بعد رحيل العشر الأول
منذ 2004-10-21
ها هي العشر الأول من رمضان رحلت أو أوشكت على الرحيل ، وثمة حديث يخالج النفس في ثنايا هذا الوداع ، تُرى ما ذا حفظت لنا ؟ وما ذا حفظت علينا ؟ إن ثمة تساؤلات عريضة تبعثها النفس في غمار هذا الوداع .
- أول هذه التساؤلات كم تبلغ مساحة هذا الدين من اهتماماتنا ؟ هل
نعيش له ؟ أم نعيش لأنفسنا وذواتنا ؟ كم نجهد من أجله ؟ كم يبلغ من
مساحة همومنا ؟ إن العيش في حد ذاته يشترك فيه الإنسان مع غيره من
المخلوقات ، ولا ينشأ الفرق إلا عندما تسمو الهمم ، وتكبر الأهداف .
وعلى أعتاب العشر الثانية آمل ألا يكون نصيبي ونصيبك قول الله عز وجل
{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف }
.
فالسابقون مضوا والسير حفظت لنا قول بكر بن عبد الله : من سره ينظر إلى أعلم رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا أعلم منه ، ومن سره أن ينظر إلى أورع رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ابن سيرين إنه ليدع بعض الحلال تأثماً ، ومن سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركناه فلينظر إلى ثابت البناني فما أدركنا أعبد منه ، ومن سره أن ينظر إلى أحفظ رجل أدركناه في زمانه وأجدر أن يؤدي الحديث كما سمع فلينظر إلى قتادة .
وليت شعري أن نكون وإياك أحد هؤلاء .
- سؤال آخر يتردد : حرارة الفرحة التي عشناها في مقدم رمضان تساؤلنا
: هل لا زالت قلوبنا تجل الشهر ؟ وتدرك ربيع أيامه ؟ أم أن عواطفنا
عادت كأول وهلة باردة في زمن الخيرات ، ضعيفة في أوقات الطاعات ، ورحم
الله سلفنا الصالح فلكأنما تقص سيرهم علينا عالماً من الخيال حينما
تقول : قال الأوزاعي : كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كانت
لأحد من التابعين ، لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة ، عشرين منها
لم ينظر إلى أقفية الناس . وكانت امرأة مسروق تقول : والله ماكان
مسروق يصبح ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام ، وكنت
أجلس خلفه فأبكي رحمة له إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك
الصلاة ، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف كما يزحف البعير من الضعف
.
قال أبو مسلم : لو رأيت الجنة عياناً أو النار عياناً ما كان عندي مستزاد ، ولو قيل لي إن جهنم تسعّر ما استطعت أن أزيد في عملي .
وكان يقول : أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه ، والله لأزاحمهم عليه حتى يعلموا أنهم خلّفوا بعدهم رجالاً .
وفي ظل هذه الأخبار تُرى كم من صلاة في الجماعة ضاعت ؟ وكم نافلة في صراع الأعمال تاهت ؟ تُرى كم من لحوم إخواننا هتكناها بأنيابنا ؟ تُرى كم هي الخيانة التي عاثتها أعيننا في رحاب الحرمات . كم خطت أقدامنا من خطو آثم ؟ كم ، وكم ، من عالم الحرمات هتّكت فيه الأسوار بيننا وبين الخالق ؟ والمعصية أياً كانت ، حتى لو عاقرناها في ليالي رمضان فلا تبقى خندقاً تحاصركم ، وهي كما قال بعض العلماء :
( أي خلال المعصية لا تزهدك فيها ؟ الوقت الذي تقطعه من نفيس عمرك حين تواقعها ، وليس يضيع سدى ، بل يصبح شؤماً عليك ؟ أم الأخدود الذي تحفره في قلبك وعقلك ثم تحشوه برذائل الاعتياد والإلف السيء والإدمان الخبيث ، والذكريات الغابرة التي يحليها لك الشيطان ليدعوك إلى مثلها ، ويشك إليها ؟ أم استثقال الطاعة والعبادة والملل منها وفقد لذتها وغبطتها ، أم اعراض الله عنك وتخليته بينك وبين نفسك حتى وقعت فيما وقعت ، أم الوسم الذي تميزك به حين جعلتك في عداد الأشرار والفجار والعصاة ، أم الخوف من تحول قلبك عن الإسلام حين تجد حشرجة الموت وكرباته وغصصه ، فياولك إن مت على غير ملة الإسلام ! )
- سؤال ثالث يتردد معاشر الدعاة والمصلحين والمربين عُدوا لي بارك
الله فيكم في شهر رمضان فقط : ما ذا قدمتم لمجتمعاتكم من خير ؟ دينكم
الذي تتعبدون به هل نجحتم في طريقة عرضه ؟ فالبائع ينجح بقدر ما يحسن
في طريقة العرض ، وأنتم أولى هؤلاء بحسن الطريقة ، ونوعية التقديم .
مجتمعاتكم بكل من فيها ما ذا قدمتم لها ؟ مسجد الحي ، وجيران البيت ،
وأقارب الأسرة ، أولى الناس بمعروفك فأين هم من مساحة اهتماماتك
؟
أسئلة تتردد على الشفاه ..
أو ليس رمضان فرصة سانحة للإجابة عنها ؟
أملي أن يكون ذلك .
وكل ما أرجوه أن لاتخرج نفسك أخي الفاضل من قطار الدعاة والمصلحين والمربين أياً كنت ، وفي ظل أي ظروف تعيش ، فالمسؤولية فردية. وعندما نحسن فن التهرب من المسؤولية نكون أحوج ما نكون إلى من يأخذ بأيدينا ، ويحاول إخراجنا من التيه الكبير .
يقول أبا إسحاق الفزاري : ( ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري ، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة ، وأما الثوري فكان رجل خاصة ، ولو خيّرت لهذه الأمة لا خترت لها الأوزاعي ) .
- وأخيراً : رحلت العشر الأول ولئن كنا فرطنا فلا ينفع ذواتنا بكاء
ولا عويل ، وما بقي أكثر مما فات ، فلنري الله من أنفسنا خيراً ،
فالله الله أن يتكرر شريط التهاون ، وأن تستمر دواعي الكسل ، فلقيا
الشهر غير مؤكدة ، ورحيل الإنسان مُنتظر ، والخسارة مهما كانت بسيطة
ضعيفة فهي في ميزان الرجال قبيحة كبيرة . فوداعاً ياعشر رمضان الأول ،
سائلاً الله تعالى أن يكتب لك النجاة ، وأن يجعلك في عداد الفائزين ،
وأن يعينك على ما بقي من شهر الخير . والله يتولاك .
المصدر: موقع صيد الفوائد
- التصنيف: