نعيــــمُ الجَــــنَّة
إنها دارُ السلامِ والأمان، ونهايةُ الآلامِ والأحزان، ومُنتَهى المطالبِ والآمال، ولأَجْلِهَا تُبذَلُ الدماءُ والأموالُ؛ إنها الجَنَّة!
عِبَادَ الله: إنها دارُ السلامِ والأمان، ونهايةُ الآلامِ والأحزان، ومُنتَهى المطالبِ والآمال، ولأَجْلِهَا تُبذَلُ الدماءُ والأموالُ؛ إنها الجَنَّة!
ونعيمُ الجَنَّةِ: أَجَلُّ مِمَّا يَخْطُر بالبالِ، أو يدورُ في الخيال! قال اللهُ عز وجل: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ: ما لا عَينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ»؛ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جزاءً بما كانُوا يعملون}[1] .
وهذهِ الجَنَّةُ: قد سَلِمَتْ مِن جميعِ المُنَغِّصَات[2]؛ فليسَ للمُتَّقِينَ فيها إِلَّا التَّنَعُّمُ الخَالِصُ الذي لا تَشُوبُه ذَرَّةُ كَدَرٌ[3]، ولهذا وصَفَهَا اللهُ بـ{جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.
قال ابنُ القَيِّم: (وإنَّما تَخْلُصُ الرَّاحَةُ واللَّذَّةُ والنَّعِيمُ في دارِ السلامِ؛ فأَمَّا في هذه الدار: فَكَلَّا ولَـمَّا!)[4].
وإذَا رَمَيْتَ بِبَصَرِكَ في الجنة؛ رَأَيتَ نَعِيمًا لا يُوصَفُ، ومُلْكًا كبِيرًا لا يُقَادَرُ قَدْرُهُ[5]؛ إنهُ مشهدٌ لا تَصِفُهُ الكلمات، ولا تَحْوِيهِ العبارات! قال عز وجل: {وإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا}. وثَبَتَ في الحديثِ: أَنَّ اللهَ تعالى يقولُ لأَدْنَى أَهلِ الجنةِ مَنزِلَةً: «اذْهَبْ فَادْخُلِ الجنةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنيا وعَشَرَةَ أَمثَالِهَا»[6]. قال ابنُ كثير: (فإذا كانَ هذا عَطَاؤُهُ تعالى لِأَدنَى مَنْ يكُونُ في الجَنَّةِ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هو أَعلَى مَنْزِلَةً؟!)[7].
وإذَا رَأَيْتَ أهلَ الجَنَّةِ: عَرَفْتَ أَنَّهُم مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ؛ مِمَّا تَرَى في وُجُوهِهِم مِنَ الجمالِ والنُّورِ، والبهجةِ والسرور![8] قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}. قال السعدي: (أي بهاء النعيمِ ونضارته ورونقه؛ فإنَّ توالي اللذة والسرور، يُكْسِبُ الوجهَ نورًا وحُسنًا وبهجة)[9].
ومِن نعيمِ أهلِ الجنة: أنهم (يُلْهَمُونَ التسبيحَ والتحميدَ، كما تُلْهَمُونَ النفَسَ)[10].
قال شيخُ الإسلام: (هذا التسبيحُ لَيْسَ مَنْ عَمَلِ التَّكْلِيفِ، بَلْ هو من النَّعِيمِ الذي تَتَنَعَّمُ بِهِ الأنفسُ، وتَتَلَذَّذُ بِه!)[11].
ومِن نعيمِ الجنةِ: أنَّ كلَّ ما يشتهيهِ الإنسانُ فيها (ولو كان مِن أمورِ الدنيا)؛ فهو مُتَحِقِّقٌ له؛ قال ﷻ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}[12].
وجاء في الحديث: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أهلِ الجنةِ، سألَ رَبَّهُ أنْ يزرعَ فيها؛ فقال عزوجل: (ألَسْتَ فِيما شِئْتَ!)، قال: (بلى، ولكِنِّي أُحِبُّ أن أزرَع)، فأَذِنَ اللهُ له، فعِندَ ذلك قامَ الرجلُ ورَمى البذرَ على أرضِ الجنةِ، فنَبَتَ الزرعُ في الحال، فكانَ أمثالَ الجبال![13] ولم يَكُنْ بينَ بَذْرِ الزرعِ، وبينَ استوائِه وحصادِه؛ إلَّا كَلَمْحِ البَصَر!» [14]
قال ﷺ: «المُؤْمِنُ إذا اشْتَهَى الولدَ في الجنةِ: كانَ حَمْلُهُ، ووَضْعُهُ، وسِنُّهُ؛ في ساعَةٍ كما يَشْتَهِي»[15].
ومِنْ نعيمِ الجنة: أنها منزوعةُ الأخطارِ والأضرار، طاهرةٌ مِنَ الأكدارِ والأقذار؛ فإنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ لا يَتْفُلُونَ ولا يَمتَخِطُونَ، ولا يَبُولُونَ ولا يَتغَوَّطُونَ[16]؛ وحاجةُ أَحَدِهِم: عَرَقٌ يَفِيضُ من جُلُودِهِم مِثْلُ رِيحِ المِسكِ![17].
ونِسَاءُ الجنةِ: طاهراتٌ نَقِيَّاتٌ مِنْ كُلِّ أَذَى: كالحيضِ والنفاس، والغيرةِ والحسد! قال تعالى: {لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ}[18].
ونعيمُ أهلِ الجنة: ليسَ عن رَفْعِ ألمٍ أصابَهُم: فَلَيْسَ أَكْلُهُم عن جوع، ولا شُربُهم عن ظَمَأ، ولا تَطَيُّبُهم عن نَتَن[19]. قال ﷺ: «آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، ووَقُودُ مَجَامِرِهِمْ الأَلُوَّةُ»[20]. أي: ما يُوقَدُ بِهِ مَبَاخِرُهُم هو العُودُ الهِندِيُّ[21]. قال العلماء: (وهذا كُلُّهُ مِنَ اللَّذَّاتِ المُتَوَالِيَةِ، والشَّهَوَاتِ المُتَتابعةِ، وإِلَّا فلا تَلَبُّدَ لِشُعُورِهِم، ولا عُفُونَةَ لأَبدَانِهِم وثِيَابِهِم، بل رِيحُهُم أَطْيَبُ مِنَ المِسكِ؛ فلا حَاجَةَ لَهُم إلى التَّمشِيطِ والتَّبَخُّرِ؛ إِلَّا لِزِيَادَةِ الزِّينَةِ، والتَّلَذُّذِ بأنواعِ النِّعمة!)[22].
ومِنْ نعيمِ أهلِ الجنة: أنَّ اللهَ ضاعفَ لَذَّتَهُم، وزادَ في مُتْعَتِهِم؛ قال ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهلِ الجنةِ لَيُعطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ: في الأكلِ، والشُربِ، والجِمَاعِ، والشهوة»[23].
وأهلُ الجنةِ قد جَمَعُوا النعيمَ بحذافِيرِه! فَهُمْ جَمَعُوا بينَ لَذَّةِ القلبِ والجسد، وراحةِ الروحِ والبدن؛ وَهُمْ مع ذلك: آمِنُونَ من قَلَقِ الخروجِ والرحيل، والخوفِ مِنَ الفراقِ والتحويل! {لا يَمَسُّهُمْ فيها نَصَبٌ ومَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِين}.
ومِنْ نَعيمِ أهلِ الجنة؛ أنَّ اللهَ نَزَعَ الحسدَ من صدورِهم؛ حتى لا يَتَنَغَّصَ عَيْشُهُم[24].
قال عزوجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا}. قال ﷺ: «لا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ ولا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُم قَلْبٌ وَاحِدٌ»[25]. قال السعدي: (يَرَى كُلُّ واحدٍ منهم أنه لا فوقَ ما هو فيه مِنَ النعيمِ نعيم! فبهذا يَأْمَنُونَ من التحاسدِ والتباغض؛ لأنه قد فُقِدَتْ أسبابُه)[26].
ومِنْ نعيمِ الجنة: أنه ليسَ فيها حَرٌّ مُزعِجٌ، ولا بَرْدٌ مُؤلِمٌ، بل هي مِزَاجٌ واحدٌ، دائمٌ سَرمَدِيٌّ![27] {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا}[28].
ونعيمُ الجنةِ لا يَتَسَلَّلُ إليهِ المللُ والسَّأَمُ، ولا يُفْسِدُه طولُ الزمن؛ {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}. قال المُفَسِّرُون: (أي أَنَّهُم معَ هذا الخُلُودِ السَّرمَدِيِّ في الجنة، لا يختارون غيرَها، ولا يُحِبُّونَ سِوَاهَا، ولا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا عنها)[29].
وأعظمُ نعيمٍ لأهلِ الجنة: هو رُؤْيَتُهُم لِـ(وَجْهِ رَبِّ العِزَّة)، فإذا تَجَلَّى لَهُم ورَأَوهُ؛ نَسُوا ما هُم فيهِ مِنَ النعيمِ! قال ﷺ: "إذا دَخَلَ أَهلُ الجنةِ الجنةَ؛ يقول تعالى: «تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟»، فيقولون: «ألَم تُبَيِّضْ وُجُوهَنا، ألَم تُدْخِلْنا الجنةَ، وتُنَجِّنَا من النار؟!»، فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فما أُعْطُوا شيئًا أَحَبَّ إليهم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِم سبحانه وتعالى"[30]. قال العلماء: (رؤيةُ اللهِ هي الغايةُ القصوى في نعيمِ الآخرة، والدرجةُ العليا من عطايا اللهِ الفاخرة[31]، وهي الغايةُ التي شَمَّر إليها المُشَمِّرون، وتنافسَ فيها المتنافسون، وتسابقَ إليها المتسابقون، ولِمِثْلِهَا فليعملِ العاملون)[32].
عِبَادَ الله: فإنه لا يُوصَلُ إلى نَعيمِ الجنَّة، إلَّا بعدَ الصبرِ والمُشَقَّة! قال ﷻ: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}. قال بعضُ المُفَسِّرين: (فإنَّ في الصبرِ من الخُشُونَةِ، وحَبْسِ النفسِ عن شهواتِها؛ ما اقتَضَى أن يكونَ في جزائِهم مِن سعةِ الجنةِ، ونعومةِ الحرير؛ ما يقابلُ ذلك الحبسَ والخشونة)[33].
والنعيمُ لا يُدرَكُ بالنعيم: قال ابنُ القيِّم: (إِذا تَعِبَ العَبدُ قليلًا: استراحَ طويلًا، وإذا تحمَّلَ مشقةَ الصبرِ ساعةً: قادَهُ لحياةِ الأبد؛ وكلُّ ما فيهِ أهلُ النعيمِ المقيمِ: فهو صبرُ ساعة!) [34].
وكمالُ النعيمِ: بحسَبِ تحمُّلِ المشاقِّ في طريقِه[35]، ومَنْ سافرَ إلى الجنة: صبرَ في طريقِها على كلُّ مَشَقَّة! قال ﷺ: «حُفَّتِ الجنةُ بالمَكَارِه، وحُفَّتِ النارُ بالشهوات»[36]. قال السعدي: (فإنَّ الجنةَ أعلى المطالِب، وكُلَّمَّا عَظُمَ المطلُوبُ: عَظُمَتْ وسيلَتُه؛ فلا يُوْصَلُ إلى الراحةِ إلَّا بتَركِ الراحة)[37].
ونعيمُ الجنة: لا يَبْلَى ولا يَفْنَى! قال ﷺ: «مَنْ يَدْخُلُهَا: يَنْعَمُ ولا يَبْأَسُ، ويَخْلُدُ ولا يَمُوتُ؛ لا تَبْلَى ثِيَابُهُ، ولا يَفْنَى شَبَابُهُ!»[38].
هِيَ جنَّةٌ طابَتْ وطابَ نَعِيْمُهَـــــــا ** فَنَعِيْمُهَا باقٍ ولَيْسَ بِفَانِ
دارُ السَّلامِ وجنَّةُ المأوى ومَنْــــزِلُ ** عَسكَرِ الإيمانِ والقـــرآنِ
__________________________________________________________
[1] رواه البخاري (3244)، ومسلم (2824).
[2] انظر: تفسير السعدي (702).
[3] انظر: فتح القدير، الشوكاني (5/327).
[4] مفتاح دار السعادة (2/16).
[5] انظر: فتح القدير، الشوكاني (5/424).
[6] رواه البخاري (6571)، ومسلم (186).
[7] تفسير ابن كثير (8/299).
[8] تفسير البغوي (8/367).
[9] تفسير السعدي (916).
[10] رواه مسلم (2835).
[11] مجموع الفتاوى (4/330). باختصار
[12] انظر: فتح الباري، ابن حجر (5/27)، مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (8/385).
[13] رواه البخاري (2348).
[14] انظر: فتح الباري، ابن حجر (12/186).
[15] رواه الترمذي (2563)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
[16] صحيح مسلم (2835).
[17] روا أحمد (19269)، وصححه محققو المسند. قال ﷺ: (جُشَاءٌ ورَشْحٌ: كَرَشْحِ المِسكِ).
رواه مسلم (2835).
[18] انظر: تفسير ابن كثير (2/338)، تفسير السمرقندي (1/36).
[19] انظر: طرح التثريب، العراقي (8/268).
[20] رواه البخاري (3073)، ومسلم (2834).
[21] انظر: مرقاة المفاتيح، القاري (9/3581).
[22] انظر: مرقاة المفاتيح، القاري (9/3581)، التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، القرطبي (984). بتصرف
[23] رواه ابن أبي شيبة (33994)، وأحمد (19314)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1627).
[24] انظر: صيد الخاطر، ابن الجوزي (463).
[25] رواه البخاري (3073)، ومسلم (2834).
[26] تفسير السعدي (289). بتصرف
[27] تفسير ابن كثير (8/279).
[28] قال شيخُ الإسلام: (والجنةُ ليسَ فيهَا شَمْسٌ ولا قَمَرٌ، ولا ليلٌ ولا نهارٌ؛ لكنْ تُعْرَفُ البُكْرَةُ والعَشِيَّةُ؛ بِنُورٍ يَظْهَرُ مِنْ قِبَلِ العَرش). مجموع الفتاوى (4/312).
[29] تفسير البغوي (5/212)، تفسير ابن كثير (5/182). بتصرف
[30] وهي الزيادة التي ذكرها اللهُ في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وزِيَادَةٌ﴾. رواه مسلم (181).
[31] جامع الأصول في أحاديث الرسول (10/ 557).
[32] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (285).
[33] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (185).
[34] مفتاح دار السعادة (2/15).
[35] مفتاح دار السعادة (2/16).
[36] رواه مسلم.
[37] تفسير السعدي (150). باختصار
[38] رواه الترمذي (2526)، وأحمد (8030)، وصححه شعيب الأرنؤوط في تحقيقه على المسند.
_____________________________________________
الكاتب: تركي بن عبدالله الميمان
- التصنيف: