منهج القرآن في بيان الأحكام

منذ 21 ساعة

وقد اهتم العلماء باستخراج منهج القرآن في بيان هذه الأحكام من حيث: الألفاظ والصيغ، أساليب العرض، التقسيم والترتيب.

 

      تنقسم الأحكام الشرعية، إلى أحكام العبادات، أحكام الأسرة، أحكام المعاملات المالية، أحكام العلاقات الدولية ، أحكام الجرائم والعقوبات... إلخ

وقد اهتم العلماء باستخراج منهج القرآن في بيان هذه الأحكام من حيث: الألفاظ والصيغ، أساليب العرض، التقسيم والترتيب.

والتعرّف على هذا المنهج له أهميّةً كبيرةً للفقيه والمتفقه ، إذ يعد أحد القواعد المهمة والمقدمات الضرورية  لفهم النص الشرعي واستنباط الحكم الفقهي منه بشكل صحيح، فهو يرشد إلى العلّة التي يدور حولها الحكم ، وكذلك إلى الحِكمة والمقاصد العليا لتشريع الأحكام الفقهية .

وفي السطور التالية لمحة موجزة عن هذا المنهج:

     أولًا- لا يوجد حكم شرعي إلا وأصله التشريعي في القرآن:

     أنزل الله تعالى كتابه ليكون أصل التشريع الأول بلا منازع، وقد دل الاستقراء التام لأصول الشريعة وفروعها على أنه لا يوجد حكم شرعي من أصول الدين العملية إلا وأصله في القرآن ، ولهذا قال الله تعالى في وصف القرآن: { {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} } [النحل: 89] ، يقول الشيخ العثيمين (المتوفى: 1421هـ): فما من شيء يحتاج الناس إليه في معادهم ومعاشهم إلا بينه الله تعالى في كتابه إما نصا، أو إيماء وإما منطوقا، وإما مفهوما.

    وقد جاء بيان القرآن للأحكام على قسمين:

القسم الأول: البيان التفصيلي لبعض الأحكام ، مثل أصول العبادات، وأحكام المواريث، وكيفية الطلاق وعدده، والمحرمات من النساء، وكيفية اللعان بين الزوجين والكفارات، قال سبحانه: {{كتاب أُحكمت آياته ثم فُصِّلت من لَدُن حكيم خبير}} [هود: 1]. وقال عز وجل: { {وقد فَصَّلَ لكم ما حرم عليكم}} [الأنعام: 120]. وقوله تعالى: { {وهو الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}} [الأنعام: 114]، أي : موضَّحًا فيه الحلال والحرام، والأحكام الشرعية، وكل ما يحتاج إليه من شرائع الدين.

والحكمة من البيان التفصيلي أن هذه الأحكام إما أنها تعبدية (أي توقيفية أو سماعية)، لا مجال للعقل فيها، ولا يصح فيها الاجتهاد، وإما أنها أحكام معقولة لمصالح ثابتة لا مجال لتغييرها بتغير الزمان.

القسم الثاني: أن يكون أصل الحكم في القرآن الكريم قد ورد مجملا بطريقة الإشارة أو العبارة،  فتقوم السنة النبوية بتكميل بقية أحكامه، مثل أحكام العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج وكذلك أحكام المعاملات، مصداقا لقول الله تعالى: {{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} } [النحل: 44]، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بيَّن القُرآن بلَفْظه ومَعناه، سَواء بيَّنه بقوله أو بفِعْله.

     والحكمة من هذا الإجمال أمران:

    الأمر الأول: أن يترك للنبي صلى الله عليه وسلم تفصيل ما أُجمِل من الأركان الخمسة، وذلك لأنَّ العبادات هي لُبُّ الدين، و قوام الجماعات؛ وروح التعاون بين الناس بعضهم مع بعض.

    ولهذه المعاني في العبادات، وعموم تطبيقها على كل المؤمنين، كان لا بُدَّ من تربية عملية عليها، وقدوة حسنة في تنفيذها، وأسوة من الرسول في القيام بها، وأن تتوارث تلك الأسوة الأجيال، وتكون مع القرآن اتصال الرسالة المحمدية، ولذلك تثبت أحكام العبادات التفصيلية بسنة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - المتواترة التي عرفها المسلمون جمعًا عن جمع باقية إلى يوم القيامة([1]).

الأمر الثاني: أن يترك لعلماء الأمة وضع التفاصيل التي تحقق أغراض الشريعة وأهدافها العامة، وتتفق مع مصالح الناس وتطور الأزمان واختلاف البيئات، وهذا النهج مَعلم من معالم خلود الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

ثانيًا- التصريح بأصول الواجبات والمحرمات:

المتأمل في منهج القرآن يلحظ أمرين:

الأول: أن الشارع سمى أصول الواجبات والمحرمات بأسمائها صراحة، ولم يُـكَنِّ عنها إيماءً أو إشارة، ومعلوم أن التصريح أقوى طرق الدلالة، وأن المنطوق أولى من المفهوم.

الثاني: تبشيع أمر المحرمات وتغليظ عقوبتها، والأمر بعدم قربانها:

ففي أمر السرقة؛ قال  تعالى: { {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} } [المائدة: 38].

وفي أكل مال اليتيم وظلمه؛ قال سبحانه وتعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} } [النساء: 10].

وفي الربا؛ قال عزَّ وجلَّ: {{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ... إلى قوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} } [البقرة: 275، 276].

وفي منع الزكاة؛ قال سبحانه وتعالى: {{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}} [آل عمران: 180]، وقال جلَّ وعلا: { {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ...}} الآيات [التوبة: 34، 35].

ونفس الشيء في أمر الزنا والقذف وقتل النفس.

ثالثًا-دلالة القرآن الكريم على الأحكام:

من المعلوم أن جميع نصوص القرآن الكريم قطعية الثبوت، أما من حيث دلالتها على ما تضمنته من أحكام فتنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: النص القطعي الدلالة: هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، ومن أمثلته الآيات التى احتوت على تقادير أو أعداد كقوله تعالى: {( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ الآية ) } [النساء: 12].

فهذا النص يفيد أن نصيب الزوج من ميراث زوجته هو النصف، وذلك عند عدم الولد، وهذه الإفادة قطعية لا تحتمل تأويلا ولا يفهم منها معنى غيره.

وكذلك الأمر فى قوله تعالى: {(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ)} [2: النور]، فجريمة الزنا إذا توفرت أركانها وشروطها، وانتفت موانعها وكان الزاني غير محصنٍ، فحينئذٍ تكون العقوبة هي الجلد مائة جلدة، وهذه دلالة قطعية ليست قابلة للاجتهاد فتخفف أو تُشدد.

القسم الثاني: النص الظني الدلالة: وهو الذى يكون محتملا لأكثر من معنى، كقوله تعالى:  {(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ )} (البقرة: 228)،  فلفظ القُرْء مشترك فى اللغة بين معنيين هماالطهر والحيض، ومن هنا اختلف الفقهاء فى عدة المطلقة هل هى ثلاثة أطهار؟ أو ثلاث حيضات؟

 وهذا النوع يكثر فيه الخلاف، وهو خلاف مقبول ما دام ضمن قواعد الاستنباط وأُسس الشريعة.

رابعًا-  عدم التزام وحدة الموضوع في بيان الأحكام الفقهية:

لم ينهج القرآن في ذكره لآيات الأحكام منهج الكتب المؤلفة، التي تذكر الأحكام المتعلقة بشيء واحد في مكان واحد فقط وهو ما يسمى بالوحدة الموضوعية، وإنما جاءت آيات الأحكام مفرقة في مواضع مختلفة، أي على هيئة مقاطع وبشكل متناثر سواء كان ذلك في سورة واحدة او سور متعددة، فقد جاء الحديث عن فريضة الحج في أماكن متفرقة من سورة البقرة كما ورد الحديث عنه أيضا في سورة الحج ، ومثل ذلك في أحكام الصلاة والطلاق، ولهذا النهج إيحاء خاص، وهو:

- أن جميع ما في القرآن وإن اختلفت أماكنه، وتعددت سوره وأحكامه فهو وحدة عامة، لا يصح تفريقه في العمل، ولا الأخذ ببعض دون بعض.

- كون القرآن –كما يقول الطاهر بن عاشور (المتوفى : 1393هـ)- دعوة وموعظة وتعليمًا وتشريعًا باقيًا ومعجزة، وخوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع، فجاء على أسلوب مناسب لجمع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنما كانت عادتهم الخطابة والمقاولة (المباحثة والمجادلة)، فأودعت العلوم المقصودة منه في تضاعيف الموعظة والدعوة لأن أسلوبها قريب من أسلوب الخطابة، وكذلك أودع فيه التشريع، فلا تجد أحكام نوع من المعاملات – كالبيع - متصلاً بعضها ببعض، بل تجده موزعًا على حسب ما اقتضته مقامات الموعظة والدعوة، ليَخِفَّ تلقيه على السامعين، ويعتادوا علم ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه، فكانت متفرقة يُضَمُّ بعضُها إلى بعض بالتدبر"([2]).

خامسًا- ربط الكثير من الأحكام الفقهية بالعقيدة :

 لم يكن بيان القرآن لتلك الأحكام على سُنَّة البيان المعروف في القوانين الوضعية، بأن يذكر الأوامر والنواهي جافة مجردة عن معاني الترغيب والترهيب وإنما يسوقها مُحْتفة بأنواع من المعاني التي من شأنها أن تخلق في نفوس المخاطبين بها الهيبة والمراقبة، والارتياح والشعور بالفائدة العاجلة والآجلة، فيدعوهم كل هذا إلى المسارعة إليها، وامتثال الأمر فيها نظرًا إلى واجب الإيمان، وبداعية الخوف من عقاب الله وغضبه، والطمع في ثوابه ورضاه، وهذا هو الوازع الديني الذي تمتاز بغرسه في النفوس الشرائع السماوية، وهو بلا شك أكبر عون للسلطة التنفيذية في حصول الانضباط والتقيد باللوائح والتشريعات([3]).

ونجد هذا الربط واضحًا في سورة البقرة، وهي تمثل أولى مراحل التشريع في المدينة المنورة بعد الهجرة. فقد تكرر ذكر التقوى والأمر بها أكثر من ثلاثين مرة، كما هو الحال في آيات القصاص والصيام والقتال وأحكام الأسرة وأحكام الربا والمداينة.

سادسًا- التدرج في التشريع والبلاغ: نزل القرآن مُنجَّمًا حسب الوقائع والأحداث واستغرق نزوله ما يزيد على عشرين سنة، وفي العهد المكي لم يكن هناك إلا القليل جدًا من التشريعات والأحكام، حيث تركزت الدعوة في هذه المرحلة على إصلاح النفوس وتطويعها لشرع الله وتصحيح رؤية الناس للحياة والأحياء، وكان التدرُّج في فرض العبادات وفي تحريم المحرَّمات؛ مراعاةً لأحوال الناس، ورحمةً بهم، وتيسيرًا عليهم.

وهذا يقودنا إلى سؤال:

     إذا كان التدرج في التشريع - بمعنى الانتقال بحكم الشيء من التحريم إلى الإباحة أو العكس - قد انتهى بانتهاء الوحي واكتمال الدين، فهل التدرج في البلاغ والدعوة وتنزيل الأحكام سيظل موجودًا أم أنه انتهى هو الآخر؟

والجواب: أن التدرج في البلاغ والدعوة سيظل موجودًا - خاصة في أزمنة انتشار الجهل وغربة الإسلام وأهله - لأنه يتعلق بقابلية الناس لما يُدْعَون إليه، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى: 728هـ) هذا الأمر بيانًا شافيًا، فقال رحمه الله:

"العالِم في البيان والبلاغ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخَّر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا إلى بيانها... فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا فشيئًا بمنزلة بيان الرسول لما بُعِثَ به شيئًا فشيئًا، ومعلوم أن الرسول لا يُبَلِّغُ إلا ما أَمْكَنَ عِلْمُهُ والعمل به، ولم تأت الشريعة جُمْلَةً، كما يُقَالُ: إذا أَرَدْت أَنْ تُطَاعَ فَأْمُرْ بِمَا يُسْتَطَاعُ، فكذلك المُجَدِّدُ لِدِينِهِ والمُحْيِي لِسُنَّتِهِ لا يُبَلِّغُ إلا ما أَمْكَنَ عِلْمُهُ والعمل به... ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فَرَضْنَا انتفاء هذا الشرط. فَتَدَبَّرْ هذا الأصل فإنه نافع"([4]).

نسأل الله أن ينفع بهذه المقالة جامعها وقارئها، إنه جواد كريم.

 

 

([1]) أصول الفقه، أبو زهرة (ص: 86).

([2]) التحرير والتنوير (3/157).

([3]) تاريخ التشريع الإسلامي، للشيخ مناع القطان (ص: 81-84).

([4]) مجموع الفتاوى (20/ 59).

أحمد عبد المجيد مكي

حاصل على درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية

  • 0
  • 0
  • 0

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً