التواصي بالصبر

منذ يوم

مِن العبادات المَنسيّة في الأزمنة الصعبة، عبادة (التواصي بالصّبر) وما يستتبعها من أشكال تكلّف الصبر وإكراه النفس عليه، ومثلها المُصابرة ووزنها الصرفيّ المُفاعلة، وما تُمليه من المُشاركة والمُبالغة والتكرار.

مِن العبادات المَنسيّة في الأزمنة الصعبة، عبادة (التواصي بالصّبر) وما يستتبعها من أشكال تكلّف الصبر وإكراه النفس عليه، ومثلها المُصابرة ووزنها الصرفيّ المُفاعلة، وما تُمليه من المُشاركة والمُبالغة والتكرار. وأقصد تحديدًا الصبر المُتبادَل، وأن يُصبِّر الإنسان نفسَه وغيره.

يشيع حتّى في المُمارسة العيادية، عند هذه النقطة من الزمان، من حادثة الإبادة الوَحشية، انهيار ذوات كثيرة، وقد حُقّ لها، بعد تطاول الأزمان، وتحوّل الإبادة لفعل يوميّ عِوَض أن تكون مسألة مُؤقّتة كان ينبغي لها أن تتوقّف منذ زمان بَعيد، أو حتّى كان ينبغي لها أن لا تحدث بالأساس.

وبات هواء النّاس حول العالَم مُسمّم بالدّم، وطعامهم نكهته الشعور بالذنب، وهُم يعرفون أنّ مجزرةً تحدث على بُعد كيلومترات من مُدنهم وعواصمهم. وهُنا نحنُ بحاجة لأدبيات جديدة حول (مُلازمة الإبادة) أو العيش مع الإبادة، وهذه ليست بشيء أمام آلام ودماء مَن يرزحون تحت وابل النيران والصواريخ والقصف. ولكنّها محاولة لالتقاط المعاناة التي يعيشها مَن يعنيه أمر أخوته، ومَعنى أن تكون أبًا في الإبادة، وأمّا أثناء الإبادة، ومُعالِجًا في الإبادة، وتاجرًا أثناء حصول الإبادة.

وقد أرشدني صديق أعزّه وأُجلّه، إلى الثُلُث الأخير من سورة آل عمران، وقد وجدتها أشبه ببروتوكول ودليل واضح للحيارى والتائهين من المؤمنين في أزمنة الهزيمة. وهي آيات لا تنضبّ قوّتها في بثّ العزيمة وإحياء النفوس، وقد التقطت أربعة أبعاد رئيسية تمثّلها التوصيات الإلهية للمؤمنين:

1. استعادة الشعور بالعُلُو الحتميّ والاستعلاء الحضاري.

2. ضرورة الصبر والاصطبار والتواصي به والتماسك الذاتي.

3. ضرورة المرابطة وإحسان العمل فيما تُجيد ومواصلته.

4. وإخلاص النيّة من هذا كلّه بغاية التقوى وتجديدها.


وأورد العلّامة السعديّ في مَعرِض تفسيره لآية (وتواصو بالصبر) أنّ من أبعاد هذا الصبر: التواصي بالصبر على أقدار الله المُؤلمة. 

أمّا ابن القيّم رحمه الله، فقد ذكر مَعانٍ جميلة في المُصابرة، منها:

• المُثابرة في إنجاز الأعمال والمواظبة عليها.
• متابعة الأعمال وعدم اليأس من إنجازها.
• انتظار الفرج.

إنّ انحياز عموم النّاس نحو التشاؤم واليأس في هذه الأوقات، مسألة طبيعية للغاية، بل هي نتاج طبيعي لإنسانيتنا جميعًا. هذه أيّام صعبة على الجميع، أيّام مُتعِبة ومُتعَبة كما يقول صديق آخر أعزّه.

ومع هذا فإنّ كُل إنسان بحسب موقعيته، في أسرته أو مجتمعه أو أصدقائه مُطالَب بطريقة أو بأخرى بأن يَرعى مَن حولَه ويُحاول تثبيتهم ودعمهم في نفوسهم ووجدانهم بالإيمان والأمل، والصبر والتصبير وهذا موقف غاية في النُبُل الأخلاقي، ولا علاقة له ومُنفَصِل كامل الانفصال عن قضايا شبيهة أخرى مثل الوعود الكاذبة أو الأوهام الجميلة.

وقد قرأتُ مقالة بديعة للمفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، بعنوان (ضد التشاؤم) وهي وإن كانت قد طُرحِت في سياق مختلف تمامًا، إلّا أنّني استلهم الحِكمة التي يحملها سؤاله الجوهريّ، حينَ تساءَل في مقالته: ما الفرق بين النُّخَب وباقي النّاس إن كانت النُخَب ستنهزم أيضًا في الأوقات الصعبة والظروف العصيّة؟ وما الفائدة في أن تكون مُفكِّرًا أو مُثقّفًا إن كنت ستفرح في أوقات الرخاء وستتحطّم في أوقات الانسداد التاريخيّ؟

وأفضل استعارة وتصوير لتخبّطات الواقع وأثرها على مواقف الإنسان، ما عابه القرآن على المُنافقين، حين منحنا استعارة تصويرية في سورة البقرة، وأنّ من أساليبهم في الاهتداء:

مَنهَج المَشي في البرق:

وهؤلاء كما وصفهم القرآن (كُلّما أضاء لهم مَشوا فيه) ولا يَمشون إلّا حين يُضيء لهم البَرق، أيّ إلّا حين يكون الواقع مُطابقًا لما يرغبونه من إيمانهم، وقد ذكر الطبريّ في تفسيره:

 يَعني أنّ البرق كلما أضاء لهم، وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنّما أراد بذلك: أنّهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء، وإصابةِ الغنائم في المغازي، وكثرة الفتوح، ومنافعها، والثراء في الأموال، والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم!

ومن أجل ذلك، وجدتني منحازًا لترجمة الكُرّاسة السابقة أعلاه، في محاولة لإعادة التفكير في ممكنات الفعل، وضرورة استعادة الأمل، وإعادة تعريف السياسة الحَسَنة بوصفها منطق إدارة الخيبات والانعتاق منها، والسياسيّ الجيّد هُو مَن يُحسِن التقاط الفُرصة من بين الشواش الذي تفرضه علينا حالة اللايقين، وأنّ درس التاريخ يُعلّمنا أنّنا يمكننا التعلّم من خيباتنا فالخيبات تُنتج مطالب جديدة، وظروف جديدة، تمنح الساعين للإصلاح والتغيير دَفعة وطاقة جديدة.

والله غالبٌ على أمره

_____________________________________________
الكاتب: محمود أبو عادي

  • 1
  • 0
  • 70

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً