من صيام التطوع: صيام السبت

منذ يوم

اختلف العلماء في حكم صيام يوم السبت على أقوال: يُكره إفراد يوم السبت بصيام - لا يُكره صيام يوم السبت مطلقًا - يجوز صوم يوم السبت في غير الفرض - يَحرُم صيامُ يوم السبت مطلقًا إلا في الفرض".

اختلف العلماء في حكم صيام يوم السبت على أقوال:

القول الأول: أنه يُكره إفراد يوم السبت بصيام، فإن صام يومًا قبله أو بعده، لم يُكره، وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بما يأتي:

1- حديث عبد الله بن بُسر عن أخته الصمَّاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترَض الله عليكم، فإن لم يجد أحدُكم إلا لحاء عنبةٍ أو عود شجرة، فليَمْضغه»؛ (حم 26535، د 2421، ت 744، جه 1726، دمي 1749، وصححه الألباني).

 

واختلف العلماء في صحة الحديث، فضعَّفه الإمام مالك والنسائي والزهري والأوزاعي، والإمام أحمد والطحاوي، وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر، قال الحافظ في التلخيص الحبير: "روى الحاكم عن الزهري أنه كان إذا ذكر له الحديث، قال: هذا حديث حمصي، وعن الأوزاعي قال: ما زلت له كاتمًا حتى رأيته قد اشتَهر، وقال أبو داود في السنن: قال مالك: هذا الحديث كَذِبٌ، قال الحاكم: وله معارض بإسناد صحيح"، ومعنى إعلال الزهري له بأنه حديث حمصي، أن الوحي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فينبغي أن يرجع الحديث إلى المدينة.

 

وأعلَّ النسائي حديث الصماء بالاضطراب، فقد ورد عن عبد الله بن بسر مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله صحابي أيضًا، وورد عنه عن أبيه، وورد عنه عن الصماء عن عائشة، وورد وصفه للصماء بأنها أخته، وورد أنها خالته، وورد أنها عمَّته، وقال الحافظ: "هذا التلوُّن في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المخرج، يوهن راويه، وينبِّئ بقلة ضبْطه، إلا أن يكون من الحفَّاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث، فلا يكون ذلك دالًّا على قلة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا"؛ (التلخيص الحبير 2/ 216).

 

وقال الأثرم: قال أبو عبد الله: "قد جاء فيه حديث الصماء، وكان يحيى بن سعيد يتَّقيه، وأبى أن يحدثني به"؛ (الفروع 3/ 123).

 

2- أنه يوم تعظِّمه اليهود، ففي إفراده تشبُّهٌ بهم.

ورُدَّ بأن اليهود لا يعظِّمون السبت بالصيام، ولو كان الملحوظ تركَ موافقتهم لتحتَّم صومُه؛ لأنهم لا يصومونه، وأيضًا فإن صومه مع يوم قبله أو بعده، لا ينافي تعظيمه، وهو جائز عند أصحاب هذا القول، فانْتُقِضَت علَّتهم.

 

ويدل لضَعف هذا القول أن حديث الصماء عام، والقول بأن المراد به إفراد يوم السبت، يردُّه الاستثناء في قوله صلى الله عليه وسلم: «إلا فيما افترَض الله عليكم»، فإنه لا يتصوَّر إفراد يوم السبت في الفرض حتى يستثني.

 

القول الثاني: أنه لا يُكره صيام يوم السبت مطلقًا، وهذا مذهب الإمام مالك، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قال في الإنصاف: "واختار الشيخ تقي الدين أنه لا يُكره صيامه مفردًا، وأنه قول أكثر العلماء... وأن الحديث شاذ أو منسوخ، وقال هذه طريقة قدماء أصحاب الإمام أحمد الذين صحِبوه كالأثرم وأبي داود"؛ (الإنصاف 3/ 347)، وهذا القول هو الصحيح، ويدل لذلك أن صيام يوم السبت في غير الفرض يتصوَّر أن يكون مفردًا، وأن يكون مع يوم الجمعة، وأن يكون مع يوم الأحد، وقد جاءت الأحاديث بجواز جميع الصور الثلاثة، وبيانها فيما يأتي:

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يَصومَنَّ أحدُكم يوم الجمعة إلا يومًا قبله أو بعده»؛ (خ 1985، م 1144).

 

2- عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: «أصمتِ أمس؟» قالت: لا، قال: «تريدين أن تصومي غدًا؟» قالت: لا، قال: «فأفطري»؛ (خ 1986)، وهذان الحديثان يدلان على جواز صيام يوم السبت مع الجمعة.

 

3- عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: لأَقومَنَّ الليل ولأَصُومَنَّ النهار ما عِشتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أأنت الذي تقول ذلك» ؟ فقلت له: قد قلتُه يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنك لا تستطيع» ؛ الحديث إلى قوله: «صمْ يومًا وأفطِر يومًا، وذلك صيام داود عليه السلام، وهو أعدلُ الصيام»، وفي رواية «أفضل»؛ (خ 3418، م 1159)، وهذا يدل على جواز إفراد يوم السبت بالصيام.

 

فإن قيل يُحتمل أنه نهى عن صوم يوم السبت في غير الفرض بعد ذلك، فالجواب: أن هذا بعيدٌ؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والتاريخ مفقود، ولأن عبد الله بن عمرو بن العاص قال بعد أن كبر: "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ من أهلي ومالي"؛ (م 1159)، وفي رواية: "لأن أكون قبِلت رُخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ مما عُدِلَ به أو عَدَلَ، لكني فارَقتُه على أمر أَكره أن أُخالفه إلى غيره"؛ [حم 6441]، فهو قد فارَقه على صيام يوم وإفطار يوم، ولم يذكر عدم صيام يوم السبت، فدل هذا على جواز صيام يوم السبت مفردًا.

 

4- أن ابن عباس رضي الله عنهما وناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بعثوا إلى أم سلمة رضي الله عنها يسألونها عن أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرَ لها صيامًا؟ فقالت: (السبت والأحد، فراجَعها بعض الصحابة فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرُ ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، كان يقول: «إنهما يومَا عيدٍ للمشركين، وأنا أُريد أن أُخالفهم»؛ [، برقم 1593، واعتمده الحافظ في الفتح 10/ 362، وحسَّنه ابن القيم في زاد المعاد 2/ 79، حب 8/ 381، برقم 3616، وقال المحقخز 3/ 318، كم 1/ 602ق: إسناده قوي، وقال الألباني: إسناده حسن، ثم تبيَّن له ضعفُه في الضعيفة 1099 فضعَّفه هناك، وحسَّنه المعلق على زاد المعاد 2/ 78]، وهذا يدل على جواز صيام يوم السبت مع يوم الأحد.

 

القول الثالث: يجوز صوم يوم السبت في غير الفرض مطلقًا، إلا إذا قُصِد صومُه منفردًا بعينه فيَحرُم، واستدلوا بأن حديث الصماء يدل على حرمة صوم يوم السبت، وصيامه له صور:

أ- صيام يوم السبت في الفرض.

 

ب- صيامه مفردًا على وجه التخصيص.

 

ج- صيامه مفردًا لا على وجه التخصيص.

 

د- صيامه مقترنًا بيوم قبله أو بعده.

 

وقد دلت الأدلةُ على جواز صيامه في الفرض، وصيامه مفردًا لا على وجه التخصيص، وصيامه مقترنًا بيوم قبله أو بعده، فلم يبقَ إلا صيامه مفردًا على وجه التخصيص، فيكون حرامًا.

 

وهذا القول ذكره ابن القيم فقال: "وعلى هذا فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم السبت»؛ أي: لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض، فإن الرجل يقصد صومَه بعينه؛ بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت، كمَن أسلم ولم يبقَ من الشهر إلا يوم السبت، فإنه يصومه وحدَه، وأيضًا فقصدُه بعينه في الفرض لا يُكره، بخلاف قصده بعينه في النفل، فإنه يُكره، ولا تزول الكراهة إلا بضمِّ غيره إليه، أو موافقته عادةً، فالمزيل للكراهية في الفرض مجرَّد كونه فرضًا، لا المقارنة بينه وبين غيره، وأما في النفل فالمزيلُ للكراهة ضمُّ غيره إليه، أو موافقتُه عادةً، ونحو ذلك"؛ (تهذيب السنن مع عون المعبود 7/ 70).

 

وهذا القول فيه نظر من وجهين:

الأول: أن مَن أسلَم ولم يكن قد بقِي من الشهر إلا يوم السبت، لا يُعَدُّ قاصدًا ليوم السبت بعينه؛ لأنه حصل له اتفاقًا وقوعُ يوم السبت آخر يوم من رمضان، ولو صحَّ هذا لكان هذا نهيًا عن صوم يوم السبت لمن يصوم يومًا ويُفطر يومًا.

 

الثاني: كيف يحمل حديث الصماء على المعنى النادر، فيقال: إن معناه لا تصوموا يوم السبت منفردًا بعينه إلا فيما افترَض، ويقال: إنه يتصور وقوع ذلك بأن يُسلم ولم يبقَ من الشهر إلا يوم السبت، فكيف يُحمَل الحديثُ على المعنى النادر ويُترك المعنى الغالب، والأصلُ حملُ الحديث على المعنى الغالب لا النادر، والغالب أن يوم السبت في الفرض يأتي ويوم قبله أو بعده.

 

القول الرابع: أنه يَحرُم صيامُ يوم السبت مطلقًا إلا في الفرض، وهذا قول الشيخ الألباني، ولم يَسبقه له أحدٌ، واستدل بعموم حديث الصماء، وقال: إن الأحاديث التي يدل ظاهرُها على جواز صيام يوم السبت في غير الفرض، لا تَنهَض لتخصيص حديث الصماء؛ لأن تلك الأحاديث مُبيحة، وحديث الصماء حاظرٌ، والحاظر مقدَّم على المبيح.

 

وهذا القول أضعف الأقوال؛ لأن تقديم الحاظر على المبيح يكون عند الترجيح، والجمع بين الأدلة أَولى من الترجيح، وأيضًا فإن أحاديث النهي عن إفراد يوم الجمعة أشهرُ وأصحُّ، ومع ذلك حملها الجمهور على كراهة إفراد يوم الجمعة، فالقول بتحريم صيام يوم السبت مطلقًا قول ضعيف؛ [الفتاوى الفقهية 2/ 65، البحر الرائق 2/ 278، بدائع الصنائع 2/ 79، المغني 3/ 171، المجموع 6/ 481، الفروع 3/ 123، شرح معاني الآثار 2/ 80].

_____________________________________________
الكاتب: د. عبدالرحمن أبو موسى

  • 0
  • 0
  • 78

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً