يعلم سرَّك وجهرك!
{..يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} ليست هذه الآية خبرًا عن صفة من صفات الله فحسب، بل تنبيهًا للقلب أنَّ العظمةَ ليست في الاتساع وحده، بل في الإحاطة، فكما أن الله عظيم في خلقه، فهو عظيم في علمه، لا يخفى عليه شيء في سماء ولا في أرض..
بعد أن عرَّفتك بداية سورة الأنعام بعظمة الله من خلال خلقه، ووسعت أمامك مشهد السماوات والأرض، تنتقل بك انتقالة هادئة لكنها أعمق أثرًا؛ من عظمةٍ تُبصِرها بعينك، إلى عظمةٍ تُحيط بك وأنت لا تشعر، عظمة العلم والإحاطة!
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}
ليست هذه الآية خبرًا عن صفة من صفات الله فحسب، بل تنبيهًا للقلب أنَّ العظمةَ ليست في الاتساع وحده، بل في الإحاطة، فكما أن الله عظيم في خلقه، فهو عظيم في علمه، لا يخفى عليه شيء في سماء ولا في أرض، ولا في ظاهرٍ ولا في باطن.
قف هنا! ولا تمر على الآية مرور العارف بها.
يعلم سرَّك: ما أخفيتَه في صدرك، وما لم تنطق به شفتاك، وما حسبتَ أنه لا يطَّلع عليه أحد.
ويعلم جهرك: ما ظهر من قولك وفعلك، وما أعلنته وما فعلته في خلوتك يوم ظننت أنَّك في ستر ومأمن.
ويعلم ما تكسبون: لا الفعل وحده، بل دوافعه، ونيَّاته، وخفايا القلوب خلفه، فتأمَّل!
العلم هنا ليس علم اطلاعٍ مجرَّد، بل علم قيام، وإحاطة، ومراقبة، ورحمة، علمٌ لا يغيب عنه اضطراب خاطر، ولا همسة نفس، ولا تردُّد قلب، وحين تقرأ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} فلا تفهمها على معنى المكان، بل على معنى السلطان والعلم والتدبير، أي أنه الإله المعبود، المتصرِّف، المحيط علمه بكل شيء، لا يخرج عن علمه شيء مما فوقك ولا مما تحتك.
وقد يظن الإنسان أن التعظيم يكون عند النظر إلى السماء، أو التفكُّر في عظمة الخلق، لكن القرآن يريد أن ينقلك خطوة أعمق: أن تعظِّم الله وأنت وحدك! حيث لا يراك أحد، وحيث لا يسمعك بشر، وحيث لا يبقى إلا علم الله بك.
فمن تعظيم الله أن تستحي أن يراك حيث نهاك، ومن تعظيمه أن لا يهون عليك ذنبٌ في خلوة، ومن تعظيمه أن تعلم أن سرك ليس سرًّا عليه، وهاك وصيةُ نبينا المُعلم صلى الله عليه وسلم تختصر طريق العبودية كلَّه: اتَّقِ اللهَ حيثما كنت لأنك حيثما كنت، فلست وحدك، حيثما اختليت، وحيثما أغلقت الأبواب، وحيثما ظننت أن العيون لا تراك؛ فإنَّ عينَ الله لا تغيب، وعلمَه لا يخفى عليه خافية، فهل استقرَّ هذا المعنى في قلبك؟ أم ما زال علم الله عندك معلومة تُقال، لا حقيقة تُعاش؟
قف مرة أخرى، وراجع قلبك: كيف يكون حال من يعلم أن الله مطَّلع عليه، ثم يجرؤ؟ وكيف يهنأ قلبٌ غفل عن علم من لا تخفى عليه خافية؟
ويكتمل معنى التعظيم حين يستقر في القلب أن علم الله لا يقف عند حدود الأفعال الظاهرة، ولا عند شؤون البشر وحدهم، بل يحيط بكل شيء، دقيقه وجليله، عظيمه وحقيره في نظر الناس. ففي الحديث أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ رأى شاتينِ ينتطحان، فقال: «يا أبا ذر، أتدري فيمَ يتناطحان» ؟ قلتُ: لا، قال: «ولكنَّ اللهَ يدري، وسيقضي بينهما يومَ القيامة».
تأمَّل المشهد: شاتانِ في صحراء، لا رسالة تُبلِّغ، ولا عقل يُحاكم، ولا لسان ينطق بالشكوى، ومع ذلك الله يدري يعلم سبب النِّطاح، ويُحصي الظلم، ولا يضيع عنده حقٌّ ولو كان بين بهيمتين. فإذا كان هذا علمه وعدله فيما لا نكترث له ولا نلتفت إليه، فكيف بأعمال العباد؟ وكيف بخواطر القلوب، ونيات الصدور، وخلوات السر التي لا يطّلع عليها بشر؟
الأبواب قد تُغلَق، والعيون قد تغيب، أمَّا علمُ الله فلا يغيب، ولا ينام.
فانتبِه، انتبِه وتأدَّب.
- التصنيف: