التغابن المعرفي

منذ 2025-06-30

إن أعظم الحجب عن الله ليست الجهالة، بل الغرور بالعلم المنزوع عن خضوع العبودية، فكل علمٍ لا ينتهي بك إلى سجدة، قد ينتهي بك إلى تهكّم، ثم هلاك.

{فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئونَ} [غافر: ٨٣]

{ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَت تَأتيهِم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَقالوا أَبَشَرٌ يَهدونَنا فَكَفَروا وَتَوَلَّوا وَاستَغنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَميدٌ} [التغابن: ٦]

ليست الفاجعة أنهم جُهّال، بل أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، فاستكفوا به عن البينات، وظنّوا أن ما بأيديهم من مناهج التحليل، وأطر الفلسفة، ونماذج الاقتصاد السلوكي، ونظريات علم النفس الاجتماعي، يُغنيهم عن هُدى الوحي، ويُعفيهم من مقام السجود للنص للشرعي، لم يكن الصدّ عن سبيل الله نتاج شبهة مُغلِقة، بل نتاج غواية عقليةٍ ترى في أدواتها الكفاية، وتستنكف أن تُذعن لقولٍ لا ينبعث من حقلها المعرفي.

وهنا تتجلّى إحدى أعظم صور “التغابن” التي سُمّيت بها السورة: تغابنٌ بين من باع اليقين بالظن، وبين من اشترى آراء البشر بعهد الله، بين من اعتصم بالبيانات، ومن استغنى بها عن البينات، ولم يسخروا من الحق جهلًا، بل سخروا منه ثقةً بالذات المعرفية، وغرورًا بالمنهجية الأكاديمية، وتعاليًا على التلسيم النص الشرعي، فاستُدرجوا إلى مصيرهم من حيث فرحوا، ونزل بهم العذاب من حيث استعلوا، {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.

وهكذا يُفهم أن أعظم الحجب عن الله ليست الجهالة، بل الغرور بالعلم المنزوع عن خضوع العبودية، فكل علمٍ لا ينتهي بك إلى سجدة، قد ينتهي بك إلى تهكّم، ثم هلاك.

  • 4
  • 1
  • 65

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً