العبرة بالخواتيم - زكاة الفطر - سنن العيد
إننا في ختام شهر عظيم، وقد قارب الضيف الكريم على الرحيل، فهنيئًا لمن اجتهد في أواخره، واستدرك ما فات من تقصير، وخاب وخسر من فرّط فيه، فالعبرة بكمال العمل وإحسان الختام، لا بمجرد بداياته.."
الحمد لله الذي وفقنا لصيام شهر رمضان وقيامه، ونسأله أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، فإننا في ختام شهر عظيم، وقد قارب الضيف الكريم على الرحيل، فهنيئًا لمن اجتهد في أواخره، واستدرك ما فات من تقصير، وخاب وخسر من فرّط فيه، فالعبرة بكمال العمل وإحسان الختام، لا بمجرد بداياته، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إنما الأعمال بالخواتيم”[1] (رواه البخاري).
فيا أيها الصائمون، هذا وقت الجد والاجتهاد، فلا يكن حالنا في آخر الشهر فتورًا وضعفًا، بل لنحسن الختام بالاستغفار والتوبة والذكر والصدقة، ولنجتهد فيما بقي من لياليه، وخاصة الليلة الأخيرة، فإنها قد تكون ليلة القدر، وقد قال الله تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾[2]
فإذا كان قيام هذه الليلة خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة في أمة أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- " أن أعمارها بين الستين والسبعين وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ"[3] فهذه الليلة الأخيرة بلا شك حَرِّية بالحرص على التماسها، وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه” [4] (متفق عليه).
أيها المسلمون، لقد أنعم الله علينا بأن بلّغنا هذا الشهر وأعاننا على صيامه وقيامه، فلنكمل النعمة بالشكر، فإن الشكر سببٌ للزيادة، قال تعالى: ﴿...لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ... ﴾[5]
فالحمد لله كثيرا، وطوبى لمن اعتبر وأزهر بالطاعات، وبشرى لمن مليء خزائنه بالحسنات.
أيها الإخوة: لنحذر من الاغترار بالعمل، فالله هو الموفق، و لنكن مسارعين في الخيرات، يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله): " الْعَارِفُ لَا يَرْضَى بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ لِرَبِّهِ، وَلَا يَرْضَى نَفْسَهُ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَيَسْتَحْيِي مِنْ مُقَابَلَةِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ."[6]
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [7]، روى الإمام الترمذي أن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها - سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية فقالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: " لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم ﴿ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ﴾".[8]
أيها الأخوة: لقد فرض الله علينا زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حكمها عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: " “فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين… والصغير والكبير من المسلمين”[9] (متفق عليه).
وهي واجبة على كل مسلم يجد ما يزيد عن قوته وقوت عياله يوم العيد، وقدرها النبي صلى الله عليه وسلم بصاع من طعام أهل البلد، مثل الأرز أو التمر أو غيرهما. ووقت إخراجها: من غروب شمس آخر يوم من رمضان إلى قبل صلاة العيد، فعن ابن عمر-رضي الله عنه-: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بزكاة الفطر، أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة»[10]، وجوز العلماء تقديمها بيوم أو يومين، وتصرف للفقراء والمحتاجين.
وزكاة الفطر تعد من دعائم المحبة وتقوية الأواصر بين أبناء الأمة، وبينّ لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- حكمة مشروعيتها عن ابن عباسٍ قال: فرض رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - زكاةَ الفِطْر طُهْرةً للصَائم مِن اللغو والرَّفثِ وطُعْمةً للمساكينَ، مَنْ أدَّاها قبلَ الصَّلاة، فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أدَّاها بعدَ الصَّلاة، فهي صَدَقةٌ من الصَّدقات[11]
فسبحان من جعل الغني في حاجة لعطاء الفقير ليسعد بعطائه في الآخرة، وسبحان من جعل الفقير في حاجة لعطاء الغني ليسعد به في الدنيا.
أيها الإخوة، يوم العيد، يوم فرح وعبادة، فلنحرص على سننه وآدابه:
وأولها التكبير: ويبدأ من غروب شمس ليلة العيد حتى صلاة العيد، قال تعالى: ﴿...وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾[12]
وثانيها: الغسل والتطيب ولبس أجمل الثياب، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك يوم العيد.[13]
وثالثها: أكل تمرات قبل صلاة العيد، قال أنس -رضي الله عنه-: “كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترًا” [14] (رواه البخاري).
ورابعها: الخروج إلى المصلى مشيًا إن أمكن وأداء صلاة العيد جماعة.
وخامسها: التهنئة والتوسعة على الأهل وصلة الأرحام، فقد كان الصحابة يهنئون بعضهم بقولهم: “تقبل الله منا ومنكم”[15].
وسادسها: ترك الصيام يوم العيد، فهو يوم أكل وشرب، لأنه صلى الله عليه وسلم نهى في الصحيح عن صوم الفطر والأضحى، وقال: “أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله”[16] (رواه مسلم).
فالحمد لله الذي جعل لنا مواسم للخير يزداد المؤمنون فيها إيمانًا ويتوب فيها العصاة إلى الله توبة نصوحا.
أيها الأحبة: " قد اختلف أهل العلم هل صلاة العيد واجبة أم لا وهل الوجوب عيني أم فرض على الكفاية؟ والحق الوجوب كما اختاره غير واحد من أهل العلم لأنه صلى الله عليه وسلم مع ملازمته لها قد أمرنا بالخروج إليها كما في حديث أمره صلى الله عليه وسلم للناس أن يغدوا إلى مصلاهم بعد أن أخبره الركب برؤية الهلال[17] وهو حديث صحيح وثبت في الصحيح من حديث عن أم عطية، قالت: " أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق، والحيض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: «لتلبسها أختها من جلبابها»"[18] ، فالأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب، والرجال أولى من النساء بذلك لأن الخروج وسيلة إليها ووجوب الوسيلة يستلزم وجوب المتوسل إليه، بل ثبت الأمر القرآني بصلاة العيد كما ذكره أئمة التفسير في قوله تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ فإنهم قالوا: المراد صلاة العيد، ومن الأدلة على وجوبها أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجباً. "[19]
فأذكر نفسي وإياكم عباد الله بفضل الصدقة تطوعا مع زكاة الفطر في ختام الشهر ليُسَرَّ بها الجميع، قال تعالى ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [20]
عباد الله: لنحسن فيما بقي يغفر لنا ما مضى قال تعالى: ﴿... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾[21]
نسأل الله أن يختم لنا شهرنا بالخير، وأن يتقبله منا، وأن يجعلنا من الفائزين برضوانه، وأن يعيد علينا رمضان أعوامًا عديدة في صحة وعافية وطاعة.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام، واغفر لنا الذنوب والآثام، وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا كريم.
عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [22].
[1] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الرقاق- باب: الأعمال بالخواتيم، وما يخاف منها- رقم الحديث (6493)- (8/ 103)
[2] [سورة القدر: الآية: 3].
[3] أخرجه الإمام الحاكم في المستدرك على الصحيحين - كتاب التفسير- تفسير سورة الملائكة- رقم الحديث (3598) (2/ 463) صححه الإمام الحاكم ووفقه الإمام الذهبي بقوله: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ"- [تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا- الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت- الطبعة: الأولى، 1411 - 1990]مع اختلاف في لفظه
[4] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان- باب: قيام ليلة القدر من الإيمان - رقم الحديث (35) - (1/ 16)
[5] [سورة إبراهيم: جزء من الآية: 7]..
[6] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 95) المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي - الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت- الطبعة: الثالثة، 1416 هـ - 1996م
[7] [سورة المؤمنون: الآيتان: 60، 61].
[8] أخرجه الإمام الترمذي في سننه - أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - باب: ومن سورة المؤمنون - رقم الحديث (3175) -(5/ 327)، وصححه الإمام الألباني.
[9] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة- باب: صدقة الفطر على الحر والمملوك رقم الحديث (1511) - (2/ 131)، و أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة- باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير- رقم الحديث (984)- (2/ 677)
[10] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة- باب الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة- رقم الحديث (986) - (2/ 679)
[11] أخرجه الإمام أبي داود في سننه كتاب الزكاة- باب زكاة الفطر - رقم الحديث (1609)- (3/ 54)، حسنه المحقق شعيب الأرنؤوط وكذا الإمام الألباني.
[12] [سورة البقرة: جزء من الآية: 185]..
[13] أخرج الإمام ابن ماجه بسنده عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى ". - أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها - باب ما جاء في الاغتسال في العيدين - رقم الحديث (1315 ) - (2/ 346)[ المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد - محمَّد كامل قره بللي - عَبد اللّطيف حرز الله- الناشر: دار الرسالة العالمية- الطبعة: الأولى، 1430 هـ - 2009 م]، وفي سنده ضعف ويغني عنه في استحباب الغسل للعيد ما رواه الإمام مالك في "الموطأ عن نافع: أن ابن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى. كتاب الجمعة- موطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري باب العمل في النداء والغسل في العيدين- رقم الحديث (583)- (1/ 227) [المحقق: بشار عواد معروف - محمود خليل - الناشر: مؤسسة الرسالة - سنة النشر: 1412 هـ] وإسناده صحيح موقوف.، وما رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى من طريق زادان قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه عن الغسل، فقال: اغتسل كل يوم إن شئت، فقال: الغسل الذي هو الغسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر.، وأخرجه الإمام البيهقي في السنن الكبرى - كتاب صلاة العيدين- باب غسل العيدين - رقم الحديث (6124) (3/ 393)[ المحقق: محمد عبد القادر عطا - الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنات - الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م]وإسناده صحيح.
[14] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - أبواب العيدين- باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج- رقم الحديث (953) - (2/ 17)
[15] أخرج الإمام البيهقي في السنن الكبرى" عن خالد بن معدان قال: لقيت واثلة بن الأسقع في يوم عيد , فقلت: تقبل الله منا ومنك , فقال: " نعم، تقبل الله منا ومنك " , قال واثلة: " لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد فقلت: تقبل الله منا ومنك , قال: " نعم , تقبل الله منا ومنك " " كتاب صلاة العيدين- باب ما روي في قول الناس يوم العيد بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك - رقم الحديث (6294)- (3/ 446)[ المحقق: محمد عبد القادر عطا- الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنات- الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م]، وكذا أخرجه الإمام الطبراني في المعجم الكبير- رقم الحديث (123) (22/ 52)[ المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي- دار النشر: مكتبة ابن تيمية – القاهرة- الطبعة: الثانية] وصحح الإمام الألباني التهنئة بها في العيد [ينظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة (ص: 355) - الناشر: دار الراية - الطبعة: الخامسة ]
[16] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الصيام- باب تحريم صوم أيام التشريق- رقم الحديث (1141) - (2/ 800)
[17] اخرجه الإمام أبي داود في سننه- أول كتاب الصوم - باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال - رقم الحديث (2339) - (4/ 27)، وصححه الإمام الألباني، وأقوى منه في الاستشهاد ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه " عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يخرج يوم الأضحى، ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة"-كتاب صلاة العيدين - رقم الحديث (889)-(2/ 605)
[18] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب صلاة العيدين- باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة، مفارقات للرجال - رقم الحديث (890)- (2/ 606)
[19] الروضة الندية شرح الدرر البهية ط المعرفة - المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ)- (1/ 142) - الناشر: دار المعرفة.
[20] [سورة المنافقون: الآية: 10].
[21] [سورة هود: جزء من الآية: 114].
[22] [سورة الأحزاب: آية: 56].
_______________________________________________
الكاتب: د. صغير بن محمد الصغير
- التصنيف: