العقل يُبالغ كثيرًا

منذ 5 ساعات

القرارات الكبرى في حياتنا جاءت إلينا قبل أن نمتلك أدوات التخطيط؛ دينٌ يفتح القلب على معنى العبودية، ووطنٌ يضع الروح في جغرافيا الانتماء، وأسرةٌ حملت لقبنا قبل أن نختار حروفها.

القرارات الكبرى في حياتنا جاءت إلينا قبل أن نمتلك أدوات التخطيط؛ دينٌ يفتح القلب على معنى العبودية، ووطنٌ يضع الروح في جغرافيا الانتماء، وأسرةٌ حملت لقبنا قبل أن نختار حروفها. ثم نكبر فنكتشف أن سيرة الإنسان تبدأ من “معطًى” أكثر مما تبدأ من “اختيار”، وأن الحكمة في هذا الترتيب أن نتحرّر من وهم السيطرة، ونستبدل به أدب العبودية: سعيٌ صادق في الممكن، وتفويضٌ جميل في المجهول.

نحن نصنع ما نقدر عليه من القدر الصغير: ندرس، ونتعلّم، ونسعى، ونستشير، ونُحسن النية، ونُلزم أنفسنا بقدرٍ من الانضباط، ثم تأتي البركة كختمٍ ربانيٍّ على خطواتٍ بشرية متواضعة، فيكبر القليل، ويثمر السعي، ويتحوّل اليوم العادي إلى منعطفٍ كبير. والمدبّر سبحانه يتولى عظيم شأنك وجليل أمرك؛ يفتح بابًا في الوقت الذي يراه أنفع لقلبك، ويصرف عنك طريقًا يلمع لك في الظاهر وفيه ما يثقّل روحك، ويقودك برفقٍ إلى ما يصلحك وأنت تحسب أنك تقود نفسك.

وحين يتأمل الإنسان هذا البناء الدقيق، يستقر في صدره معنى يسكب الطمأنينة: الرحمة الإلهية لا تكتفي بأن تُعيننا على ما اخترناه، بل تسبق اختياراتنا وتُحسن ترتيبها، ثم تُبارك جهدنا فيها، فتصير الحياة مزيجًا من كدٍّ صغير نتقنه، وتدبيرٍ كبير يسترنا، وما أجمل أن نعيش بهذا الوعي: قلبٌ يعمل، وروحٌ مطمئنة، وثقةٌ عجوزٍ مؤمنة بأن الله أرحم بنا منّا.

وحينها نُدرك أن العقل يُبالغ كثيرًا حين يتوهم امتلاك المشهد، وأن السكينة تولد لحظةَ نعيد له حجمه الحقيقي: شريكٌ في السعي، لا مالكٌ للمصير، فالأقدار أعرضُ من أفق تصوّرنا، والرحمة أسبق من خططنا، والتدبير الإلهي يمشي بنا في الطريق الذي يختاره لا الطريق الذي نختاره.

_____________________________________________
الكاتب: علي آل حوّاء

  • 2
  • 0
  • 37

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً