يستقبلون الأعياد، فقد كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي يُرجى فيها ليلة القدر، وكان ثابت البناني وحميد الطويل رحمهما الله يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبان المسجد بأنواع الطيب في الليلة التي يُرجى فيها ليلة القدر.

 

وروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين، اغتسل وتطيب، ولبس حلة: إزارًا ورداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.

 

ألا فاقتدوا ـ رحمكم الله ـ بهؤلاء الأخيار والرعيل الأول من الأبرار، واغتنموا ـ أيها الصائمون ـ ما تبقى من ليالي رمضان بما هي جديرة به من العبادة، فإنها فرصة العمر، واعتبروا بمن كان معكم في رمضان الماضي، وحال الموت بينهم وبين إدراك رمضان، وأنتم لا تدرون هل ستتمون الشهر أم يحول بينكم وبين إتمامه، ما حال بينهم وبين إدراكه.

 

أحسن الله لي ولكم ووالدينا وأهلينا الخاتمة، ووفقنا لاغتنام شهرنا وما بقي من أعمارنا بما يرضيه، اللهم وفقنا للعمل الصالح فيما تبقى من أيام هذا الشهر الفضيل.

_____________________________________________
الكاتب: أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري

  • 1
  • 0
  • 42

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً