المداومة على الأعمال
أيها المسلمون عباد الله، إن الله تعالى قد أثنى على أهل الإيمان ممن يداومون على الأعمال الصالحة؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}.
أيها المسلمون عباد الله، إن الله تعالى قد أثنى على أهل الإيمان ممن يداومون على الأعمال الصالحة؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].
• وذمَّ الله تعالى الذين يتركون العمل؛ فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92]؛ قال الطاهر بن عاشور: "كان حالها إفسادَ ما كان نافعًا محكمًا من عملها، وإرجاعه إلى عدم الصلاح"، وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وقال الله تعالى عن المنافقين: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]؛ أي: تركوا الله أن يطيعوه ويتبعوا أمره؛ فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته.
• وقد توجَّه الخطاب إلى صفوة البشر من الأنبياء والرسل بالمداومة على العمل؛ كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]، وقال تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].
• وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على الأعمال؛ فعن علقمة قال: سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال: قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عملُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يخص شيئًا من الأيام؟ قالت: ((لا، كان عمله دِيمةً، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله))، وتقول رضي الله عنها: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمِل عملًا أثبته))؛ فما ترك الصلاة في حال من الأحوال، ولا ترك قيام الليل، وكان يصوم الاثنين والخميس، وكان يقوم حتى تتفطر قدماه، وكان يذكر الله تعالى في كل أحيانه.
• وتأمل إلى حياته صلى الله عليه وسلم منذ البَعثة إلى الوفاة؛ عملٌ وعبادة، وجهاد وغزوات، وتبليغ لدين الله تعالى حتى توفاه الله تعالى.
• وكان يتوجه بالنصح والإرشاد لخواصِّ أصحابه بضرورة المداومة على الأعمال الصالحة؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبدالله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل»، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده إنه لأشد تفلُّتًا من الإبل في عقلِها».
• فإن العبد من عباد الله لا ينفك أبدًا عن عبادة الله تعالى؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألَّا تقوم حتى يغرسها، فلْيَغْرِسْها».
الوقفة الثانية: ثمرات المداومة على الطاعات:
1- أنها من صفات الملائكة الأبرار؛ كما قال تعالى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19، 20]، وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، وقال الله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 164 - 166]؛ قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى مخبرًا عن ملائكته: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165] لله لعبادته، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 166]؛ يعني بذلك المُصلُّون له".
وفي الحديث: «ما في السماء موضعُ قدمٍ إلا عليه ملَك ساجد أو قائم»، وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترَون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَتِ السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع، إلا وملَك واضع جبهته ساجدًا لله»؛ ولهذا قد شُرع لنا التشبه بهم في كثرة طاعتهم وحسن عبادتهم؛ كما جاء في الحديث: «ألَا تصُفُّون كما تصف الملائكة عند ربها؟ يُتِمون الصفوف الأولَ فالأول، ويتراصُّون في الصف».
2- أنها️ معنى من معاني الاستقامة على الدين؛ ففي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: «قل: آمنت بالله، ثم استقم».
3- أنها من علامات قبول العمل؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]؛ فقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألَّا يُقبَل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات».
4- أنها من علامات محبة الله تعالى للعبد؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سدِّدوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يُدخل أحدَكم عملُه الجنةَ، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ»، وعنها أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أيُّ العمل أحب إلى الله؟ قال: «أدومه وإن قل»؛ قال النووي رحمه الله: "فيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرًا من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة"، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه...».
5- أنك لن تعدم أجرها وثوابها عند العجز عنها؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرئ تكون له صلاةٌ بليلٍ، فغلبَهُ عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه»، وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرِض العبد أو سافر، كُتِب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا».
6- أنها من أسباب ضمان الخاتمة الحسنة؛ فمن شابَ على شيء مات عليه، قضيةٌ من أخطر القضايا التي يجب أن تشغل بالَ كل إنسان؛ وهي الخاتمة، التي على ضوئها يتحدد مصير العبد يوم القيامة، فمن حافظ على الصلاة، فسيموت بالتأكيد عليها، وهكذا سائر الطاعات وأبواب الخير.
7- وتأمل معي هذه الثمرات للمداومة على الأعمال: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
كيف تتحقق المداومة؟
1- اللجوء إلى الله تعالى بالتضرع والدعاء؛ قال الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، وجاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرُّشد»، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول: «يا مُقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك»، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «فسَلُوا الله أن يجدِّد الإيمان في قلوبكم»، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ونعوذ بك من الحَور بعد الكَورِ».
2- الاقتصاد في العبادة والمداومة ولو على القليل لضمان الاستمرار؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالعمل بما تُطيقون»؛ فالحقيقة أنك لن تكون بنفس مستوى شهر رمضان، فحافِظ ولو على القليل وتذكَّر: «أدومه وإن قل».
أما التطبيق:
الصلاة: فعليك بالمحافظة على الفرائض والواجبات، والمحافظة على الرواتب، والمحافظة على الوتر، ولا تنسَ صلاة الضحى.
القيام: ولو ركعتين في أي جزء من الليل.
الصيام: ولو ثلاثة أيام من كل شهر.
القرآن: ورد يوميٌّ من القرآن ولو كان يسيرًا.
الذكر: الأذكار الموظَّفة، وأذكار الصباح والمساء، والمحافظة على وِرْدٍ ثابت من الأذكار المُطلقة.
الدعاء: باب مفتوح في رمضان وفي غيره.
الصدقات: ولو ما يعادل شق تمرة في الأسبوع مرة.
3- الخوف من سوء الخاتمة؛ ففي السلسلة الصحيحة وقال: حديث إسناده صحيح على شرط الشيخين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يُختم له؛ فإن العامل يعمل زمانًا من دهره -أو برهةً من دهره- بعمل صالح، لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملًا سيئًا، وإن العبد لَيعمل زمانًا من دهره بعمل سيئٍ، لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملًا صالحًا، وإذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله قبل موته، فوفَّقه لعمل صالح، ثم يقبضه عليه»؛ فكم من مجتهد في بداية عمره ثم انتكس! فالعبرة بالخواتيم.
4- البعد عن أسباب الغفلة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من ترك ثلاثَ جُمَعٍ من غير عذر، طبع الله على قلبه».
5- مصاحبة أهل الاستقامة والمداومة؛ كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
6- مطالعة سِيَرِ سلفنا الصالح:
• فهذا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما علمه النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما، فسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمَدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم»، فقال عليٌّ رضي الله عنه: "فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليلةَ صِفِّين، فإني ذكرتها من آخر الليل، فقُلتُها".
• وهذا بلال بن رباح رضي الله عنه؛ كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: «يا بلال، حدِّثني بأرجى عملٍ عمِلته في الإسلام؛ فإني سمعت دَفَّ نعليك بين يدي في الجنة»، قال: ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا، في ساعة ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصليَ)).
• وهذا ابن عمر رضي الله عنهما يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل عبدالله، لو كان يصلي بالليل، قال سالم: فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلًا».
• وعندما سمع دعاء الاستفتاح قال: "فما تركتهن منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم".
• وهذا عبدالرحمن السلمي عندما روى حديث: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، قال: "فما زلت أعلِّم الناس القرآن منذ أن سمعت ذلك".
• وهذا ابن المسيب إمام التابعين رحمه الله، حافظ وداوم على تكبيرة الإحرام أربعين سنة؛ وما ذاك إلا للحرص والمداومة على الأعمال.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من المداومين على الطاعات، وأن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
___________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي
- التصنيف: