علة حديث (الصراط أَدقُّ من الشعرة وأَحدُّ من السيف)

منذ 10 ساعات

«بلغنا أن الصراط يوم القيامة وهو الجسر يكون على بعض الناس أدق من الشعر، وعلى بعضهم مثل الدار والوادي الواسع»

 

روى الإمام مسلم في صحيحه (183) حديثًا طويلًا في صفة يوم القيامة من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه ذكر الجسر من غير وصفه بأنه أدق من الشعرة وأحد من السيف، ثم رواه مسلم من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد الخدري، وقال في آخره: قال أبو سعيد: «(بلغني أن الجسر أدقُّ من الشعرة، وأَحدُّ من السيف)» ، وهذا ظاهر أنه ليس عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رواه الإمام البخاري (7439) من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، وليس فيه هذه اللفظة، قال الحافظ البيهقي في شعب الإيمان (1/ 565، 566): "هذا اللفظ من الحديث لم أجده في الروايات الصحيحة، وروي عن زياد النميري عن أنس مرفوعًا: (الصراط كحد السيف)، وهي رواية ضعيفة، وروي بعض معناه عن عُبيد بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وجاء عنه من قوله، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (الصراط في سواء جهنم مدحضة مزلة كحد السيف المرهف)، وروي عن سعيد بن أبي هلال أنه قال: «بلغنا أن الصراط يوم القيامة وهو الجسر يكون على بعض الناس أدق من الشعر، وعلى بعضهم مثل الدار والوادي الواسع» ، فيحتمل أن يكون لشدة مروره عليه وسقوطه عنه يُشبَّه بذلك، والله أعلم"، انتهى كلام البيهقي رحمه الله.

وفي كلام البيهقي أن الذي قال: (بلغنا أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف) هو سعيد بن أبي هلال أحد أتباع التابعين، وليس الصحابي أبا سعيد الخدري، والذي في صحيح مسلم: قال أبو سعيد: بلغنا ...، وسعيد بن أبي هلال كنيته أبو العلاء، فلو صح كلام البيهقي فقد وقع تصحيف أو وهم من بعض الرواة في صحيح مسلم، فبدلًا من أن ينسب القول إلى سعيد نسبه إلى أبي سعيد، والأمر محتمل، والله أعلم، وعلى كلا الاحتمالين ليس الحديث مرفوعًا إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

وقد جاء ذكر وصف الصراط بأنه كحد السيف في ثلاثة أحاديث مرفوعة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفي ثبوت هذه اللفظة فيها نظر، وبيان ذلك فيما يلي:

الحديث الأول: قال الإمام أحمد في مسنده (24793) حدثنا يحيى بن إسحاق قال: أخبرنا ابن لَهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعًا، في وصف يوم القيامة، وفيه: (ولجهنم جسر أدق من الشعر، وأحد من السيف، عليه كلاليب وحَسَك)، قال الأرناؤوط في تحقيق المسند: "إسناده ضعيف بهذه السياقة"، قلت: ورواه أبو داود (4755) من طريق الحسن البصري عن عائشة مرفوعًا بنحو رواية أحمد، من غير وصف الجسر بأنه أدق من الشعر وأحد من السيف، وضعفه الألباني لعدم ثبوت سماع الحسن البصري من عائشة رضي الله عنها، وكذلك رواه ابن أبي شيبة (34406) مختصرًا من طريق الشعبي عن عائشة مرفوعًا من غير وصف الجسر بأنه أدق من الشعر وأحد من السيف.

الحديث الثاني: رواه الدارقطني في رؤية الله (37) من طريق قريش بن حيان قال: حدثنا بكر بن وائل عن الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله هل نرى ربنا عز وجل؟ قال: ((نعم، هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قلنا: لا. قال: ((هل تضارون في القمر ليلة البدر؟)) قلنا: لا ، قال: ((فإنكم ترونه كذلك))، ثم ذكر حديثًا طويلًا في وصف يوم القيامة، وفيه: ((ثم يُضرَب الصراط بين ظهراني جهنم، وهو كحد السيف))، وهذا الإسناد صحيح، لكن ذكر هذه اللفظة فيه شاذ، فالحديث في الصحيحين من حديث الزهري نفسه من غير ذكر هذه اللفظة، رواه البخاري (6573) ومسلم (182) كلاهما من طريق شُعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد عن أبي هريرة، ورواه البخاري أيضًا من طريق معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة، ورواه مسلم أيضًا من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عطاء عن أبي هريرة، وليس في جميع هذه الروايات عن الزهري وصف الصراط بأنه أحد من السيف، فأكثر الرواة وأحفظهم عن الزهري رووا الحديث من غير ذكر هذه اللفظة.

 الحديث الثالث: رواه الحاكم في المستدرك (8751) من طريق المنهال بن عمرو عن أبي عُبيدة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا في حديث طويل فيه: (الصِّراطُ كحَدِّ السَّيفِ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ)، قال الذهبي في تلخيص المستدرك للحاكم (4/ 632): "ما أنكره حديثًا على جودة إسناده!"، وذكر الدارقطني في كتاب العِلل (5/ 244) اختلاف الرواة في حديث ابن مسعود، فقد رواه بعضهم مرفوعًا، وبعضهم موقوفًا، وصحح الدارقطني أنه مرفوع، وهو الصواب، فهو بمعنى حديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة في وصف يوم القيامة، لكن لم يتكلم الدارقطني عن هذه اللفظة، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8992) من طريق عاصم عن زِرِّ بن حُبَيش عن ابن مسعود موقوفًا، ورواه الحاكم في المستدرك (3423) من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود موقوفًا، ورواه الدارقطني في رؤية الله (160) من طريق كُرْزِ بن وَبَرَةَ عن نُعَيم بن أبي هند عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود عن ابن مسعود مرفوعًا بلفظ: (ومضى النور بين أيديهم وبقي أثرُه مثل حدِّ السيف دحض مزلة)، ونحوه في المعجم الكبير للطبراني (9763) من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا، فهذه الرواية تبين أن ذكر حد السيف ليس وصفًا للصراط، بل لأثر مرور النور، وحديث ابن مسعود أصله في الصحيحين مطولًا ومختصرًا من غير ذكر أنه كحد السيف، يُنظر: صحيح البخاريُّ (6571) و (7511)، وصحيح مسلم  (186) و (187).

وقد جاء ذكر وصف الصراط بأنه كحد السيف في حديث موقوف على سلمان الفارسي، روى ابن أبي شيبة في المصنف (34195) والآجري في الشريعة (894) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: (يوضع الصراط وله حد كحد الموسى)، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 619): "إسناده صحيح، وله حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي"، وقد يقال: يحتمل أن سلمان أخذ ذلك من الإسرائيليات، وأخذه عنه بعض الصحابة والتابعين، والثابت في الحديث الصحيح المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصراط بقوله: « ((مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ))» [رواه البخاري (7439) ومسلم (183)] ، وكون الصراط دحضًا مزلة يبين أنه ليس كحد السيف، ولم يثبت في الأحاديث الصحيحة وصف الصراط بأنه كحد  السيف كما تقدم في كلام الحافظ البيهقي، والله أعلم، ونسأل الله أن يثبتنا عند المرور على الصراط، فالأمر شديد، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وللفائدة يُنظر رسالتي: آيات من القرآن الكريم تدل على المرور على الصراط، وهي منشورة بحمد الله في شبكة الألوكة.

 

محمد بن علي بن جميل المطري

دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن

  • 1
  • 0
  • 59

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً