يا أهلَ بيتِ المقدس وأكنافِ بيت المقدس عظِّموا المسجدَ الأقصى المبارك

منذ 2016-03-02
السؤال:

أرجو بيان الحكم الشرعي فيما حصل أثناء خطبة الجمعة الماضية في المسجد الأقصى المبارك، حيث اعترض بعض المصلين على خطيب الجمعة، وحدثت فوضى وصياحٌ وتشويشٌ كبيرٌ في المسجد قبل الصلاة وبعدها. 

 

الإجابة:

 أولاً: لما شاهدتُ ما حدث في المسجد الأقصى المبارك عبر موقع (يوتيوب)، حزنتُ وأسفتُ على حال المسجد الأقصى المبارك، وما آل إليه حالُ بعض المصلين فيه، ولو نطق المسجد الأقصى المبارك لشكى إلى الله عز وجل من رَعاعِ الناس وغوغائهم الذين لا يرعون حرمةً لبيت الله، ولا يرجون لله وقاراً، ولا يعظمون الله حق عظمته، الذين ينطبق عليهم قول علي رضي الله عنه: "همج رَعاعٌ أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريحٍ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق".

ومما زادني حزناً وغماً وهماً أن بعض أهلَ بيتِ المقدس وأكنافِ بيت المقدس، هم الذين يفعلون ذلك، فينتهكون حرمة بيت الله، وليس أعداؤهم، ألا يُدرك هؤلاء مكانة المسجد الأقصى المبارك، ألا يعرفون فضل المسجد الأقصى المبارك في كتاب الله وفي السنة النبوية، فالمسجد الأقصى المبارك له مكانةٌ عظيمةٌ في ديننا، وهو مرتبطٌ بعقيدتنا ارتباطاً قوياً، فهو أولى القبلتين وثالثُ المسجدين الشريفين، ومسرى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومنه عُرِج به إلى السماوات العُلى، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [سورة الإسراء الآية1]، فقد ربط الله عز وجل بين المسجد الحرام وبين المسجد الأقصى بهذا الرباط الأبدي المقدس، كما ربط النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم بين المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجد الرسول ومسجد الأقصى» (رواه البخاري ومسلم).

وأخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي زمانٌ يتمنى المرءُ رؤيةَ المسجد الأقصى المبارك؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل أمسجدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من أربعِ صلواتٍ فيه، ولنِعمَ المُصلَى هو، وليوشكن لأَن يكون للرجل مثل شَطَنِ فرسه-الحبل-من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس، خيرٌ له من الدنيا جميعاً» (رواه الطبراني والطحاوي والبيهقي والحاكم. وصححه العلامة الألباني، بل قال عنه إنه أصح ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الأقصى).

وقَصْدُ المسجدِ الأقصى المبارك للصلاة فيه يُكفر الذنوبَ ويحُطُ الخطايا، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس، سأل الله عز وجل خِلالاً ثلاثةً: سأل الله عز وجل حُكماً يُصادف حكمه، فأوتيه، وسأل الله عز وجل مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحدٌ لا يَنْهَزُهُ إلا الصلاةَ فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم، وصححه العلامة الألباني). وغير ذلك من النصوص.

 

ثانياً: هذه المكانةُ العظيمةُ للمسجد الأقصى المبارك توجبُ على كل مسلمٍ المحافظةَ عليه، وتعظيمَ شأنه، فهو من أعظم بيوت الله عز وجل، وبيوتُ الله حقُها التعظيم، قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [سورة النور: 36-37].

وإن تعظيمَ المسجد الأقصى المبارك، إنما هو تعظيمٌ لله عز وجل، فالمسجد هو بيت الله عز وجل، وإن انتهاكَ حُرمةِ المسجد الأقصى المبارك، وتعطيلَ صلاة الجمعة، وما حصل فيه من اللغط والتشويش والسبِّ والشتم، إنما هو انتهاكٌ لحرمات الله عز وجل.

 

ثالثاً: قرر أهل العلم أن المساجدَ لها أحكامٌ خاصة وآدابٌ لا بدَّ من المحافظة عليها، كي تبقى للمسجد هيبتُهُ وحرمتُهُ في نفوس المسلمين، لذا يُمنع المسلمُ من فعل أمورٍ كثيرةٍ في المساجد، مع أنه يجوز فعلُها خارج المساجد، فعن بريدة رضي الله عنه «أن رجلاً نَشَدَ في المسجد – أي طلب ضالةً له- فقال النبي صلى الله عليه وسلم:من دعا إلى الجمل الأحمر؟ لا وجدت، إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له» (رواه مسلم).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال:ألا إن كلكم مناجٍ ربَّه فلا يؤذي بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة» ) (رواه مالك وأبو داود وصححه العلامة الألباني).

قال الباجي المالكي: "وإذا كان رفعُ الصوت بقراءة القرآن ممنوعاً حينئذ لأذى المصلين، فبغيره من الحديث وغيره أولى. وقال ابن عبد البر:وإذا نُهي المسلمُ عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن، فإيذاؤه في غير ذلك أشدُّ تحريماً" (تنوير الحوالك شرح موطأ مالك 1/78).

وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوتَ رجلٍ في المسجد فقال:ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت! وقد همَّ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه بتعزير من يرفعون أصواتهم في المسجد، فقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: "كنت قائماً في المسجد فحصبني رجلٌ -رماني بحصاةٍ- فنظرتُ فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال:ممن أنتما؟ قالا:من أهل الطائف، قال:لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنهما قال: «جاء رجلٌ يتخطى رقابَ الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس فقد آذيت وآنيت» (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وصححه العلامة الألباني). ومعنى آذيت، أي تخطيت رقاب الناس فآذيتهم، وحرمةُ الناس عظيمةٌ. ومعنى آنيت، أي تأخرت في المجيء للصلاة.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم – ثلاثاً – وإياكم وهَيْشات الأسواق» (رواه مسلم). قال الإمام النووي: "وإياكم وهَيْشات الأسواق:هي بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة، أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها" (شرح صحيح مسلم 4/156). وهذه الأحاديث تدل على أن رفع الأصوات والصياح في المساجد وإيذاء المصلين من المحرمات ومن المنكرات.

 

رابعاً: من القواعد المقررة شرعاً وجوبُ تعظيم شعائر الله، يقول الله تعالى: {ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [سورة الحج الآية32]، ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [سورة الحج الآية30]. ولا شك أن المساجدَ داخلةٌ في عموم شعائر الله، ومن تعظيمها منعُ الفوضى والصخب والصياح فيها، والمحافظة على نظافتها والاعتناء بها بجميع وجوه العناية.

 

خامساً: يجب أن يُعلم أن الإنصاتَ واجبٌ لخطبة الجمعة، وأن الكلامَ محرمٌ أثنائها، حتى لو كان الكلامُ أمراً بمعروفٍ أو نهياً عن منكرٍ على الصحيح من أقوال أهل العلم، وقد شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من تكلم أثناء خطبة الجمعة بالحمار يحمل أسفاراً، ولا شك أن فاعل ذلك آثمٌ عاصٍ، وعلى ذلك دلت النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها:عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت» (رواه البخاري ومسلم).

قال الإمام النووي: "معناه قلت غير الصواب، وقيل تكلمت بما لا ينبغي. ففي الحديث النهيُ عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة" (شرح النووي على صحيح مسلم6/138).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة وبه قال الجمهور في حق من سمعها، وكذا الحكمُ في حقِّ من لا يسمعها عند الأكثر، قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة" (فتح الباري2/533). ومعنى (لغوت) أي جئت بأمرٍ باطلٍ.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة ومسَّ من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة، كان كفارةً لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً» (رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه، وحسنه العلامة الألباني).

وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: «دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلست قريباً من أُبي بن كعب، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة (براءة)، فقلت لأُبيٍّ: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني، فلما صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قلت لأُبيٍّ: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني؟ قال أُبيٌّ: مالك من صلاتك إلا ما لغوت! فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله كنت بجنب أُبيٍّ وأنت تقرأ براءة، فسألته متى نزلت هذه السورة؟ فتجهمني ولم يكلمني ثم قال: مالك من صلاتك إلا ما لغوت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق أُبيٌّ» (رواه ابن خزيمة في صحيحه وصححه العلامة الألباني)، ومعنى تجهمني: قطَّب جبينه وعبس ونظر إليَّ مغضباً.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسـفاراً، والذي يقول له أنصت ليست له جمعة» (رواه أحمد والطبراني، وقال الحافظ:إسناده لا بأس به).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحضر الجمعة ثلاثةُ نفرٍ، فرجلٌ حضرها يلغو فذلك حظُّه منها، ورجلٌ حضرها بدعاءٍ فهو رجلٌ دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجلٌ حضرها بإنصاتٍ وسكوتٍ ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفارةٌ إلى الجمعة التي تليها، وزيادةُ ثلاثة أيام، وذلك أن الله يقول:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}» (رواه أبو داود وحسنه العلامة الألباني).

وذكر الشيخ ابن حزم بإسناده عن بكر بن عبد الله المزني: "أن علقمة بن عبد الله المزني كان بمكة فجاء كريُّهُ -أي الذي أجَّره الدابة- والإمام يخطب يوم الجمعة فقال له:حسبتُ القومَ قد ارتحلوا، فقال له: لا تعجل حتى تنصرف، فلما قضى صلاته، قال له ابن عمر:أما صاحـبـُك فـحـمـارٌ، وأما أنت فلا جـمـعةَ لك" (المحلى3/269-270).

وهذه الأحاديثُ والآثارُ تدل على وجوب الإنصات وتحريم الكلام أثناء خطبة الجمعة.

وقد اتفق جماهير الفقهاء على ما ذكرته، قال الحصكفي الحنفي: "فيحرم أكلٌ وشربٌ وكلامٌ ولو تسبيحاً أو ردَّ سلامٍ أو أمراً بمعروفٍ، بل يجب عليه أن يستمع ويسكت" (الدر المختار2/159).

وقال الحصكفي أيضاً: "إذا خرج الامامُ…لا كلامَ إلى تمامها -الخطبة- وإن كان فيها ذِكْر الظَّلَمة في الأصح" (الدر المختار2/172).

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "ويجب الإنصاتُ من حين يأخذُ الإمام في الخطبة، فلا يجوز الكلامُ لأحدٍ من الحاضرين، ونهى عن ذلك عثمان وابن عمر. وقال ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فاقرع رأسه بالعصا، وكره ذلك عامة أهل العلم منهم: مالك وأبو حنيفة والأوزاعي" (المغني2/237-238).

 

سادساً: ينبغي أن يُعلم أن فتحَ باب الاعتراض على خطيب الجمعة، إنما هو فتحٌ لبابٍ من أبواب الشر، وإن غلَّفوه بأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاصةً في بلادنا في ظل عدم وجود أي رادعٍ يردع المتهورين، ويمنع أصحاب الأهواء من الاعتراض على الخطباء، كلما لم يعجبهم أمرٌ يذكره خطيبٌ، وإن فتحَ هذا الباب سيجعل الفوضى والتشويش يعمَّان المساجد، ويلغي حرمة المسجد، وهيبة خطبة الجمعة، وسيترتب على ذلك منكرٌ أكبر، وفتنةٌ لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، لذا يجب إغلاق هذا الباب سداً للذريعة المؤدية للفساد.وقد قرر العلماء أنه يُمنع تغييرُ المنكر إذا ترتَّب عليه منكرٌ أعظم، كما قال الله عز وجل: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام الآية 108]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأمر والنهي -وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحةٍ ودفع مفسدةٍ- فيُنظر في المُعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به؛ بل يكون محرماً إذا كانت مفسدتهُ أكثرُ من مصلحته" (مجموع الفتاوى28/129).

 

ومن المقرر عند العلماء أن درءَ المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح، ولا شك أن ما حصل أثناء خطبة الجمعة الماضية في المسجد الأقصى المبارك، فيه مفسدةٌ أعظم من المصلحة، بل هي فتنةٌ وهَرْجٌ ومَرْجٌ ولغطٌ مع ما رافقه من صياحٍ وفوضى وتشويشٍ كبيرٍ.

 

سابعاً: قرر أهل العلم أن صلاة الجمعة إذا أُقيمت فلا تجوز إعادتها في نفس المسجد، ومع الأسف الشديد أنه في ظل أحداث الجمعة الماضية في المسجد الأقصى المبارك، تمًّ إعادة خطبة وصلاة الجمعة، مع أن خطيبَ الجمعة الأول أتى بما تصحُّ به خطبةُ الجمعة، فالصحيح من أقوال أهل العلم أن ركن الخطبة الوحيد هو أقلُّ ما يصدق عليه اسمُ الخطبة عرفاً، انظر المحلى5/97، وقد أُقيمت صلاةُ الجمعة وصلى بعض الناس، فإعادة الخطبة والصلاة مرةً ثانيةً أمرٌ منكرٌ مخالفٌ لأحكام صلاة الجمعة، وكان الواجب على من لم يصل الجمعة أن يصلي الظهر أربعاً. ورد في فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية: "إنشاءُ جمعتين في مسجدٍ واحدٍ غيرُ جائزٍ شرعاً، ولا نعلم له أصلاً في دين الله، والأصل أن تُقام جمعةٌ واحدةٌ في البلد الواحد" (فتاوى اللجنة الدائمة 8/262).

 

ثامناً: هنالك مظاهرُ وأحداثٌ مخالفةٌ للشرع يفعلها بعض الناس في المسجد الأقصى المبارك، ظناً منهم أنهم يحمونه ويحافظون عليه من اعتداءات المستوطنين، وليس الأمر كذلك، مثل ما يرافق إجراء عقود الزواج في المسجد الأقصى المبارك من منكراتٍ ومخالفاتٍ. وينبغي أن يُعلم أنه يجوز إجراء عقود الزواج في المساجد، ولكن هذا ليس سنةً مطردةً، حيث لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من سنته إجراء عقود الزواج في المسجد، فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات وهو في المدينة، ولم يعقد نكاحه في المسجد، وكذا تزوج عددٌ كبيرٌ من الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُعقد نكاحهم في المسجد، وعليه فيجب ضبط إجراء عقود النكاح في المسجد بالضوابط التالية:

أولاً: عدم اعتقاد أنه من السنة النبوية وعدم المداومة عليه وأن له فضلاً خاصاً، فإن حدث ذلك فهو بدعةٌ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (رواه مسلم).

ثانياً: المحافظة على الأحكام والآداب الشرعية للمسجد، فيمنع رفع الأصوات، وتجب المحافظة على نظافة المسجد ويمنع تلويثه بالمأكولات والمشروبات والحلويات.

ثالثاً: تمنع زفةُ العريس في المسجد، لما فيها من المخالفات، فالمسجد ليس صالة أفراح. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بنيت المساجد لما بُنيت له» (رواه مسلم).

رابعاً: منع الاختلاط بين الرجال والنساء في المسجد، ومنع النساء المتبرجات ومنع أخذ الصور التذكارية للعروسين وأهليهما في المسجد.

خامساً: منع الموسيقى والطبول والمعازف والأغاني والأناشيد.

سادساً: يشترط ألا يترتب على عقد النكاح في المسجد أي امتهان للمسجد.

 

وخلاصة الأمر:

أن ما حدث في الجمعة الماضية في المسجد الأقصى المبارك، إنما هو منكرٌ من القول والفعل وزورٌ، وفيه إثمٌ كبيرٌ، وأن من دبَّر ذلك وقام به وشارك في الصياح واللغط وسبَّ الخطيب وشتمه وشوَّش أثناء خطبة الجمعة وبعدها، إنما هو حمارٌ يحمل أسفاراً، ولا جمعة له، بنصِّ الحديث النبوي. ومن فعل ذلك فهو آثمٌ عاصٍ.

وأن مكانةَ المسجد الأقصى المبارك عظيمةٌ في ديننا، وأن هذه المكانة العظيمة للمسجد الأقصى المبارك توجبُ على كل مسلمٍ المحافظة عليه، وتعظيمَ شأنه واحترامه فهو بيت الله المعظَّم، وأن يحافظ على قُدْسيته، فهو من أعظم بيوت الله عز وجل، وبيوت الله حقُها التعظيم،

وأن الإنصاتَ واجبٌ لخطبة الجمعة، والكلامُ محرمٌ أثنائها، حتى لو كان الكلامُ أمراً بمعروفٍ أو نهياً عن منكرٍ،

وأن فتحَ باب الاعتراض على خطيب الجمعة، إنما هو فتحٌ لبابٍ من أبواب الشر، وأنه يجب إغلاق هذا الباب سداً للذريعة المؤدية للفساد، وأن صلاة الجمعة إذا أُقيمت فلا تجوز إعادتها في نفس المسجد.

وأن ما يفعله بعض الناس في المسجد الأقصى المبارك من مظاهر وأحداث، ظناً منهم أنهم يحمونه ويحافظون عليه من اعتداءات المستوطنين، مثل ما يرافق إجراء عقود الزواج في المسجد الأقصى المبارك من منكراتٍ ومخالفاتٍ، فكل ذلك من المحرمات التي تتعارض مع قدسية المسجد الأقصى المبارك.

وأن الواجب على دائرة الأوقاف أن تزيد من عنايتها بالمسجد الأقصى المبارك من جميع النواحي، كالنظافة داخل المسجد وفي ساحاته، وتزويده بكل ما يلزم،  والعناية باختيار الأئمة والخطباء، وأن تعمل على ترتيب إعطاء الدروس في المسجد. 

وأن تَقْصُرَ ذلك على أهل العلم الشرعي وأن تمنع أدعياء العلم من الغالين والمبطلين والجاهلين، كما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحملُ هذا العلمَ من كل خلفٍ عُدولهُ، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (رواه البيهقي وغيره، وصححه الإمام أحمد وابن عبد البر والعلامة الألباني).

وأن الواجب على خطباء المسجد الأقصى المبارك أن يتحلوا بالحكمة في خطبهم، فذلك مَئِنَّةٌ من فقههم.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 4
  • 2
  • 24,810

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً