الغنيمة الباردة (الشتاء)
وفَصْلُ الشتاءِ: ربيعُ المؤمنِين، وغنيمةُ العابدِين؛ قال ﷺ: «الغنيمةُ الباردةُ: الصومُ في الشتاء»، فَأَعِيْنُوا الفقراءَ على مُوَاجَهَةِ الشتَاءِ؛ فَإِنَّ الصدقةَ تَرُدُّ البَلاءَ؛ قال ﷺ: «صَنَائِعُ المَعْرُوفِ؛ تَقِي مُصَارِعَ السُّوء».
إِنَّ الحمدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ، ونَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لَهُ، وأشهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فاعْلَمُوا أَنَّ التقوى وسِيْلَةٌ لِمَحَبَّةِ الرحمنِ، ودُخُولِ الجِنَانِ، والنَّجَاةِ مِنَ النيرانِ، وهِيَ خيرُ لِبَاسٍ، وأعظَمُ أساسٍ! {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}.
عِبَادَ الله: مِنْ حِكْمَةِ اللهِ ﷻ، أَنْ نَوَّعَ بَينَ الفُصُول، ما بينَ بَرْدٍ وحَرٍّ، وجَدْبٍ ومَطَر، وطُوْلٍ وقِصَر {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}.
وهَا هُوَ بَرْدُ الشتاءِ: قَدْ أَقْبَلَ علينا بِبَرْدِه؛ لِيُذَكِّرَنَا بِآيَةٍ مِنْ آياتِ اللهِ الساطِعَةِ، وحِكَمِهِ الباهِرَة!
وفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدُ
ومِنْ حِكَمِ الشتاءِ: أَنَّ فِيهِ مَصَالِح لِلْعِبَادِ! قال ابنُ القَيِّم: (فَفِي الشتاءِ: تَغُوْرُ الحرارةُ في بُطُونِ الأرضِ؛ فَتَتَوَلَّدُ الثمار، ويَسْتَكْثِفُ الهواء؛ فَيَحْصُلُ السحابُ والمَطَرُ، والثَّلْجُ والبَرَدُ؛ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الأرضِ وأَهْلِهَا).
وجاءَ بَرْدُ الشتاءِ؛ لِيُذَكِّرَنَا بِنِعْمَةِ اللهِ علينا: مِنَ البُيوتِ والثيابِ؛ قال عز وجل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}. قال البغوي: ( {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}: يعني مِنْ أَوْبَارِهَا وأَشْعَارِهَا وأَصْوَافِهَا: مَلَابِسَ ولُـحَفًا تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا).
وفَصْلُ الشتاءِ: ربيعُ المؤمنِين، وغنيمةُ العابدِين؛ قال ﷺ: «الغنيمةُ الباردةُ: الصومُ في الشتاء». يقول ابنُ رَجَب: (إِنَّما كانَ الشتاءُ ربيعَ المُؤْمِنِ؛ لأَنَّهُ يَرْتَعُ فيهِ في بَسَاتِينِ الطَّاعَاتِ: كما تَرْتَعُ البهائمُ في مَرْعَى الربيع؛ فَتَسْمَنُ وتَصْلُحُ أجسادُهَا؛ فَكَذَلِكَ يَصْلُحُ دِيْنُ المُؤمِنِ في الشتاءِ).
واللَّيلُ في الشتاءِ طويلٌ: فلا تُقَصِّرْهُ بِمَنَامِك؛ وأبوابُ الخيرِ واسِعةٌ: فَخَفِّفْ من آثامِك؛ والْتَحِقْ بقوافلِ الصالحين، وكُنْ مِنَ الساجدين؛ قال عز وجل: {والَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}. يقول ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: (مَرْحَبًا بالشتاءِ؛ تَنْزِلُ فيهِ البَرَكةُ: يطولُ فيهِ اللَّيلُ لِلْقِيَامِ، ويَقْصُرُ فيهِ النهارُ لِلصيام).
ومِنْ دروسِ الشتاءِ: أَنَّهُ يُذَكِّرُ بِـزَمْهَرِيرِ جَهَنَّم؛ قال ﷺ: «اِشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فَقالَتْ: "يا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا" فَأَذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، ونَفَسٍ في الصَّيْفِ؛ فَهْوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ». قال ﷻ: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}. يقولُ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: (الغَسَّاقُ: هُوَ الزمهريرُ يَحْرِقُهُم بِبَرْدِهِ: كما تَحْرِقُهُمُ النارُ بَحَرِّهَا).
وفي الشتاءِ آياتٌ عظيمةٌ: كالأمطارِ والصواعق، والرعدِ والبرق، والثلجِ والبَرَد، والرياحِ والعواصف؛ وفي هذهِ الآياتِ: موعظةٌ للمؤمنين، وعبرةٌ للمتفكرين!
قال بعضُ الصالحين: (ما رأيتُ الثلجَ يتساقطُ، إِلَّا تذكَّرْتُ تطايرَ الصُّحُفِ في يوم الحَشْرِ والنَّشْر!).
والوُضُوءُ في البَرْدِ: يُكَفِّرُ السيئَات، ويَرفَعُ الدَّرَجَات؛ قال ﷺ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللهُ بِهِ الخَطَايا، ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجاتِ؟» قالُوا: (بَلَى، يا رسولَ الله) قال: «إسْباغُ الوُضُوءِ على المَكارِهِ».
ومِنْ مَكَارِهِ الشتاءِ: أَمْرَاضُ البَرْدِ؛ وهِيَ كَفَّارَاتٌ لِـمَنْ صَبَرَ عليها؛ قال ﷺ: «مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ تُزَفْزِفِينَ» ؟-أي تَرْتَعِدِيْنَ- فقالت: (الحُمَّى، لا بَارَكَ اللهُ فِيها) فقال ﷺ: «لا تَسُبِّي الحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيد».
وفي فَصْلِ الشِّتَاءِ: يَقْطَعُ المسلمُ رَاحَتَهُ، ويُنَازِعُ نَفْسَهُ عَنْ فِرَاشِهِ؛ لِيَقُوْمَ إلى صلاةِ الفَجْرِ، مَعَ شِدَّةِ البَرْدِ، وغَلَبَةِ النومِ؛ لأنه يخافُ مِن بَرْدِ النار، ويرجو رحمةَ الواحدِ القَهَّار! قال عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}.
قال المُفَسِّرُون: (إِنَّ اللهَ مَدَحَ الَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عنِ المَضَاجِعِ لِدُعَائِه؛ ويَشْمَلُ ذلِكَ: كُلَّ مَنْ تَرَكَ النومَ، وقامَ إلى صلاةِ الصُّبْحِ! فَإِنَّها تَأْتي في وقتِ مَشَقَّةٍ؛ بِسَبَبِ بَرْدِ الشتاءِ، وطِيْبِ النومِ في الصيفِ، فَخُصَّتْ بِالمُحَافَظَةِ؛ لِكَوْنِهَا مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ، بخلافِ غيرِها).
ومِمَّا تقتَضِيهِ المُناسَبَةُ: التنبيهُ إلى أنَّ بعضَ الناسِ يُوقِدُ النارَ للتدفِئَة، ولكن قد أَرْشَدَ نَبِيُّكُم ﷺ إلى إطفاءِ النارِ قَبْلَ النوم؛ وما ذاكَ إلَّا لِـمَا تُسَبِّبُهُ من الاِحتِرَاقِ أو الاختِناق؛ وهكذا الدفايات الكهربائية، فإنه يُشْرَعُ إطفاؤُها عندَ انقضاءِ الحاجةِ منها؛ قال ﷺ: «إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُم».
أَمَّا بَعْدُ: فَأَعِيْنُوا الفقراءَ على مُوَاجَهَةِ الشتَاءِ؛ فَإِنَّ الصدقةَ تَرُدُّ البَلاءَ؛ قال ﷺ: «صَنَائِعُ المَعْرُوفِ؛ تَقِي مُصَارِعَ السُّوء».
وإذا كانَ الناسُ يَفِرُّونَ مِنْ زَمهريرِ الدنيا: بِاللِّبَاسِ والكِسْوَةِ؛ فهل فَرَرْنَا من زمهريرِ الآخرةِ بِـ(لِبَاسِ التَّقْوَى)؛ فَهُوَ اللِّباسُ الَّذِي يَدُومُ ولا يَبْلَى.
ولْنَتَذَكَّرْ بِهذا البَرْدِ؛ نعيمَ أهلِ الجَنَّةِ! قال عزوجل -واصِفًا حالَهُم-: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}. قال ابنُ كَثِير: (أي ليسَ عِنْدَهُم حَرٌّ مُزْعِجٌ، ولا برْدٌ مُؤْلِمٌ، بَلْ هِيَ مِزَاجٌ وَاحِدٌ، دَائِمٌ سَرْمَدِيٌّ، لا يَبْغُونَ عنها حِوَلًا).
- التصنيف: