لا صغيرة مع إصرار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما المقصود بالإصرار في قول ابن عباس رضي الله عنه: (لا صغيرة مع إصرار)؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فالإصرارُ على المعصية هو الاستقرارُ على المخالَفة، وعدم الإقلاع عنها والعزْم على المعاودة، فالتوبةُ والإصرارُ ضدان لا يجتمعان، والسرُّ في كون الإصرار قد يُساوي إثمَ الكبيرة، أو يزيد عليها: أن الصغيرة ذنبٌ، والإصرارَ عليها ذنبٌ آخر، عقوبة على الذنب الأول، وهكذا كلما صدر واحد أثَّر أثرًا زائدًا على أثر ما قبله؛ فيقوى الأثران، وهَلُم جرًّا، حتى يستحكمَ الهلاكُ، كما قيل: إن المُزاولات تعطي الملكات حتى يصبحَ الذنب هيئةً راسخةً وملكةً ثابتة لنفس المُصِرّ.
وقد وصف تعالى عبادَه المتقين بالتوبة، وترْك الإصرار عليها؛ فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
وتأمَّلْ رعاك الله كلامَ شيخ الإسلام ابن القيِّم في ''مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين'' (1/ 199)، وهو يُبَيِّن السر في كون الإصرار على الصغير يصيرها كبيرة:
"... فالإصرارُ على المعصية معصيةٌ أخرى، والقعودُ عن تدارُك الفارط من المعصية إصرارٌ ورضًا بها، وطمأنينةٌ إليها، وذلك علامة الهلاك، وأشد مِن هذا كله المجاهَرة بالذنب، مع تيقُّن نظَر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه، فإن آمن بنظره إليه، وأقدم على المجاهرة فعظيمٌ، وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكُفر، وانسلاخٌ من الإسلام بالكلية، فهو دائرٌ بين الأمرين: بين قلة الحياء ومجاهَرة نظر الله إليه، وبين الكفر والانسلاخ من الدين، فلذلك يشترط في صحة التوبة تيقُّنه أن الله كان ناظرًا - ولا يزال - إليه مُطَلِّعًا عليه، يراه جهرةً عند مُواقَعة الذنب؛ لأن التوبة لا تصح إلا مِن مسلم، إلا أن يكون كافرًا بنظر الله إليه جاحدًا له، فتوبتُه دخولُه في الإسلام، وإقراره بصفات الرب - جل جلاله". اهـ.
وقد وضع في كتابه ''مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" ضابطًا لمن يغفر له الذنب ولمن يهلكه ذنبه فقال (1/ 283-284): "إنما يغفر للعبد إذا كان وقوع الذنب منه على وجه غلبة الشهوة وقوة الطبيعة، فيُواقِع الذنب مع كراهته له مِن غير إصرار في نفسه، فهذا تُرجى له مغفرة الله وصفحه وعفوه؛ لعلمه تعالى بضعفه وغلبة شهوته له، وأنه يرى كل وقت ما لا صبر له عليه، فهو إذا واقع الذنبَ واقَعَهُ مُواقَعة ذليل خاضع لربه، خائفٍ مختلج في صدره شهوةُ النفس الذنبَ، وكراهةُ الإيمان له، فهو يجيب داعي النفس تارةً، وداعي الإيمان تارات.
فأما مَن بنى أمره على ألا يَعِفّ عن ذنب، ولا يقدم خوفًا، ولا يدع لله شهوة وهو فرحٌ مسرور يضحك ظهرًا لبطن إذ ظفر بالذنب، فهذا الذي يخاف عليه أن يحال بينه وبين التوبة ولا يُوَفَّق لها".
ثم أماط اللثام عما كنا نعلمُه مِن كلام الأئمة أن المعاصي بريد الكفر، فقال في "مدارج السالكين" (1/336): "واعلمْ أن الإصرارَ على المعصية يُوجِب من خوف القلب مِن غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذُلِّه لغير الله، وتوكُّلِه على غير الله - ما يَصير به مُنْغَمِسًا في بِحار الشرك، والحاكمُ في هذا ما يعلمه الإنسانُ مِن نفسه، إن كان له عقلٌ، فإن ذُلَّ المعصية لا بد أن يقومَ بالقلب، فيورثه خوفًا مِن غير الله، وذلك شركٌ، ويورثه محبة لغير الله، واستعانةً بغيره في الأسباب التي تُوَصِّله إلى غرَضِه، فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقةُ الشرك".
وتأمَّل رعاك الله كذلك كلام شيخ الإسلام، وهو يُبَيِّن ضوابط الإصرار وما يؤول بصاحبه فقال في "مجموع الفتاوى" (15/ 293): "فإن الزنا من الكبائر، وأما النظر والمباشرة فاللممُ منها مغفورٌ باجتناب الكبائر، فإن أَصَرَّ على النظر أو على المباشرة صار كبيرةً، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم مِن قليل الفواحش، فإنَّ دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة قد يكون أعظم بكثيرٍ مِن فساد زنًا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: ألّا يأتي بكبيرةٍ، ولا يُصر على صغيرة، وفي الحديث المرفوع: «لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار»، بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].
وقال أيضًا (16/ 58): "فالتوبةُ النَّصُوحُ هي الخالصة مِن كل غشٍّ، وإذا كانتْ كذلك كائنة، فإن العبدَ إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمَن خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يعدْ إلى الذنب، فهذه التوبةُ النَّصوحُ، وهي واجبة بما أمر الله تعالى؛ ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب قَبِل الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضًا، ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يُصِرَّ، بل يتوب، ولو عاد في اليوم مائة مرة؛ فقد روى الإمام أحمدُ في مسنده، عن عليٍّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب العبد المفتن التواب»، وفي حديث آخر: «لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار»، وفي حديث آخر: «ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم مائة مرة».
ونختم لك أيها الأخ الكريم تلك النقول بقول شيخ الإسلام في كتابه "قاعدة في المحبة" (ص: 104)، وهو يضَع حدودًا فاصلةً بين المؤمن إذا عصى الله وبين غيره، وأن الإنسان لا يفعل الحرام إلا لضعفِ إيمانه ومحبته، فقال: "إذا كان أصلُ الإيمان صحيحًا وهو التصديق، فإن هذه المحرمات يفعلها المؤمنُ مع كراهته وبغضه لها، فهو إذا فعلها لغلبة الشهوة عليه فلا بد أن يكون مع فعلها فيه بُغض لها، وفيه خوفٌ من عقاب الله عليها، وفيه رجاء لأن يخلص مِن عقابها، إما بتوبةٍ، وإما حسنات، وإما عفو، وإما دون ذلك، وإلا فإذا لم يبغضها ولم يَخَف الله فيها، ولم يرج رحمته، فهذا لا يكون مؤمنًا بحال، بل هو كافرٌ أو منافقٌ".
رزقنا الله وجميع المسلمين توبة نصوحًا.
- التصنيف:
- المصدر: