البلاء الخفي
البلاءُ سُنَّةُ الحياةِ الدنيا؛ ليَمِيْزَ اللهُ الخبيثَ مِنَ الطيب، والصادقَ مِنَ الكاذب {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
أمَّّا بعد: البلاءُ سُنَّةُ الحياةِ الدنيا؛ ليَمِيْزَ اللهُ الخبيثَ مِنَ الطيب، والصادقَ مِنَ الكاذب {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
والبلاءُ قد يكون بالضَرَّاء، وقد يكون بالسَرَّاء؛ قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
والبلاءُ بالسَّرَّاء؛ مِنْ أخطر أنواع البلاء؛ لأنه يأتي مُتَخَفِّياً تحتَ لِباس النِّعْمَةِ والزِّينة! فلا يَتَفَطَّنُ له إلا أولوا الألباب، ولا يُرَى إلا بعين البصيرة؛ قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا}.
والنبي ﷺ خافَ على أُمَّتِه مِنْ فِتْنَةِ السَرَّاء، أكثرَ مِنَ الضَرَّاء! ففي الحديث: «فَوَالله مَا الفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ علَى مَنْ قَبْلَكُمْ؛ فتَنَافَسُوهَا كَما تَنافَسُوهَا، وتِهْلِكَكُمْ كَما أهْلَكَتْهُمْ[1]» [2]. قال عبد الرحمن بن عوف: (ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ)[3].
وَمِنْ أنواع البلاء بالسَرَّاء: المال والبنون، والنساء والجمال، والصحة والفراغ، والمنصب والجاه ، وغيرها من النِّعَم!
والإنسانُ الموفَّق: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ؛ فَكَانَت خَيْرًا لَهُ[4]، وأَمَّا الإنسانُ المخذول: إن أصابته سَرَّاءُ: طغى واستكبر؛ فكانت شَرَّاً له!
وَلـَمَّا أَنْعَمَ اللهُ على نَبِّيِه سليمان عليه السلام {قال هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، وَلَـمَّا أَنْعَمَ اللهُ على قارون {قال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}.
وإِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ؛ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ[5]! قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.
الابتلاءُ بالضَرَّاء: قد يصبر عليه الكثير؛ لأنَّ الشِدَّةَ تَنْفُضُ عَنْ صاحِبِها غُبارَ الكِبْر والهوى؛ فعندئذٍ يَعْرِفُ قَدْرَ نَفْسِه، وحاجتَه إلى رَبِّهْ، فيتوجَّه إليه، ويتضرع بين يديه!
وأَمَّا الابتلاءُ بالسَرَّاء؛ فالصابرون عليه قليل! فإنَّ الرخاءَ يُنْسِي، والمتاعَ يُلْهِي، والثراءَ يُطْغِي، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور}، قال تعالى: {فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
اللهم اجعلنا عند النعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين
[1] قال ابن حجر: (مَضَرَّةَ الْفَقْرِ دُونَ مَضَرَّةِ الْغِنَى لِأَنَّ مَضَرَّةَ الْفَقْرِ دُنْيَوِيَّةٌ غَالِبًا، وَمَضَرَّةَ الْغِنَى دِينِيَّةٌ غَالِبًا) إلى أن قال: (فِتْنَةَ الدُّنْيَا مَقْرُونَةٌ بِالْغِنَى وَالْغِنَى مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي قَدْ تَجُرُّ إِلَى هَلَاكِ النَّفْسِ غَالِبًا وَالْفَقِيرُ آمِنٌ مِنْ ذَلِكَ) فتح الباري (11/245) .
[2] رواه البخاري (4015)، ومسلم (2961).
[3] رواه الترمذي وحسّنه (2464).
[4] رواه مسلم (2999).
[5] رواه أحمد في مسنده (17311).
- التصنيف: