التوكل دواء الاحتمال

منذ يوم

في خارطة الابتلاءات، ليس أشدّ على النفس من أن تُزاحمها الأسئلة المفتوحة دون جواب، وتُحيط بها الاحتمالات من كل جانب، دون أن تُبصر للحقيقة وجهاً واحداً تسكن إليه

في خارطة الابتلاءات، ليس أشدّ على النفس من أن تُزاحمها الأسئلة المفتوحة دون جواب، وتُحيط بها الاحتمالات من كل جانب، دون أن تُبصر للحقيقة وجهاً واحداً تسكن إليه، فالحقيقة، وإن كانت موجعة، تُسدل على النفس ستار الحسم، وتُقيم فيها مقام التصرف: إما بالتسليم، أو بالدعاء، أو بإتخاذ خطوات جادة لبر الأمان. أما الاحتمال؛ فذاك العالَم الرمادي الذي يُعطّل القرار، ويُجمّد التوكل، ويستهلك طاقة النفس في الدوران حول فرضيات لا قرار لها.

ولذا كانت ليلة الشك أطول من ليالي اليقين، لأن الزمن في ظلّ الاحتمال لا يُقاس بالدقائق، بل يُقاس بمقدار القلق الذي يسكن القلب. فالاحتمال يُنهك لأن فيه تعليقًا للعبودية، فهو لا يُقيم الصبر على مقام الحقيقة، ولا يُثمر الطمأنينة التي تُولد من الحسم، بل يترك القلب مشرّدًا بين المجهول والمعلوم، وذلك هو أشدّ أنواع الغربة: أن لا تجد في قلبك قرارًا تمضي فيه، ولا يقينًا تركن إليه.

وقد علمنا القرآن أن الطمأنينة لا تُولد من وضوح النتيجة، بل من الثقة بمن بيده النتيجة.

فإبراهيم عليه السلام لم يتردّد بين احتمال السلام والنار، بل نطق باسمٍ واحد في لحظة المصير:"حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ. كما صحيح البخاري، وموسى عليه السلام لم يتوقف عند احتمالات الغرق، بل قال بثبات لا يعرف الظن: “كلا إن معي ربي سيهدين”.

هذه هي القاعدة الإيمانية التي تُبطل سحر الاحتمال وتكسر شوكته: أن العبد لا ينجو بكثرة السيناريوهات، بل بواحدٍ منها: التوكل. ولا يطمئن بجمع الاحتمالات، بل بإسقاطها جميعًا بين يدي من لا يُخيّب من توكّل عليه، نحن لا نتعب من الأحداث، بل من تردّد القلب أمامها، ولا نحزن من المجهول، بل من غياب اليقين وقت مجيئه.

ولذلك فإن أوّل ما يجب على المؤمن في لحظة الاحتمال، ليس أن يطلب الجواب، بل أن يثبّت القلب على الثقة بالله قبل أن تتضح النتائج. فإن حصل ذلك، سقطت كل سيناريوهات الوجع، وصار الزمن ـ مهما طال ـ مطوّقًا بالسكينة، وصارت النتيجة ـ مهما اشتدّت ـ محمولةً على جناح الصبر الجميل.

فمن أراد النجاة من جحيم الاحتمال، فليبدّل سؤاله: من “ماذا سيحدث؟” إلى “من الذي بيده أن يُقدّر ما يشاء ويختار ما هو خير لي؟” وحينها فقط، يتفتّح في قلبه باب، كُتب عليه: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه”.

  • 1
  • 0
  • 0

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً