هل أهل بدر كلهم في الجنة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ الفاضل لدي سؤالان:
الأول: هل كل مَن شارَك في معركة بدر الكبرى من الصحابة في الجنة بلا استثناء؟
الثاني: متى بدأتْ حركة النفاق في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل كان في مكة منافقون؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فمما لا شك فيه - أيها الأخُ الكريمُ - أن لأهل بدر منزلةً عظيمةً في نفوس المسلمين أجمعين؛ كما قال كعب بن مالكٍ: "وإن كانت بدرٌ أَذكر في الناس منها"؛ رواه البخاري؛ أي: أعظم ذكرًا، وفي رواية عند مسلم: "وإن كانت بدرٌ أكثر ذكرًا في الناس".
ومِن خصائص أهل بدرٍ أنهم مغفورٌ لهم، وهذا يقتضي ضمان حُسن خاتمتهم، ومغفرة ذنوبهم، وحتى إنْ وقع منهم شيءٌ ضمن لهم التوفيق للتوبة قبل الوفاة، والموت على التوحيد الخالص؛ ففي الصحيحين عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال في قصة حاطب بن أبي بَلْتَعَة لما خاطَب أهل مكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك؟ لعل الله أن يكون قد اطَّلَع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم»؛ والمعنى: أن السيئات مغفورةٌ بتلك الحسنات، فبَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - أنه باقٍ على إيمانه، وأنه سبق منه ما يغفر له به الذنوب.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "الصارم المسلول على شاتم الرسول" (ص 530): "والمضمون لأهل بدرٍ إنما هو المغفرة؛ إما بأن يستغفروا إن كان الذنب مما لا يغفر إلا بالاستغفار، أو لم يكن كذلك، وإما بدون أن يستغفروا؛ ألا ترى أن قُدامة بن مَظْعونٍ - وكان بدريًّا - تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، حتى أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو وأصحابه، فإن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن لم يقروا به كفروا، ثم إنه تاب، وكاد ييئس لعِظَمِ ذنبه في نفسه، حتى أرسل إليه عمر - رضي الله عنه - بأول سورة غافرٍ، فعلم أن المضمون للبدريين أن خاتمتهم حسنةٌ، وأنهم مغفورٌ لهم، وإن جاز أن يصدر عنهم قبل ذلك ما عسى أن يصدر؛ فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها". اهـ.
وقال العلامةُ ابن القيِّم في "زاد المعاد" في فوائد هذه القصة العظيمة:
"ومنها: أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تُكَفَّر بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجَسُّ مِن حاطب مكفرًا بشهوده بدرًا، فإن ما اشتملتْ عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته مِن محبة الله لها، ورضاه بها، وفرحه بها، ومباهاته للملائكة بفاعلها، أعظم مما اشتملتْ عليه سيئةُ الجس من المفسدة، وتضمنته من بغض الله لها، فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله، وأبطل مقتضاه، وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات، الموجبين لصحة القلب ومرضه، وهي نظير حكمته تعالى في الصحة والمرض اللاحقين للبدن، فإن الأقوى منهما يقهر المغلوب ويصير الحكم له، حتى يذهب أثرُ الأضعف، فهذه حكمتُه في خلقه وقضائه، وتلك حكمته في شرعِه وأمره.
وهذا كما أنه ثابتٌ في محو السيئات بالحسنات؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31].
فتأمَّل قوة إيمان حاطبٍ التي حملتْه على شهود بدرٍ، وبذله نفسه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيثاره الله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته، وهم بين ظهراني العدو، وفي بلدهم، ولم يثنِ ذلك عنان عزمه، ولا فلَّ من حد إيمانه، ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم، فلما جاء مرض الجس، برزتْ إليه هذه القوة، وكان البُحران صالحًا، فاندفع المرض، وقام المريض كأن لم يكن به قلَبةٌ، ولما رأى الطبيبُ قوة إيمانه قد استعلتْ على مرض جسّه وقهرته، قال لمن أراد فصده: لا يحتاج هذا العارض إلى فصادٍ، «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدرٍ، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»". اهـ. مختصرًا.
أما النفاق فقد ظهر في المدينة المنورة، ولم يظهرْ في العهد المكي.
وفق الله الجميع لفِعْل الخير.
- التصنيف:
- المصدر: