باب القول في القرآن

منذ 2006-12-14
السؤال: باب القول في القرآن
الإجابة: باب القول في القرآن

اعلم أن الله متكلم قائل، مادح نفسه بالتكلم، إذ عاب الأصنام والعجل أنها لا تتكلم، وهو متكلم كلما شاء تكلم بكلام لا مانع له ولا مكره، والقرآن كلامه هو تكلم به، وقد تأول ابن عقيل كلام شيخ الإسلام بنحو ما تأول به القاضي كلام أحمد.‏

وقال شيخ الإسلام أيضاً في كتاب ‏[‏مناقب الإمام أحمد بن حنبل‏]‏ في باب الإشارة عن طريقته في الأصول، لما ذكر كلامه في مسائل القرآن وترتيب البدع التي ظهرت فيه وأنهم قالوا أولا:‏ هو مخلوق، وجرت المحنة العظيمة ثم ظهرت مسألة اللفظية بسبب حسين الكرابيسي وغيره.‏

إلى أن قال:‏ ثم جاءت طائفة فقالت:‏ لا يتكلم بعد ما تكلم، فيكون كلامه حادثاً.‏ قال:‏ وهذه سَخَارَة ‏[‏أي:‏ جهالة.‏ انظر:‏ القاموس ، مادة :‏ سخر‏]‏ أخرى تقذي في الدين غير عين واحدة، فانتبه لها أبو بكر بن إسحاق اللنجرودي بن خزيمة وكانت حينئذ نيسابور دار الآثار تُمَدُّ إليها الرِّقاب وتُشَدُّ إليها الرِّكاب، ويجْلَب منها العلم.‏

وما ظنك بمجالس يحبس عنها الثقفي، والضُّبَعي، مع ما جمعا من الحديث والفقه، والصدق، والورع، واللسان، والتثبيت، والقدر، والمحفل، لا يسرون بالكلام، واشتمام لأهله، فابن خزيمة في بيت، ومحمد بن إسحاق السراج في بيت، وأبو حامد بن الشرقي في بيت.

‏‏ قال شيخ الإسلام:‏ فطار لتلك الفتنة ذاك الإمام أبو بكر، فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها، كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب ونقش في المحاريب:‏ أن الله متكلم إن شاء تكلم وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام، وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه، وتوقير نبيه خيراً.‏

قلت:‏ في حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه‏"‏‏ رواه أبو داود.‏

وفي حديث أبي ثَعْلَبَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله فرض فرائض فلا تُضَيِّعوها، وحدد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نِسْيَان فلا تسألوا عنها‏"‏‏.‏

ويقول الفقهاء في دلالة المنطوق والمسكوت، وهو ما نطق به الشارع، وهو الله ورسوله، وما سكت عنه:‏ تارة تكون دلالة السكوت أولى بالحكم من المنطوق، وهو مفهوم الموافقة، وتارة تخالفه وهو مفهوم المخالفة، وتارة تشبهه وهو القياس المحض.‏

فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت، لكن السكوت يكون تارة عن التكلم، وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه، كما قال في الصحيحين " عن أبي هريرة:‏ يا رسول الله، أرأيتك سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟ قال :أقول:‏اللهم باعد بيني وبين خَطَاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب‏"‏‏ إلى آخر الحديث.‏

فقد أخبره أنه ساكت، وسأله ماذا تقول ؟ فأخبره أنه يقول في حال سكوته، أي سكوته عن الجهر والإعلان، لكن هذان المعنيان المعروفان في السكوت لا تصح على قول من يقول:‏ إنه متكلم كما أنه عالم، لا يتكلم عند خطاب عباده بشيء، وإنما يخلق لهم إدراكاً ليسمعوا كلامه القديم، سواء قيل:‏هو معنى مجرد، أو معنى وحروف، كما هو قول ابن كُلاَّب والأشعري، ومن قال بذلك من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من الحنبلية وغيرهم.‏

فهؤلاء إما أن يمنعوا السكوت وهو المشهور من قولهم، أو يطلقوا لفظه ويفسروه بعدم خلق إدراك للخلق يسمعون به الكلام القديم، والنصوص تبهرهم، مثل قوله "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء كجَرِّ السلسلة على الصَّفَا‏".‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم صلاة الصبح بالحديبية‏‏ ‏"‏أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟‏"‏‏.‏

وتكليمه لموسى ونداؤه له كما دل عليه الكتاب والسنة، وعلى قولهم يجوز أن يسمع كل أحد الكلام الذي سمعه موسى.‏

ثم من تفلسف منهم كالغزالي في ‏[‏مشكاة الأنوار‏]‏ وجدهُ يجوز مثل ذلك لأهل الصفاء، والرياضة، وهو ما يتنزل على قلوبهم من الإلهامات، كقول النبي صلى الله عليه وسلم "إنه قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون‏"‏‏.

‏‏ وقول أبي الدرداء، وعبادة بن الصامت:‏رؤيا المؤمن كلام تكلم به الرب عنده في منامه.

‏‏ فيجعلون ‏[‏الإيحاء‏]‏ و‏[‏الإلهام‏]‏ الذي يحصل في اليقظة والمنام، مثل سماع موسى كلام الله سواء، لا فرق بينهما، إلا أن موسى قصد بذلك الخطاب، وغيره سمع ما خوطب به غيره.‏

ثم عند التحقيق يرجعون إلى محض الفلسفة، في أنه لا فرق بين موسى وغيره بحال، كما أن هؤلاء المتأولة المتفلسفة يجعلون ‏[‏خلع النعلين‏]‏ إشارة إلى ترك العالمين و‏[‏الطور‏]‏ عبارة عن العقل الفعال، و نحو ذلك من تأويلات الفلاسفة الصابئة، ومن حذا حَذْوَهُمْ من القرامطة والباطنية وأصحاب ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ ونحوهم.‏

وقد حكى القولين عن أهل السنة في الإرادة، والسمع والبصر أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب ‏[‏فهم القرآن‏]‏ فتكلم على قوله:‏‏{‏‏حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ‏}‏‏ ‏[‏محمد:‏31‏]‏ ونحوه، وبين أن علم الله قديم، وإنما يحدث المعلوم.‏

إلى أن قال:‏ وذلك موجود فينا، و نحن جهال وعلمنا مُحْدَث، قد نعلم أن كل إنسان ميت، فكلما مات إنسان قلنا:‏ قد علمنا أنه قد مات، من غير أن نكون من قبل موته جاهلين أنه سيموت، إلا أنا قد يحدث لنا اللحظ من الرؤية وحركة القلب إذا نظرنا إليه ميتاً؛ لأنه ميت، والله لا تحدث فيه الحوادث.‏

إلى أن قال:‏ وكذلك قوله:‏ ‏{‏‏لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ}‏‏ ‏[‏الفتح:‏27‏]‏، وقوله:‏ ‏{‏‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً‏}‏‏ ‏[‏الإسراء:‏16‏]‏، وقوله:‏ ‏{‏‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏ ‏[‏يس:‏82‏]‏.‏

وليس ذلك منه ببدء الحوادث:‏ إرادة حدثت له، ولا أن يستأنف مشيئة لم تكن له، وذلك فعل الجاهل بالعواقب، الذي يريد الشيء وهو لا يعلم العواقب، فلم يزل يريد ما يعلم أنه يكون، لم يستحدث إرادة لم تكن؛ لأن الإرادات إنما تحدث على قدر ما يعلم المريد، وأما من لم يزل يعلم ما يكون وما لا يكون من خير وشر، فقد أراد ما علم على ما علم، لا يحدث له بدُوٌّ؛ إذ كان لا يحدث فيه علم به.

‏‏ قال أبو عبد الله الحارث:‏ وقد تأول بعض من يدعي السنة، وبعض أهل البدع ذلك على الحوادث.‏

فأما من ادعى السنة، فأراد إثبات القدر، فقال:‏ إرادة الله:‏ أي حدث من تقديره سابق الإرادة، وأما بعض أهل البدع، فزعموا أن الإرادة إنما هي خلق حادث وليست مخلوقة، ولكن بها الله كون المخلوقين، قال:‏ فزعمت أن الخلق غير المخلوقين، وأن الخلق هو الإرادة، وأنها ليست بصفة لله من نفسه، وجل أن يكون شيء حدث بغير إرادة منه، وجل عن البدُوّات وتقلب الإرادات، ثم تكلم على أن الحادث هو وقت المراد لا نفس الإرادة، كقولهم:‏ متى تريد أن أجيء.‏

إلى أن قال:‏ وكذلك قوله:‏ ‏{‏‏إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء:‏15‏]‏ ليس معناه:‏ أن يحدث لنا سمعاً، ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم، قال:‏ وقد ذهب قوم من أهل السنة أن لله استماعاً حادثاً في ذاته، فذهب إلى ما يعقل من الخلق أنه يحدث منهم علم سمع؛ لما كان من قول عمن سمعه للقول؛ لأن المخلوق إذا سمع الشيء حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت.‏

قال:‏ وكذلك قوله:‏ ‏{‏‏فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ‏}‏‏ ‏[‏التوبة:‏105‏]‏، لا يستحدث بصراً، ولا لحظاً محدثاً في ذاته، وإنما يحدث الشيء فيراه مكونا كما لم يزل يعلمه قبل كونه، لا يغادر شيئاً ولا يخفى عليه منه خافية.‏

وكذلك قال بعضهم:‏ إن رؤية تحدث، وقال قوم:‏ إنما معنى ‏ {‏‏سَيَرَى‏}‏‏ و‏{‏‏إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء:‏ 15‏]‏ إنما المسموع، والمبصر، لم يخف على عيني، ولا على سمعي، أن أدركه سمعاً وبصرا، لا بالحوادث في الله.‏

قال أبو عبد الله: ‏ومن ذهب إلى أنه يحدث لله استماع مع حدوث المسموع، وإبصار مع حدوث المبصر، فقد زاد على الله ما لم يقل، وإنما على العباد التسليم لما قال الله:‏ إنه ‏{‏‏سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏‏ ‏[‏المجادلة:‏1‏]‏، ولا نزيد ما لم يقل، وإنما معنى ذلك كما قال تعالى:{‏‏حَتَّى نَعْلَمَ‏}‏‏ ‏[‏محمد:‏31‏]‏، حتى يكون المعلوم، وكذلك حتى يكون المبصر والمسموع، فلا يخفى على أنه يعلمه موجوداً ويسمعه موجودا، كما علمه بغير حادث علم في الله ولا بصر، ولا سمع ولا معنى حدث في ذات الله، تعالى عن الحوادث في نفسه.‏

وقال محمد بن الهيصم الكرامي في كتاب ‏[‏جمل الكلام في أصول الدين‏]‏ لما ذكر جمل الكلام في القرآن وأنها مبنية على خمسة فصول:‏

أحدها:‏ أن القرآن كلام الله، فقد حكى عن جهم أن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة، وإنما هو كلام خلقه الله فينسب إليه، كما قيل:‏ سماء الله وأرضه، وكما قيل:‏ بيت الله، وشهر الله.

‏‏ وأما المعتزلة فإنهم أطلقوا القول بأنه كلام الله على الحقيقة، ثم وافقوا جهماً في المعنى، حيث قالوا:‏ كلام خلقه بائنا منه.

‏‏ قال:‏ وقال عامة المسلمين:‏ إن القرآن كلام الله على الحقيقة، وأنه تكلم به.‏

والفصل الثاني:‏ أن القرآن غير قديم، فإن الكُلاَّبية وأصحاب الأشعري زعموا أن الله كان لم يزل يتكلم بالقرآن، وقال أهل الجماعة:‏ بل إنه إنما تكلم بالقرآن، حيث خاطب به جبرائيل، وكذلك سائر الكتب.‏

والفصل الثالث:‏ أن القرآن غير مخلوق؛ فإن الجهمية والنجارية، والمعتزلة، زعموا أنه مخلوق.‏

وقال أهل الجماعة:‏ إنه غير مخلوق.‏

والفصل الرابع:‏ أنه غير بائن من الله، فإن الجهمية وأشياعهم من المعتزلة قالوا:‏ إن القرآن بائن من الله، وكذلك سائر كلامه، وزعموا أن الله خلق كلاماً في الشجرة فسمعه موسى، وخلق كلاماً في الهواء فسمعه جبرائيل، ولا يصح عندهم أن يوجد من الله كلام يقوم به في الحقيقة.‏

وقال أهل الجماعة:‏ بل القرآن غير بائن من الله، وإنما هو موجود منه وقائم به.‏ وذكر في مسألة الإرادة، والخلق والمخلوق وغير ذلك ما يوافق ما ذكره هنا من الصفات الفعلية القائمة بالله، التي ليست قديمة ولا مخلوقة.‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السادس.
  • 1
  • 0
  • 8,775

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً