في مدارات الفضل
إن الفضل الإلهي ليس لحظةً عابرة، ولا حالةً عارضة؛ بل تيار هادئ يسري في حياتنا، يشبه جدول ماء ينسلّ خفيةً بين الحقول، يروي ما جفّ، ويوقظ ما خمد.
إن الفضل الإلهي ليس لحظةً عابرة، ولا حالةً عارضة؛ بل تيار هادئ يسري في حياتنا، يشبه جدول ماء ينسلّ خفيةً بين الحقول، يروي ما جفّ، ويوقظ ما خمد.
وفي كل روحٍ تتماهى على الأرض، نصيبٌ من هذا الفيض، ولو بدا خافتًا في لحظةٍ ما.
وحين نتأمل كيف فُرِّقت النعم، ندرك حكمةً عليا ترى التنوّع ضرورة، والتفاوت شكلًا من أشكال التوازن.
قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا}
[النور: ٢١].
ولم يكن ذلك خفيًا على فلاسفة التأمل الإنساني؛ فـابن خلدون، حين تحدّث عن العمران البشري، رأى أن هذا التفاوت بين الناس في القدرات والطبائع ليس نقمة، بل ضرورة، قائلاً:
الإنسان مدنيٌّ بالطبع، ولا تقوم حضارته إلا بتفاوت الوظائف والمقامات.
وفي منحى آخر، اعتبر الفيلسوف جان جاك روسو أن التفاوت الطبيعي بين البشر – في الذكاء أو الحس أو القدرة – ليس في ذاته شرًّا، بل هو جزء من التركيبة الأصلية للحياة. إنما يكمن الخطر حين يتحوّل ذلك التفاوت إلى أداة قهرٍ اجتماعي. قال:
ليس التفاوت الطبيعي هو ما يُفسد الإنسان، بل تحويله إلى وسيلةٍ للتسلّط.
وما المال وحده بالنعمة، ولا الجاه وحده بالفضل؛ بل النعم تتشعّب وتتسرْبل في صورٍ لا تُعد ولا تُحصى. فمن الناس من رُزق موهبةً تفتح له القلوب قبل العيون، ومنهم من أُعطي قدرةً على الحديث، يشدّ السامع، ويجعل للكلمة حياة. وآخرون وُهبوا ذوقًا رفيعًا، يميّزون به الجمال من القبح، ويُضفون على ما حولهم بهاءً خاصًّا.
وهذه النِّعم، في جوهرها، لا تحتاج إلى ضجيج، لكنها أيضًا لا تُخفى. وحقٌّ على الموهوب شكرُ الواهب، بإبراز فضله عليه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في موقفٍ عسير – يوم حُنين – حين صدح بصوتٍ نابع من يقين داخليٍّ راسخٍ بربٍّ كريم:
أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. (رواه البخاري ومسلم).
قالها لا تباهيًا، بل تأكيدًا على نعمة النبوة، وشهادةً لحقيقة لا تُخفى حين يكون الموقف بحاجة إلى ثبات.
وقد جاء في القرآن الكريم أيضًا قوله تعالى:
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: ١١].
وليس الحديث هنا للتفاخر، بل للاعتراف الجميل، أن تقول لنفسك أولًا: هذا من فضل الله، ثم تُظهره للناس بخُلقٍ وهيئةٍ ولغة، تعبّر عن نعمةٍ خفية في داخلك، دون كِبْرٍ أو خُيَلاء.
-فـالبهدلة ليست تواضعًا، والإهمال لا علاقة له بالزهد، والتصنّع والرسمية الزائدة لا علاقة لها بهيبة الدين أو العلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبْر».
فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة.
فقال:
«إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس».
في النهاية، يبقى الفضل شيئًا لا نملكه، بل نُؤتمن عليه.
وقد لا يُقاس، لكنه يُشعَر.
وقد لا يُفاخر به، لكنه يُشكر عليه.
___________________________________________________
الكاتب: بقلم: تهاني العايش
- التصنيف: