فصل: إذا عُلم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة
منذ 2007-01-03
الإجابة: فصـــل:
إذا تبين هذا، وعلم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد، وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه زالت الشبه العلمية في هذه المسألة، ولم يبق إلا نزاع لفظي، في أن موجب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه فيكون لفظ الإيمان دالاً عليه بالتضمن والعموم؟ أو هو لازم للإيمان ومعلول له وثمرة له، فتكون دلالة الإيمان عليه بطريق اللزوم؟ وحقيقة الأمر: أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا، كما قد تقدم، فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو العمل كان دالاً على الباطن فقط، وأن إفراد اسم الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص، فقوله ، أفرد لفظ الإيمان فدخل فيه الباطن والظاهر، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل ذكره مع قوله صلى الله عليه وسلم ، فلما أفرده عن اسم الإسلام ذكر ما يخصه الاسم في ذاك الحديث مجرداً عن الاقتران.
وفي هذا الحديث مقرون باسم الإسلام، وقوله تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [ آل عمران:85] دخل فيه الباطن، فلو أتى بالعمل الظاهر دون الباطن لم يكن ممن أتى بالدين الذي هو عند الله الإسلام.
وأما إذا قرن الإسلام بالإيمان، كما في قوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35- 36]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] فقد يراد بالإسلام الأعمال الظاهرة كما في حديث أنس الذي في [المسند] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" ،، ومن علم أن دلالة اللفظ تختلف بالإفراد والاقتران، كما في اسم الفقير والمسكين، والمعروف والمنكر والبغي وغير ذلك من الأسماء، وكما في لغات سائر الأمم عربها وعجمها زاحت عنه الشبهة في هذا الباب والله أعلم.
فإن قال قائل: اسم الإيمان إنما يتناول الأعمال مجازاً.
قيل أولا: ليس هذا بأولى ممن قال: إنما تخرج عنه الأعمال مجازاً، بل هذا أقوى، لأن خروج العمل عنه إنما هو إذا كان مقروناً باسم الإسلام والعمل، وأما دخول العمل فيه فإذا أفرد كما في قوله صلى الله عليه وسلم فإن ما يدل مع الاقتران أولى باسم المجاز مما يدل عند التجريد والإطلاق.
وقيل له ثانيا: لا نزاع في أن العمل الظاهر هو فرع عن الباطن وموجب له ومقتضاه، لكن هل هو داخل في مسمى الاسم وجزء منه، أو هو لازم للمسمى كالشرط المفارق، والموجب التابع؟ ومن المعلوم أن الأسماء الشرعية والدينية: كاسم [الصلاة]و[الزكاة] و[الحج] ونحو ذلك، هي باتفاق الفقهاء اسم لمجموع الصلاة الشرعية والحج الشرعي، ومن قال: إن الاسم إنما يتناول ما يتناوله عند الإطلاق في اللغة، وإن ما زاده الشارع إنما هو زيادة في الحكم وشرط فيه لا داخل في الاسم، كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى، ومن وافقهما، على أن الشرع زاد أحكاماً شرعية جعلها شروطاً في القصد، والأعمال والدعاء، ليست داخلة في مسمي الحج والصيام، والصلاة، فقولهم مرجوع عند الفقهاء وجماهير المنسوبين إلى العلم؛ ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول.
فإذا قال قائل: إن اسم الإيمان إنما يتناول مجرد ما هو تصديق، وأما كونه تصديقاً بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكون ذلك مستلزماً لحب الله ورسوله ونحو ذلك، هو شرط في الحكم لا داخل في الاسم إن لم يكن أضعف من ذلك القول فليس دونه في الضعف، فكذلك من قال: الأعمال الظاهرة لوازم للباطن، لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه قوله قول هؤلاء، والشارع إذا قرن بالإيمان العمل فكما يقرن بالحج ما هو من تمامه، كما إذا قال: من حج البيت وطاف وسعى ووقف بعرفة ورمى الجمار، ومن صلى فقرأ وركع وسجد، كما قال: من صام رمضان إيماناً واحتساباً، ومعلوم أنه لم يكن صوماً شرعيا إن لم يكن إيماناً واحتساباً.
وقال .
ومعلوم أن الرفث الذي هو الجماع يفسد الحج، والفسوق ينقص ثوابه، وكما قال صلى الله عليه وسلم .
فلا يكون مصلياً إن لم يستقبل قبلتنا في الصلاة، وكما قال صلى الله عليه وسلم .
فذكر المحافظ عليها، ومعلوم أنه لا يكون مصلياً لها على الوجه المأمور إلا بالمحافظة عليها، ولكن بين أن الوعيد مشروط بذلك؛ ولهذا لا يلزم من عدم المحافظة ألا يصليها بعد الوقت فلا يكون محافظا عليها؛ إذ المحافظة تستلزم فعلها كما قال:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] نزلت لما أخرت العصر عام الخندق، قال النبي صلى الله عليه وسلم" .
وبهذا يظهر أن الاحتجاج بذلك على أن تارك الصلاة لا يكفر حجة ضعيفة، لكنه يدل على أن تارك المحافظة لا يكفر، فإذا صلاها بعد الوقت لم يكفر، ولهذا جاءت في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قيل ، وكذلك لما سئل ابن مسعود عن قوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم:59]، قال: هو تأخيرها عن وقتها، فقيل له: كنا نظن ذلك تركها، فقال: لو تركوها كانوا كفارا.
والمقصود أنه قد يدخل في الاسم المطلق أمور كثيرة وإن كانت قد تخص بالذكر.
وقيل لمن قال: دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي، فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجباً لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن، فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظياً وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر، وترك جميع الواجبات الظاهرة، قيل لك: فهذا يناقض قولك: إن الظاهر لازم له وموجب له، بل قيل: حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له، ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم، وهذا حقيقة قولك.
وهو أيضاً خطأ عقلاً كما هو خطأ شرعاً، وذلك أن هذا ليس بدليل قاطع، إذ هذا يظهر من المنافق فإنما يبقى دليلاً في بعض الأمور المتعلقة بدار الدنيا كدلالة اللفظ على المعنى، وهذا حقيقة قولك، فيقال لك: فلا يكون ما يظهر من الأعمال ثمرة للإيمان الباطن ولا موجبا له ومن مقتضاه، وذلك أن المقتضى لهذا الظاهر إن كان هو نفس الإيمان الباطن لم يتوقف وجوده على غيره، فإن ما كان معلولاً للشيء وموجبا له لا يتوقف على غيره، بل يلزم من وجوده وجوده، فلو كان الظاهر موجب الإيمان الباطن لوجب ألا يتوقف على غيره، بل إذا وجد الموجب وجد الموجب.
وأما إذا وجد معه تارة وعدم أخرى أمكن أن يكون من موجب ذلك الغير، وأمكن أن يكون موقوفاً عليهما جميعاً، فإن ذلك الغير إما مستقل بالإيمان أو مشارك للإيمان، وأحسن أحواله أن يكون الظاهر موقوفاً عليهما معاً على ذلك الغير، وعلى الإيمان، بل قد علم أنه يوجد بدون الإيمان كما في أعمال المنافق، فحينئذ لا يكون العمل الظاهر مستلزماً للإيمان، ولا لازماً له، بل يوجد معه تارة ومع نقيضه تارة، ولا يكون الإيمان علة له ولا موجباً ولا مقتضياً، فيبطل حينئذ أن يكون دليلاً عليه؛ لأن الدليل لابد أن يستلزم المدلول، وهذا هو الحق فإن مجرد التكلم بالشهادتين ليس مستلزماً للإيمان النافع عند الله.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد لما قال:هو مؤمن. قال ، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10]، فدل ذلك على أن مجرد إظهار الإسلام لا يكون دليلاً على الإيمان في الباطن؛ إذ لو كان كذلك لم تحتج المهاجرات اللاتي جئن مسلمات إلى الامتحان، ودل ذلك على أنه بالامتحان والاختبار يتبين باطن الإنسان، فيعلم أهو مؤمن أم ليس بمؤمن، كما في الحديث المرفوع .
فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ} الآية [التوبة:18].
فإذا قيل:الأعمال الظاهرةتكون من موجب الإيمان تارة، وموجب غيره أخرى،كالتكلم بالشهادتين، تارة يكون من موجب إيمان القلب، وتارة يكون تقية كإيمان المنافقين،قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، ونحن إذا قلنا: هي من ثمرة الإيمان إذا كانت صادرة عن إيمان القلب لا عن نفاق، قيل: فإذا كانت صادرة عن إيمان، إما أن يكون نفس الإيمان موجباً لها، وإما أن تقف على أمر آخر، فإذا كان نفس الإيمان موجباً لها ثبت أنها لازمة لإيمان القلب معلولة لا تنفك عنه، وهذا هو المطلوب، وإن توقفت على أمر آخر كان الإيمان جزء السبب جعلها ثمرة للجزء الآخر ومعلولة له، إذ حقيقة الأمر أنها معلولة لهما وثمرة لهما.
فتبين أن الأعمال الظاهرة الصالحة لا تكون ثمرة للإيمان الباطن ومعلولة له، إلا إذا كان موجباً لها ومقتضياً لها، وحينئذ فالموجب لازم لموجبه والمعلول لازم لعلته، وإذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما يلزم من نقص هذا نقص هذا؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع.
وبهذا وغيره، يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن اتبعهما في [الإيمان] كالأشعري في أشهر قوليه، و أكثر أصحابه، وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة، كالماتريدي ونحوه حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يعدم وإما أن يوجد لا يتبعض، وأنه يمكن وجود الإيمان تاماً في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعاً من غير إكراه، وأن ما علم من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر، فلأن ذلك مستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب، في الأفعال... وأن الأعمال الصالحة الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب، بل يوجد إيمان القلب تاماً بدونها، فإن هذا القول فيه خطأ من وجوه:
أحدها: أنهم أخرجوا ما في القلوب من حب الله وخشيته ونحو ذلك أن يكون من نفس الإيمان.
وثانيها: جعلوا ما علم أن صاحبه كافر مثل إبليس وفرعون واليهود وأبي طالب، وغيرهم أنه إنما كان كافراً، لأن ذلك مستلزم لعدم تصديقه في الباطن، وهذا مكابرة للعقل والحس، وكذلك جعلوا من يبغض الرسول ويحسده كراهة دينه مستلزماً لعدم العلم بأنه صادق ونحو ذلك.
وثالثها: أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر من سب الله ورسوله والتثليث وغير ذلك قد يكون مجامعاً لحقيقة الإيمان الذي في القلب، ويكون صاحب ذلك مؤمناً عند الله حقيقة، سعيداً في الدار الآخرة، وهذا يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام.
ورابعها: أنهم جعلوا من لا يتكلم بالإيمان قط مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه وقدرته، يكون مؤمناً بالله تام الإيمان سعيداً في الدار الآخرة.
وهذه الفضائح تختص بها الجهمية دون المرجئة من الفقهاء وغيرهم.
وخامسها: وهو يلزمهم ويلزم المرجئة، أنهم قالوا: إن العبد قد يكون مؤمنِا تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين، ولو لم يعمل خيراً لا صلاة، ولا صلة ولا صدق حديث، ولم يدع كبيرة إلا ركبها، فيكون الرجل عندهم، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذ ائتمن خان، هو مُصِرٌّ على دوام الكذب والخيانة ونقض العهود، لا يسجد لله سجدة، ولا يحسن إلى أحد حسنة، ولا يؤدي أمانة، ولا يدع ما يقدر عليه من كذب وظلم وفاحشة إلا فعلها، وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء، وهذا يلزم كل من لم يقل: إن الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان الباطن، فإذا قال: إنها من لوازمه، وأن الإيمان الباطن يستلزم عملاً صالحاً ظاهراً كان بعد ذلك قوله: إن تلك الأعمال لازمة لمسمى الإيمان، أو جزءاً منه نزاعاً لفظياً، كما تقدم.
وسادسها: أنه يلزمهم أن من سجد للصليب والأوثان طوعاً، وألقى المصحف في الحُش ِّعمداً، وقتل النفس بغير حق، وقتل كل من رآه يصلي، وسفك دم كل من يراه يحج البيت، وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين، يجوز أن يكون مع ذلك مؤمناً ولياً لله، إيمانه مثل إيمان النبيين والصديقين؛ لأن الإيمان الباطن إما أن يكون منافياً لهذه الأمور وإما ألا يكون منافياً، فإن لم يكن منافياً أمكن وجودها معه، فلا يكون وجودها إلا مع عدم الإيمان الباطن.
وإن كان منافيا للإيمان الباطن كان ترك هذه من موجب الإيمان ومقتضاه ولازمه، فلا يكون مؤمناً في الباطن الإيمان الواجب إلا من ترك هذه الأمور، فمن لم يتركها دل ذلك على فساد إيمانه الباطن، وإذا كانت الأعمال والتروك الظاهرة لازمة للإيمان الباطن كانت من موجبه ومقتضاه، وكان من المعلوم أنها تقوى بقوته، وتزيد بزيادته، وتنقص بنقصانه، فإن الشيء المعلول لا يزيد إلا بزيادة موجبه ومقتضيه، ولا ينقص إلا بنقصان ذلك، فإذا جعل العمل الظاهر موجب الباطن ومقتضاه لزم أن تكون زيادته لزيادة الباطن، فيكون دليلاً على زيادة الإيمان الباطن ونقصه لنقص الباطن، فيكون نقصه دليلاً على نقص الباطن، وهو المطلوب.
وهذه الأمور كلها إذا تدبرها المؤمن بعقله،تبين له أن مذهب السلف هو المذهب الحق، الذي لا عدول عنه، وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول، وصحيح المنقول كسائر ما يلزم الأقوال المخالفة لأقوال السلف والأئمة؟
وقول جهم ومن وافقه: إن الإيمان مجرد العلم والتصديق، وهو بذلك وحده يستحق الثواب والسعادة، يشبه قول من قال من الفلاسفة المشائين وأتباعهم: إن سعادة الإنسان في مجرد أن يعلم الوجود على ما هو عليه، كما أن قول الجهمية وهؤلاء الفلاسفة في [مسائل الأسماء والصفات] و[مسائل الجبر، والقدر] متقاربان، وكذلك في [مسائل الإيمان]، وقد بسطنا الكلام على ذلك وبينا بعض ما فيه من الفساد في غير هذا الموضع، مثل أن العلم هو أحد قوتي النفس، فإن النفس لها قوتان: قوة العلم والتصديق، وقوة الإرادة والعمل، كما أن الحيوان له قوتان: قوة الحس، وقوة الحركة بالإرادة.
وليس صلاح الإنسان في مجرد أن يعلم الحق، دون ألا يحبه ويريده ويتبعه. كما أنه ليس سعادته في أن يكون عالما بالله، مقراً بما يستحقه، دون أن يكون محباً لله، عابداً لله، مطيعاً لله، بل أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فإذا علم الإنسان الحق وأبغضه وعاداه، كان مستحقاً من غضب الله وعقابه، ما لا يستحقه من ليس كذلك، كما أن من كان قاصداً للحق طالباً له وهو جاهل بالمطلوب وطريقه كان فيه من الضلال، وكان مستحقاً من اللعنة التي هي البعد عن رحمة الله ما لا يستحقه من ليس مثله؛ ولهذا أمرنا الله أن نقول:{اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6- 7].
والمغضوب عليهم علموا الحق فلم يحبوه ولم يتبعوه، والضالون قصدوا الحق لكن بجهل وضلال به وبطريقه، فهذا بمنزلة العالم الفاجر، وهذا بمنزلة العابد الجاهل، وهذا حال اليهود فإنه مغضوب عليهم، وهذا حال النصارى فإنهم ضالون، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
والمتفلسفة أسوأ حالا من اليهود والنصارى، فإنهم جمعوا بين جهل هؤلاء وضلالهم، وبين فجور هؤلاء وظلمهم، فصار فيهم من الجهل والظلم ما ليس في اليهود ولا النصارى، حيث جعلوا السعادة في مجرد أن يعلموا الحقائق حتى يصير الإنسان عالماً معقولاً مطابقاً للعالم الموجود، ثم لم ينالوا من معرفة الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وخلقه وأمره إلا شيئاً نزراً قليلاً، فكان جهلهم أعظم من علمهم، وضلالهم أكبر من هداهم، وكانوا مترددين بين الجهل البسيط، والجهل المركب، فإن كلامهم في الطبيعات والرياضيات لا يفيد كمال النفس وصلاحها، وإنما يحصل ذلك بالعلم الإلهي، وكلامهم فيه: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل.
فإن كلامهم في واجب الوجود ما بين حق قليل، وباطل فاسد كثير، وكذلك في العقول والنفوس التي تزعم أتباعهم من أهل الملل أنها الملائكة التي أخبرت بها الرسل، وليس الأمر كذلك، بل زعمهم أن هؤلاء هم الملائكة من جنس زعمهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق مع اعترافهم بأن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان، وكذلك كلامهم في العقول والنفوس يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان، ثم فيه من الشرك بالله وإثبات رب مبدع لجميع العالم سواه لكنه معلول له وإثبات رب مبدع لكل ما تحت فلك القمر هو معلول الرب، فوقه ذلك الرب معلول لرب فوقه، ما هو أقبح من كلام النصارى في قولهم: إن المسيح ابن الله بكثير كثير، كما بسط في غير هذا الموضع.
وليس لمقدميهم كلام في النبوات البتة، ومتأخروهم حائرون فيها، منهم من يكذب بها، كما فعل ابن زكريا الرازي وأمثاله مع قولهم بحدوث العالم.
أثبتوا القدماء الخمسة وأخذوا من المذاهب ما هو من شرها وأفسدها، ومنهم من يصدق بها مع قوله بقدم العالم، كابن سينا، وأمثاله، لكنهم يجعلون النبي بمنزلة ملك عادل، فيجعلون النبوة كلها من جنس ما يحصل لبعض الصالحين من الكشف والتأثير والتخيل، فيجعلون خاصة النبي ثلاثة أشياء: قوة الحدس الصائب، التي يسمونه القوة القدسية، وقوة التأثير في العالم، وقوة الحس، التي بها يسمع ويبصر المعقولات متخيلة في نفسه، فكلام الله عندهم هو ما في نفسه من الأصوات، وملائكته هي ما في أنفسهم من الصور والأنوار، وهذه الخصال تحصل لغالب أهل الرياضة والصفا؛ فلهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة.
وصار كل من سلك سبيلهم كالسهروردي المقتول، وابن سبعين المغربي وأمثالهما يطلب النبوة ويطمع أن يقال له: قم فأنذر، هذا يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر وهذا يجاور بمكة ويعمد إلى غار حراء، ويطلب أن ينزل عليه فيه الوحي، كما نزل على المزمل والمدثر مثله، وكل منهما ومن أمثالهما يسعى بأنواع السيمياء التي هي من السحر، ويتوهم أن معجزات الأنبياء كانت من جنس السحر السيمائي.
ومن لم يمكنه طلب النبوة وادعاؤها لعلمه بقول الصادق المصدوق ، أو غير ذلك كابن عربي وأمثاله طلب ما هو أعلا من النبوة، وأن خاتم الأولياء أعظم من خاتم الأنبياء، وأن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك.
وبنى ذلك على أصل متبوعيه الفلاسفة، فإن عندهم ما يتصور في نفس النبي أو الولي هي الملائكة من الأشكال النورانية الخيالية، [فالملائكة] عندهم ما يتخيله في نفسه، و[النبي] عندهم ما يتلقى بواسطة هذا التخيل، [والولي] يتلقى المعارف العقلية بدون هذا التخيل، ولا ريب أن من تلقى المعارف بلا تخيل كان أكمل ممن تلقاها بتخيل.
فلما اعتقدوا في النبوة ما يعتقده هؤلاء المتفلسفة، صاروا يقولون أن الولاية أعظم من النبوة، كما يقول كثير من الفلاسفة أن الفيلسوف أعظم من النبي، فإن هذا قول الفارابي ومبشر بن فاتك وغيرهما، وهؤلاء يقولون: النبوة أفضل الأمور عند الجمهورلا عند الخاصة، ويقولون: خاصة النبي جودة التخييل، والتخيل.
فجاء هؤلاء الذين أخرجوا الفلسفة في قالب الولاية، وعبروا عن المتفلسف بالولي، وأخذوا معاني الفلاسفة، وأبرزوها في صورة المكاشفة، والمخاطبة.
وقالوا: أن الولي أعظم من النبي، لأن المعاني المجردة يأخذها عن الله بلا واسطة تخيل لشيء في نفسه، والنبي يأخذها بواسطة ما يتخيل في نفسه من الصور والأصوات.
ولم يكفهم هذا البهتان حتى ادعوا أن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم هؤلاء الأولياء، الذي هو من أجهل الخلق بالله، وأبعدهم عن دين الله.
والعلم بالله هو عندهم بأنه الوجود المطلق الساري في الكائنات، فوجود كل موجود هو عين وجود واجب الوجود، وحقيقة هذا القول قول الدهرية الطبعية، الذين ينكرون أن يكون للعالم مبدع ابدعه هو واجب الوجود بنفسه، بل يقولون العالم نفسه واجب الوجود بنفسه، فحقيقة قول هؤلاء شر من قول الدهرية الالهيين، وهو يعود عند التحقق إلى قول الدهرية الطبيعيين.
وقد حدثونا أن ابن عربي تنازع هو والشيخ أبو حفص السهروردي، هل يمكن وقت تجلي الحق لعبد مخاطبة له أم لا؟ فقال الشيخ أبو حفص السهروردي: نعم يمكن ذلك.
فقال ابن عربي: لا يمكن ذلك.
وأظن الكلام كان في غيبة كل منهما عن صاحبه، فقيل لابن عربي: أن السهروردي يقول: كذا وكذا.
فقال: مسكين! نحن تكلمنا في مشاهدة الذات، وهو يتكلم في مشاهدة الصفات.
وكان كثير من أهل التصوف، والسلوك، والطالبين لطريق التحقيق والعرفان؛ مع أنهم يظنون أنهم متابعون للرسل، وأنهم متقون للبدع المخالفة له، يقولون هذا الكلام ويعظمونه ويعظمون ابن عربي لقوله مثل هذا، ولا يعلمون أن هذا الكلام بناه على أصله الفاسد في الإلحاد، الذي يجمع بين التعطيل والاتحاد، فإن حقيقة الرب عنده وجود مجرد لا اسم له، ولا صفة، ولا يمكن أن يرى في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا له كلام قائم به، ولا علم ولا غير ذلك، ولكن يرى ظاهرا في المخلوقات متجليا في المصنوعات، وهو عنده غير وجود الموجودات، وشبهه تارة بظهور الكلي في جزئياته، كظهور الجنس في أنواعه والنوع في الخاصة، كما تظهر الحيوانية في كل حيوان، والانسانية في كل إنسان؛ وهذا بناه على غلط أسلافه المنطقيين اليونانيين حيث ظنوا أن الموجودات العينية يقارنها جواهر عقلية بحسب ما تحمل لها من الكليات، فيظنون أن في الإنسان المعين إنسانا عقليا، وحيوانا عقليا، وناطقا عقليا، وحساسا عقليا، وجسما عقليا، وذاك هو الماهية التي يعرض لها الوجود، وتلك الماهية مشتركة بين جميع المعينات، وهذا الكلام له وقع عند من لم يفهمه ويتدبره، فإذا فهم حقيقته تبين له أنه بكلام المجانين أشبه منه بكلام العقلاء، وإنما ذلك لمخالفته للحس والعقل، وإنما أتى فيه هؤلاء من حيث أنهم تصوروا في أنفسهم معاني كلية مطلقة فظنوا أنها موجودة في الخارج فضلا لهم في هذا عكس ضلالهم في أمر الأنبياء شاهدت أمورا خارجة عن أنفسهم، فزعم هؤلاء الملاحدة أن تلك كانت في أنفسهم، وهؤلاء الملاحدة شهدوا في أنفسهم أمورا كلية مطلقة فظنوا أنها في الخارج وليست إلا في أنفسهم، فجعلوا ما في أنفسهم في الخارج وليس فيه، وجعلوا ما أخبرت به الأنبياء في أنفسهم، وإنما هو في الخارج، فلهذا كانوا مكذبين بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء، ثم جعلوا وجود الرب الخالق للعالمين البائن عن مخلوقاته أجمعين هو من جنس وجود الإنسانية في الأناسي، والحيوانية في الحيوان، أو ما أشبه ذلك كوجود الوجود في الثبوت عند من يقول المعدوم شيء، فإنهم أرادوا أن يجعلوه شيئا موجودا في المخلوقات مع مغايرته لها، فضربوا له مثلا تارة بالكليات، وتارة بالمادة والصورة، وتارة بالوجود المغاير للثبوت، وإذا مثلوه بالمحسوسات مثلوه بالشعاع في الزجاج أو بالهواء في الصوفة، فضربوا لرب العالمين الأمثال، فضلوا فلا يستطيعون سبيلا، وهم في هذه الأمثال ضالون من وجوه:
أحدها: إنما مثلوا به من المادة مع الصورة، والكليات مع الجزئيات، والوجود مع الثبوت، كل ذلك يرجع عند التحقيق إلى شيء واحد لا شيئين، فجعلوا الواحد اثنين، كما جعلوا الاثنين واحدا في مثل صفات الله يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو المعلوم، والعلم هو القدرة، والعلم هو الإرادة، وأنواع هذه الأمور التي إذا تدبرها العاقل تبين له أن هؤلاء من أجهل الناس بالأمور الالهية، وأعظم الناس قولا للباطل مع ما في نفوسهم ونفوس أتباعهم من الدعاوي الهائلة الطويلة العريضة، كما يدعي إخوانهم القرامطة الباطنية أنهم أئمة معصومون مثل الأنبياء، وهم من أجهل الناس وأضلهم وأكفرهم.
الثاني: أنهم على كل تقدير من هذه التقديرات يجعلون وجوده مشروطا بوجود غيره الذي ليس هو مبدعا له، فإن وجود الكليات في الخارج مشروط بالجزئيات، ووجود المادة مشروط بالصورة، وكذلك بالعكس، ووجود الأعيان مشروط بثبوتها المستقر في العدم فيلزمهم على كل تقديرأن يكون واجب الوجود مشروطا بما ليس هو من مبدعاته، وما كان وجوده موقوفا على غيره، الذي ليس هو مصنوعا له لم يكن واجب الوجود بنفسه، وهذا بين.
الثالث: أن هذا الكلام يعود عند التحقيق إلى أن يكون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، وهم يصرحون بذلك، لكن يدعون المغايرة بين الوجود والثبوت أو بين الوجود والماهية وبين الكل والجزء، وهو المغايرة بين المطلق والمعين؛ فلهذا كانوا يقولون بالحلول تارة يجعلون الخالق حالا في المخلوقات وتارة محلا لها، وإذا حقق الأمرعليهم بعدم المغايرة كان حقيقة قولهم أن الخالق هو نفس المخلوقات، فلا خالق ولا مخلوق وإنما العالم واجب الوجود بنفسه.
الرابع: أنهم يقرون بما يزعمونه من التوحيد عن التعدد في صفاته الواجبة وأسمائه، وقيام الحوادث به وعن كونه جسما أو جوهرا ثم هم عند التحقيق يجعلونه عين الأجسام الكائنة الفاسدة المستقذرة، ويصفونه بكل نقص، كما صرحوا بذلك قالوا: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص، وبصفات الذم.
وقالوا: العلي لذاته هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، فهو متصف عندهم بكل صفة مذمومة، كما هو متصف بكل صفة محمودة.
وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، فإن أمرهم أعظم من أن يبسط هنا.
ولكن المقصود التنبيه على تشابه رؤوس الضلال حتى إذا فهم المؤمن قول أحدهم أعانه على فهم قول الآخر، واحترز منهم وبين ضلالهم لكثرة ما أوقعوا في الوجود من الضلالات، فابن عربي بزعمه إنما تجلي الذات عنده شهود مطلق، هو وجود الموجودات مجردا مطلقا لا اسم له ولا نعت، ومعلوم أن من تصور هذا لم يمكن أن يحصل له عند خطاب، فلهذا زعم أن عند تجلي الذات لا يحصل خطاب.
وأما أبو حفص السهروردي، فكان أعلم بالسنة، وأتبع للسنة من هذا، وخير منه، وقد رأى أن ما جاءت به الأحاديث من أن الله يتجلى لعباده ويخاطبهم حين تجليه لهم فآمن بذلك، لكن ابن عربي في فلسفته أشهر من هذا في سنته، ولهذا كان أتباعهما يعظمون ابن عربي عليه مع إقرارهم بأن السهروردي أتبع للسنة، كما حدثني الشيخ الملقب بحسام الدين القادم السالك طريق ابن حمويه، الذي يلقبه أصحابه سلطان الأقطاب، وكان عنده من التعظيم لابن عربي وابن حمويه والغلو فيهما أمر عظيم، فبينت له كثيرا مما يشتمل عليه كلامهما من الفساد، والإلحاد، والأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وجرى في ذلك فصول لما كان عنده من التعظيم مع عدم فهم حقيقة أقوالهما، وما تضمنته من الضلالات، وكان ممن حدثني عن شيخه الطاووسي، الذي كان بهمدان عن سعد الدين ابن حمويه أنه قال: محيي الدين ابن عربي بحر لا تكدره الدلاء، لكن نور المتابعة النبوية على وجه الشيخ شهاب الدين السهروردي شيء آخر.
فقلت له: هذا كما يقال كان هؤلاء أوتوا من ملك الكفار ملكا عظيا، لكن نور الإسلام الذي على شهاب غازي صاحب ميافارقين شيء آخر، فإنهم كانوا يعظمون ابن عربي، وذلك لأن الشيخ شهاب الدين لم يكن متمكنا من معرفة السنة، ومتابعتها، وتحقيق ما جاءت به الرسل، كتمكن ابن عربي في طريقه التي سلكها، وجمع فيها بين الفلسفة والتصوف؛ وهؤلاء إنما يقطع دابرهم المباينة بين الخالق والمخلوق، وإثبات تعينه منفصلا عن المخلوق ترفع إليه الأيدي بالدعاء، وإليه كان معراج خاتم الأنبياء؛ وقد ذكر السهروردي في عقيدته المشهورة قوله بلا إشارة ولا تعيين، وهذه هي التي استطال بها عليه هؤلاء، فإنه متى نفيت الإشارة والتعيين لم يبق إلا العدم المحض والتعطيل أو الإلحاد والوحدة والحلول.
وابن سبعين وأمثاله من هؤلاء الملاحدة يقولون هكذا لا إشارة ولا تعيين، بل عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى، ويقولون في أذكارهم ليس إلا الله بدل قول المسلمين لا إله إلا الله، لأن معتقدهم أنه وجود كل موجود، فلا موجود إلا هو؛ والمسلمون يعلمون أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ليس هو المخلوقات ولا جزءا منها ولا صفة لها بل هو بائن عنها ويقولون: أنه هو الإله الذي يستحق العبادة دون ما سواه من الموجودات فلا إله إلا هو، كما قال تعالى:{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213] وكما قال تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر :64] وقال: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:14] وهؤلاء الملاحدة ما عندهم غير يمكن أن يعبد، ولا غير يمكن أن يتخذ وليا، ولا إلها بل هو العابد والمعبود والمصلي والمصلى له.
كما قال شاعرهم ابن الفارض في قصيدته: [نظم السلوك]
لها صلواتى بالمقام أقيمها ** وأشهد فيها أنها لي صلتى
كلانا مصل واحد ساجد إلى ** حقيقته بالجمع في كل سجدة
إلى قوله:
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ** صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلي رسولا كنت مني مرسلا ** وذاتى بآياتى علي إستدلت
وقوله:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ** ولا فرق بل ذاتى لذاتى أحبت
فهؤلاء [الجهمية]من المتكلمة والصوفية في قولهم: أن الإيمان هو مجرد المعرفة والتصديق، يقولون: المعروف هو الموجود الموصوف بالسلب والنفي، كقولهم لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين العالم، ولا محايث، ثم يعودون فيجعلونه حالا في المخلوقات أو محلا لها أو هو عينها أو يعطلونه بالكلية؛ فهم في هذا نظير المتفلسفة المشائين، الذين يجعلون كمال الإنسان بالعلم.
[والعلم الأعلى] عندهم و [الفلسفة الأولى] عندهم: النظر في الوجود ولواحقه، ويجعلون واجب الوجود وجودا مطلقا بشرط الإطلاق، لكن أولئك يغيرون العبارات، ويعبرون بالعبارات الإسلامية القرآنية عن الإلحادات الفلسفية واليونانية، وهذا كله قد قرر؛ وبسط القول فيه في غير هذا الموضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.
إذا تبين هذا، وعلم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد، وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه زالت الشبه العلمية في هذه المسألة، ولم يبق إلا نزاع لفظي، في أن موجب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه فيكون لفظ الإيمان دالاً عليه بالتضمن والعموم؟ أو هو لازم للإيمان ومعلول له وثمرة له، فتكون دلالة الإيمان عليه بطريق اللزوم؟ وحقيقة الأمر: أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا، كما قد تقدم، فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو العمل كان دالاً على الباطن فقط، وأن إفراد اسم الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص، فقوله ، أفرد لفظ الإيمان فدخل فيه الباطن والظاهر، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل ذكره مع قوله صلى الله عليه وسلم ، فلما أفرده عن اسم الإسلام ذكر ما يخصه الاسم في ذاك الحديث مجرداً عن الاقتران.
وفي هذا الحديث مقرون باسم الإسلام، وقوله تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [ آل عمران:85] دخل فيه الباطن، فلو أتى بالعمل الظاهر دون الباطن لم يكن ممن أتى بالدين الذي هو عند الله الإسلام.
وأما إذا قرن الإسلام بالإيمان، كما في قوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35- 36]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] فقد يراد بالإسلام الأعمال الظاهرة كما في حديث أنس الذي في [المسند] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" ،، ومن علم أن دلالة اللفظ تختلف بالإفراد والاقتران، كما في اسم الفقير والمسكين، والمعروف والمنكر والبغي وغير ذلك من الأسماء، وكما في لغات سائر الأمم عربها وعجمها زاحت عنه الشبهة في هذا الباب والله أعلم.
فإن قال قائل: اسم الإيمان إنما يتناول الأعمال مجازاً.
قيل أولا: ليس هذا بأولى ممن قال: إنما تخرج عنه الأعمال مجازاً، بل هذا أقوى، لأن خروج العمل عنه إنما هو إذا كان مقروناً باسم الإسلام والعمل، وأما دخول العمل فيه فإذا أفرد كما في قوله صلى الله عليه وسلم فإن ما يدل مع الاقتران أولى باسم المجاز مما يدل عند التجريد والإطلاق.
وقيل له ثانيا: لا نزاع في أن العمل الظاهر هو فرع عن الباطن وموجب له ومقتضاه، لكن هل هو داخل في مسمى الاسم وجزء منه، أو هو لازم للمسمى كالشرط المفارق، والموجب التابع؟ ومن المعلوم أن الأسماء الشرعية والدينية: كاسم [الصلاة]و[الزكاة] و[الحج] ونحو ذلك، هي باتفاق الفقهاء اسم لمجموع الصلاة الشرعية والحج الشرعي، ومن قال: إن الاسم إنما يتناول ما يتناوله عند الإطلاق في اللغة، وإن ما زاده الشارع إنما هو زيادة في الحكم وشرط فيه لا داخل في الاسم، كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى، ومن وافقهما، على أن الشرع زاد أحكاماً شرعية جعلها شروطاً في القصد، والأعمال والدعاء، ليست داخلة في مسمي الحج والصيام، والصلاة، فقولهم مرجوع عند الفقهاء وجماهير المنسوبين إلى العلم؛ ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول.
فإذا قال قائل: إن اسم الإيمان إنما يتناول مجرد ما هو تصديق، وأما كونه تصديقاً بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكون ذلك مستلزماً لحب الله ورسوله ونحو ذلك، هو شرط في الحكم لا داخل في الاسم إن لم يكن أضعف من ذلك القول فليس دونه في الضعف، فكذلك من قال: الأعمال الظاهرة لوازم للباطن، لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه قوله قول هؤلاء، والشارع إذا قرن بالإيمان العمل فكما يقرن بالحج ما هو من تمامه، كما إذا قال: من حج البيت وطاف وسعى ووقف بعرفة ورمى الجمار، ومن صلى فقرأ وركع وسجد، كما قال: من صام رمضان إيماناً واحتساباً، ومعلوم أنه لم يكن صوماً شرعيا إن لم يكن إيماناً واحتساباً.
وقال .
ومعلوم أن الرفث الذي هو الجماع يفسد الحج، والفسوق ينقص ثوابه، وكما قال صلى الله عليه وسلم .
فلا يكون مصلياً إن لم يستقبل قبلتنا في الصلاة، وكما قال صلى الله عليه وسلم .
فذكر المحافظ عليها، ومعلوم أنه لا يكون مصلياً لها على الوجه المأمور إلا بالمحافظة عليها، ولكن بين أن الوعيد مشروط بذلك؛ ولهذا لا يلزم من عدم المحافظة ألا يصليها بعد الوقت فلا يكون محافظا عليها؛ إذ المحافظة تستلزم فعلها كما قال:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] نزلت لما أخرت العصر عام الخندق، قال النبي صلى الله عليه وسلم" .
وبهذا يظهر أن الاحتجاج بذلك على أن تارك الصلاة لا يكفر حجة ضعيفة، لكنه يدل على أن تارك المحافظة لا يكفر، فإذا صلاها بعد الوقت لم يكفر، ولهذا جاءت في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قيل ، وكذلك لما سئل ابن مسعود عن قوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم:59]، قال: هو تأخيرها عن وقتها، فقيل له: كنا نظن ذلك تركها، فقال: لو تركوها كانوا كفارا.
والمقصود أنه قد يدخل في الاسم المطلق أمور كثيرة وإن كانت قد تخص بالذكر.
وقيل لمن قال: دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي، فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجباً لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن، فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظياً وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر، وترك جميع الواجبات الظاهرة، قيل لك: فهذا يناقض قولك: إن الظاهر لازم له وموجب له، بل قيل: حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له، ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم، وهذا حقيقة قولك.
وهو أيضاً خطأ عقلاً كما هو خطأ شرعاً، وذلك أن هذا ليس بدليل قاطع، إذ هذا يظهر من المنافق فإنما يبقى دليلاً في بعض الأمور المتعلقة بدار الدنيا كدلالة اللفظ على المعنى، وهذا حقيقة قولك، فيقال لك: فلا يكون ما يظهر من الأعمال ثمرة للإيمان الباطن ولا موجبا له ومن مقتضاه، وذلك أن المقتضى لهذا الظاهر إن كان هو نفس الإيمان الباطن لم يتوقف وجوده على غيره، فإن ما كان معلولاً للشيء وموجبا له لا يتوقف على غيره، بل يلزم من وجوده وجوده، فلو كان الظاهر موجب الإيمان الباطن لوجب ألا يتوقف على غيره، بل إذا وجد الموجب وجد الموجب.
وأما إذا وجد معه تارة وعدم أخرى أمكن أن يكون من موجب ذلك الغير، وأمكن أن يكون موقوفاً عليهما جميعاً، فإن ذلك الغير إما مستقل بالإيمان أو مشارك للإيمان، وأحسن أحواله أن يكون الظاهر موقوفاً عليهما معاً على ذلك الغير، وعلى الإيمان، بل قد علم أنه يوجد بدون الإيمان كما في أعمال المنافق، فحينئذ لا يكون العمل الظاهر مستلزماً للإيمان، ولا لازماً له، بل يوجد معه تارة ومع نقيضه تارة، ولا يكون الإيمان علة له ولا موجباً ولا مقتضياً، فيبطل حينئذ أن يكون دليلاً عليه؛ لأن الدليل لابد أن يستلزم المدلول، وهذا هو الحق فإن مجرد التكلم بالشهادتين ليس مستلزماً للإيمان النافع عند الله.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد لما قال:هو مؤمن. قال ، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10]، فدل ذلك على أن مجرد إظهار الإسلام لا يكون دليلاً على الإيمان في الباطن؛ إذ لو كان كذلك لم تحتج المهاجرات اللاتي جئن مسلمات إلى الامتحان، ودل ذلك على أنه بالامتحان والاختبار يتبين باطن الإنسان، فيعلم أهو مؤمن أم ليس بمؤمن، كما في الحديث المرفوع .
فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ} الآية [التوبة:18].
فإذا قيل:الأعمال الظاهرةتكون من موجب الإيمان تارة، وموجب غيره أخرى،كالتكلم بالشهادتين، تارة يكون من موجب إيمان القلب، وتارة يكون تقية كإيمان المنافقين،قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، ونحن إذا قلنا: هي من ثمرة الإيمان إذا كانت صادرة عن إيمان القلب لا عن نفاق، قيل: فإذا كانت صادرة عن إيمان، إما أن يكون نفس الإيمان موجباً لها، وإما أن تقف على أمر آخر، فإذا كان نفس الإيمان موجباً لها ثبت أنها لازمة لإيمان القلب معلولة لا تنفك عنه، وهذا هو المطلوب، وإن توقفت على أمر آخر كان الإيمان جزء السبب جعلها ثمرة للجزء الآخر ومعلولة له، إذ حقيقة الأمر أنها معلولة لهما وثمرة لهما.
فتبين أن الأعمال الظاهرة الصالحة لا تكون ثمرة للإيمان الباطن ومعلولة له، إلا إذا كان موجباً لها ومقتضياً لها، وحينئذ فالموجب لازم لموجبه والمعلول لازم لعلته، وإذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما يلزم من نقص هذا نقص هذا؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع.
وبهذا وغيره، يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن اتبعهما في [الإيمان] كالأشعري في أشهر قوليه، و أكثر أصحابه، وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة، كالماتريدي ونحوه حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يعدم وإما أن يوجد لا يتبعض، وأنه يمكن وجود الإيمان تاماً في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعاً من غير إكراه، وأن ما علم من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر، فلأن ذلك مستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب، في الأفعال... وأن الأعمال الصالحة الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب، بل يوجد إيمان القلب تاماً بدونها، فإن هذا القول فيه خطأ من وجوه:
أحدها: أنهم أخرجوا ما في القلوب من حب الله وخشيته ونحو ذلك أن يكون من نفس الإيمان.
وثانيها: جعلوا ما علم أن صاحبه كافر مثل إبليس وفرعون واليهود وأبي طالب، وغيرهم أنه إنما كان كافراً، لأن ذلك مستلزم لعدم تصديقه في الباطن، وهذا مكابرة للعقل والحس، وكذلك جعلوا من يبغض الرسول ويحسده كراهة دينه مستلزماً لعدم العلم بأنه صادق ونحو ذلك.
وثالثها: أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر من سب الله ورسوله والتثليث وغير ذلك قد يكون مجامعاً لحقيقة الإيمان الذي في القلب، ويكون صاحب ذلك مؤمناً عند الله حقيقة، سعيداً في الدار الآخرة، وهذا يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام.
ورابعها: أنهم جعلوا من لا يتكلم بالإيمان قط مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه وقدرته، يكون مؤمناً بالله تام الإيمان سعيداً في الدار الآخرة.
وهذه الفضائح تختص بها الجهمية دون المرجئة من الفقهاء وغيرهم.
وخامسها: وهو يلزمهم ويلزم المرجئة، أنهم قالوا: إن العبد قد يكون مؤمنِا تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين، ولو لم يعمل خيراً لا صلاة، ولا صلة ولا صدق حديث، ولم يدع كبيرة إلا ركبها، فيكون الرجل عندهم، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذ ائتمن خان، هو مُصِرٌّ على دوام الكذب والخيانة ونقض العهود، لا يسجد لله سجدة، ولا يحسن إلى أحد حسنة، ولا يؤدي أمانة، ولا يدع ما يقدر عليه من كذب وظلم وفاحشة إلا فعلها، وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء، وهذا يلزم كل من لم يقل: إن الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان الباطن، فإذا قال: إنها من لوازمه، وأن الإيمان الباطن يستلزم عملاً صالحاً ظاهراً كان بعد ذلك قوله: إن تلك الأعمال لازمة لمسمى الإيمان، أو جزءاً منه نزاعاً لفظياً، كما تقدم.
وسادسها: أنه يلزمهم أن من سجد للصليب والأوثان طوعاً، وألقى المصحف في الحُش ِّعمداً، وقتل النفس بغير حق، وقتل كل من رآه يصلي، وسفك دم كل من يراه يحج البيت، وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين، يجوز أن يكون مع ذلك مؤمناً ولياً لله، إيمانه مثل إيمان النبيين والصديقين؛ لأن الإيمان الباطن إما أن يكون منافياً لهذه الأمور وإما ألا يكون منافياً، فإن لم يكن منافياً أمكن وجودها معه، فلا يكون وجودها إلا مع عدم الإيمان الباطن.
وإن كان منافيا للإيمان الباطن كان ترك هذه من موجب الإيمان ومقتضاه ولازمه، فلا يكون مؤمناً في الباطن الإيمان الواجب إلا من ترك هذه الأمور، فمن لم يتركها دل ذلك على فساد إيمانه الباطن، وإذا كانت الأعمال والتروك الظاهرة لازمة للإيمان الباطن كانت من موجبه ومقتضاه، وكان من المعلوم أنها تقوى بقوته، وتزيد بزيادته، وتنقص بنقصانه، فإن الشيء المعلول لا يزيد إلا بزيادة موجبه ومقتضيه، ولا ينقص إلا بنقصان ذلك، فإذا جعل العمل الظاهر موجب الباطن ومقتضاه لزم أن تكون زيادته لزيادة الباطن، فيكون دليلاً على زيادة الإيمان الباطن ونقصه لنقص الباطن، فيكون نقصه دليلاً على نقص الباطن، وهو المطلوب.
وهذه الأمور كلها إذا تدبرها المؤمن بعقله،تبين له أن مذهب السلف هو المذهب الحق، الذي لا عدول عنه، وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول، وصحيح المنقول كسائر ما يلزم الأقوال المخالفة لأقوال السلف والأئمة؟
وقول جهم ومن وافقه: إن الإيمان مجرد العلم والتصديق، وهو بذلك وحده يستحق الثواب والسعادة، يشبه قول من قال من الفلاسفة المشائين وأتباعهم: إن سعادة الإنسان في مجرد أن يعلم الوجود على ما هو عليه، كما أن قول الجهمية وهؤلاء الفلاسفة في [مسائل الأسماء والصفات] و[مسائل الجبر، والقدر] متقاربان، وكذلك في [مسائل الإيمان]، وقد بسطنا الكلام على ذلك وبينا بعض ما فيه من الفساد في غير هذا الموضع، مثل أن العلم هو أحد قوتي النفس، فإن النفس لها قوتان: قوة العلم والتصديق، وقوة الإرادة والعمل، كما أن الحيوان له قوتان: قوة الحس، وقوة الحركة بالإرادة.
وليس صلاح الإنسان في مجرد أن يعلم الحق، دون ألا يحبه ويريده ويتبعه. كما أنه ليس سعادته في أن يكون عالما بالله، مقراً بما يستحقه، دون أن يكون محباً لله، عابداً لله، مطيعاً لله، بل أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فإذا علم الإنسان الحق وأبغضه وعاداه، كان مستحقاً من غضب الله وعقابه، ما لا يستحقه من ليس كذلك، كما أن من كان قاصداً للحق طالباً له وهو جاهل بالمطلوب وطريقه كان فيه من الضلال، وكان مستحقاً من اللعنة التي هي البعد عن رحمة الله ما لا يستحقه من ليس مثله؛ ولهذا أمرنا الله أن نقول:{اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6- 7].
والمغضوب عليهم علموا الحق فلم يحبوه ولم يتبعوه، والضالون قصدوا الحق لكن بجهل وضلال به وبطريقه، فهذا بمنزلة العالم الفاجر، وهذا بمنزلة العابد الجاهل، وهذا حال اليهود فإنه مغضوب عليهم، وهذا حال النصارى فإنهم ضالون، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
والمتفلسفة أسوأ حالا من اليهود والنصارى، فإنهم جمعوا بين جهل هؤلاء وضلالهم، وبين فجور هؤلاء وظلمهم، فصار فيهم من الجهل والظلم ما ليس في اليهود ولا النصارى، حيث جعلوا السعادة في مجرد أن يعلموا الحقائق حتى يصير الإنسان عالماً معقولاً مطابقاً للعالم الموجود، ثم لم ينالوا من معرفة الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وخلقه وأمره إلا شيئاً نزراً قليلاً، فكان جهلهم أعظم من علمهم، وضلالهم أكبر من هداهم، وكانوا مترددين بين الجهل البسيط، والجهل المركب، فإن كلامهم في الطبيعات والرياضيات لا يفيد كمال النفس وصلاحها، وإنما يحصل ذلك بالعلم الإلهي، وكلامهم فيه: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل.
فإن كلامهم في واجب الوجود ما بين حق قليل، وباطل فاسد كثير، وكذلك في العقول والنفوس التي تزعم أتباعهم من أهل الملل أنها الملائكة التي أخبرت بها الرسل، وليس الأمر كذلك، بل زعمهم أن هؤلاء هم الملائكة من جنس زعمهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق مع اعترافهم بأن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان، وكذلك كلامهم في العقول والنفوس يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان، ثم فيه من الشرك بالله وإثبات رب مبدع لجميع العالم سواه لكنه معلول له وإثبات رب مبدع لكل ما تحت فلك القمر هو معلول الرب، فوقه ذلك الرب معلول لرب فوقه، ما هو أقبح من كلام النصارى في قولهم: إن المسيح ابن الله بكثير كثير، كما بسط في غير هذا الموضع.
وليس لمقدميهم كلام في النبوات البتة، ومتأخروهم حائرون فيها، منهم من يكذب بها، كما فعل ابن زكريا الرازي وأمثاله مع قولهم بحدوث العالم.
أثبتوا القدماء الخمسة وأخذوا من المذاهب ما هو من شرها وأفسدها، ومنهم من يصدق بها مع قوله بقدم العالم، كابن سينا، وأمثاله، لكنهم يجعلون النبي بمنزلة ملك عادل، فيجعلون النبوة كلها من جنس ما يحصل لبعض الصالحين من الكشف والتأثير والتخيل، فيجعلون خاصة النبي ثلاثة أشياء: قوة الحدس الصائب، التي يسمونه القوة القدسية، وقوة التأثير في العالم، وقوة الحس، التي بها يسمع ويبصر المعقولات متخيلة في نفسه، فكلام الله عندهم هو ما في نفسه من الأصوات، وملائكته هي ما في أنفسهم من الصور والأنوار، وهذه الخصال تحصل لغالب أهل الرياضة والصفا؛ فلهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة.
وصار كل من سلك سبيلهم كالسهروردي المقتول، وابن سبعين المغربي وأمثالهما يطلب النبوة ويطمع أن يقال له: قم فأنذر، هذا يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر وهذا يجاور بمكة ويعمد إلى غار حراء، ويطلب أن ينزل عليه فيه الوحي، كما نزل على المزمل والمدثر مثله، وكل منهما ومن أمثالهما يسعى بأنواع السيمياء التي هي من السحر، ويتوهم أن معجزات الأنبياء كانت من جنس السحر السيمائي.
ومن لم يمكنه طلب النبوة وادعاؤها لعلمه بقول الصادق المصدوق ، أو غير ذلك كابن عربي وأمثاله طلب ما هو أعلا من النبوة، وأن خاتم الأولياء أعظم من خاتم الأنبياء، وأن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك.
وبنى ذلك على أصل متبوعيه الفلاسفة، فإن عندهم ما يتصور في نفس النبي أو الولي هي الملائكة من الأشكال النورانية الخيالية، [فالملائكة] عندهم ما يتخيله في نفسه، و[النبي] عندهم ما يتلقى بواسطة هذا التخيل، [والولي] يتلقى المعارف العقلية بدون هذا التخيل، ولا ريب أن من تلقى المعارف بلا تخيل كان أكمل ممن تلقاها بتخيل.
فلما اعتقدوا في النبوة ما يعتقده هؤلاء المتفلسفة، صاروا يقولون أن الولاية أعظم من النبوة، كما يقول كثير من الفلاسفة أن الفيلسوف أعظم من النبي، فإن هذا قول الفارابي ومبشر بن فاتك وغيرهما، وهؤلاء يقولون: النبوة أفضل الأمور عند الجمهورلا عند الخاصة، ويقولون: خاصة النبي جودة التخييل، والتخيل.
فجاء هؤلاء الذين أخرجوا الفلسفة في قالب الولاية، وعبروا عن المتفلسف بالولي، وأخذوا معاني الفلاسفة، وأبرزوها في صورة المكاشفة، والمخاطبة.
وقالوا: أن الولي أعظم من النبي، لأن المعاني المجردة يأخذها عن الله بلا واسطة تخيل لشيء في نفسه، والنبي يأخذها بواسطة ما يتخيل في نفسه من الصور والأصوات.
ولم يكفهم هذا البهتان حتى ادعوا أن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم هؤلاء الأولياء، الذي هو من أجهل الخلق بالله، وأبعدهم عن دين الله.
والعلم بالله هو عندهم بأنه الوجود المطلق الساري في الكائنات، فوجود كل موجود هو عين وجود واجب الوجود، وحقيقة هذا القول قول الدهرية الطبعية، الذين ينكرون أن يكون للعالم مبدع ابدعه هو واجب الوجود بنفسه، بل يقولون العالم نفسه واجب الوجود بنفسه، فحقيقة قول هؤلاء شر من قول الدهرية الالهيين، وهو يعود عند التحقق إلى قول الدهرية الطبيعيين.
وقد حدثونا أن ابن عربي تنازع هو والشيخ أبو حفص السهروردي، هل يمكن وقت تجلي الحق لعبد مخاطبة له أم لا؟ فقال الشيخ أبو حفص السهروردي: نعم يمكن ذلك.
فقال ابن عربي: لا يمكن ذلك.
وأظن الكلام كان في غيبة كل منهما عن صاحبه، فقيل لابن عربي: أن السهروردي يقول: كذا وكذا.
فقال: مسكين! نحن تكلمنا في مشاهدة الذات، وهو يتكلم في مشاهدة الصفات.
وكان كثير من أهل التصوف، والسلوك، والطالبين لطريق التحقيق والعرفان؛ مع أنهم يظنون أنهم متابعون للرسل، وأنهم متقون للبدع المخالفة له، يقولون هذا الكلام ويعظمونه ويعظمون ابن عربي لقوله مثل هذا، ولا يعلمون أن هذا الكلام بناه على أصله الفاسد في الإلحاد، الذي يجمع بين التعطيل والاتحاد، فإن حقيقة الرب عنده وجود مجرد لا اسم له، ولا صفة، ولا يمكن أن يرى في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا له كلام قائم به، ولا علم ولا غير ذلك، ولكن يرى ظاهرا في المخلوقات متجليا في المصنوعات، وهو عنده غير وجود الموجودات، وشبهه تارة بظهور الكلي في جزئياته، كظهور الجنس في أنواعه والنوع في الخاصة، كما تظهر الحيوانية في كل حيوان، والانسانية في كل إنسان؛ وهذا بناه على غلط أسلافه المنطقيين اليونانيين حيث ظنوا أن الموجودات العينية يقارنها جواهر عقلية بحسب ما تحمل لها من الكليات، فيظنون أن في الإنسان المعين إنسانا عقليا، وحيوانا عقليا، وناطقا عقليا، وحساسا عقليا، وجسما عقليا، وذاك هو الماهية التي يعرض لها الوجود، وتلك الماهية مشتركة بين جميع المعينات، وهذا الكلام له وقع عند من لم يفهمه ويتدبره، فإذا فهم حقيقته تبين له أنه بكلام المجانين أشبه منه بكلام العقلاء، وإنما ذلك لمخالفته للحس والعقل، وإنما أتى فيه هؤلاء من حيث أنهم تصوروا في أنفسهم معاني كلية مطلقة فظنوا أنها موجودة في الخارج فضلا لهم في هذا عكس ضلالهم في أمر الأنبياء شاهدت أمورا خارجة عن أنفسهم، فزعم هؤلاء الملاحدة أن تلك كانت في أنفسهم، وهؤلاء الملاحدة شهدوا في أنفسهم أمورا كلية مطلقة فظنوا أنها في الخارج وليست إلا في أنفسهم، فجعلوا ما في أنفسهم في الخارج وليس فيه، وجعلوا ما أخبرت به الأنبياء في أنفسهم، وإنما هو في الخارج، فلهذا كانوا مكذبين بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء، ثم جعلوا وجود الرب الخالق للعالمين البائن عن مخلوقاته أجمعين هو من جنس وجود الإنسانية في الأناسي، والحيوانية في الحيوان، أو ما أشبه ذلك كوجود الوجود في الثبوت عند من يقول المعدوم شيء، فإنهم أرادوا أن يجعلوه شيئا موجودا في المخلوقات مع مغايرته لها، فضربوا له مثلا تارة بالكليات، وتارة بالمادة والصورة، وتارة بالوجود المغاير للثبوت، وإذا مثلوه بالمحسوسات مثلوه بالشعاع في الزجاج أو بالهواء في الصوفة، فضربوا لرب العالمين الأمثال، فضلوا فلا يستطيعون سبيلا، وهم في هذه الأمثال ضالون من وجوه:
أحدها: إنما مثلوا به من المادة مع الصورة، والكليات مع الجزئيات، والوجود مع الثبوت، كل ذلك يرجع عند التحقيق إلى شيء واحد لا شيئين، فجعلوا الواحد اثنين، كما جعلوا الاثنين واحدا في مثل صفات الله يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو المعلوم، والعلم هو القدرة، والعلم هو الإرادة، وأنواع هذه الأمور التي إذا تدبرها العاقل تبين له أن هؤلاء من أجهل الناس بالأمور الالهية، وأعظم الناس قولا للباطل مع ما في نفوسهم ونفوس أتباعهم من الدعاوي الهائلة الطويلة العريضة، كما يدعي إخوانهم القرامطة الباطنية أنهم أئمة معصومون مثل الأنبياء، وهم من أجهل الناس وأضلهم وأكفرهم.
الثاني: أنهم على كل تقدير من هذه التقديرات يجعلون وجوده مشروطا بوجود غيره الذي ليس هو مبدعا له، فإن وجود الكليات في الخارج مشروط بالجزئيات، ووجود المادة مشروط بالصورة، وكذلك بالعكس، ووجود الأعيان مشروط بثبوتها المستقر في العدم فيلزمهم على كل تقديرأن يكون واجب الوجود مشروطا بما ليس هو من مبدعاته، وما كان وجوده موقوفا على غيره، الذي ليس هو مصنوعا له لم يكن واجب الوجود بنفسه، وهذا بين.
الثالث: أن هذا الكلام يعود عند التحقيق إلى أن يكون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، وهم يصرحون بذلك، لكن يدعون المغايرة بين الوجود والثبوت أو بين الوجود والماهية وبين الكل والجزء، وهو المغايرة بين المطلق والمعين؛ فلهذا كانوا يقولون بالحلول تارة يجعلون الخالق حالا في المخلوقات وتارة محلا لها، وإذا حقق الأمرعليهم بعدم المغايرة كان حقيقة قولهم أن الخالق هو نفس المخلوقات، فلا خالق ولا مخلوق وإنما العالم واجب الوجود بنفسه.
الرابع: أنهم يقرون بما يزعمونه من التوحيد عن التعدد في صفاته الواجبة وأسمائه، وقيام الحوادث به وعن كونه جسما أو جوهرا ثم هم عند التحقيق يجعلونه عين الأجسام الكائنة الفاسدة المستقذرة، ويصفونه بكل نقص، كما صرحوا بذلك قالوا: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص، وبصفات الذم.
وقالوا: العلي لذاته هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، فهو متصف عندهم بكل صفة مذمومة، كما هو متصف بكل صفة محمودة.
وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، فإن أمرهم أعظم من أن يبسط هنا.
ولكن المقصود التنبيه على تشابه رؤوس الضلال حتى إذا فهم المؤمن قول أحدهم أعانه على فهم قول الآخر، واحترز منهم وبين ضلالهم لكثرة ما أوقعوا في الوجود من الضلالات، فابن عربي بزعمه إنما تجلي الذات عنده شهود مطلق، هو وجود الموجودات مجردا مطلقا لا اسم له ولا نعت، ومعلوم أن من تصور هذا لم يمكن أن يحصل له عند خطاب، فلهذا زعم أن عند تجلي الذات لا يحصل خطاب.
وأما أبو حفص السهروردي، فكان أعلم بالسنة، وأتبع للسنة من هذا، وخير منه، وقد رأى أن ما جاءت به الأحاديث من أن الله يتجلى لعباده ويخاطبهم حين تجليه لهم فآمن بذلك، لكن ابن عربي في فلسفته أشهر من هذا في سنته، ولهذا كان أتباعهما يعظمون ابن عربي عليه مع إقرارهم بأن السهروردي أتبع للسنة، كما حدثني الشيخ الملقب بحسام الدين القادم السالك طريق ابن حمويه، الذي يلقبه أصحابه سلطان الأقطاب، وكان عنده من التعظيم لابن عربي وابن حمويه والغلو فيهما أمر عظيم، فبينت له كثيرا مما يشتمل عليه كلامهما من الفساد، والإلحاد، والأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وجرى في ذلك فصول لما كان عنده من التعظيم مع عدم فهم حقيقة أقوالهما، وما تضمنته من الضلالات، وكان ممن حدثني عن شيخه الطاووسي، الذي كان بهمدان عن سعد الدين ابن حمويه أنه قال: محيي الدين ابن عربي بحر لا تكدره الدلاء، لكن نور المتابعة النبوية على وجه الشيخ شهاب الدين السهروردي شيء آخر.
فقلت له: هذا كما يقال كان هؤلاء أوتوا من ملك الكفار ملكا عظيا، لكن نور الإسلام الذي على شهاب غازي صاحب ميافارقين شيء آخر، فإنهم كانوا يعظمون ابن عربي، وذلك لأن الشيخ شهاب الدين لم يكن متمكنا من معرفة السنة، ومتابعتها، وتحقيق ما جاءت به الرسل، كتمكن ابن عربي في طريقه التي سلكها، وجمع فيها بين الفلسفة والتصوف؛ وهؤلاء إنما يقطع دابرهم المباينة بين الخالق والمخلوق، وإثبات تعينه منفصلا عن المخلوق ترفع إليه الأيدي بالدعاء، وإليه كان معراج خاتم الأنبياء؛ وقد ذكر السهروردي في عقيدته المشهورة قوله بلا إشارة ولا تعيين، وهذه هي التي استطال بها عليه هؤلاء، فإنه متى نفيت الإشارة والتعيين لم يبق إلا العدم المحض والتعطيل أو الإلحاد والوحدة والحلول.
وابن سبعين وأمثاله من هؤلاء الملاحدة يقولون هكذا لا إشارة ولا تعيين، بل عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى، ويقولون في أذكارهم ليس إلا الله بدل قول المسلمين لا إله إلا الله، لأن معتقدهم أنه وجود كل موجود، فلا موجود إلا هو؛ والمسلمون يعلمون أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ليس هو المخلوقات ولا جزءا منها ولا صفة لها بل هو بائن عنها ويقولون: أنه هو الإله الذي يستحق العبادة دون ما سواه من الموجودات فلا إله إلا هو، كما قال تعالى:{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213] وكما قال تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر :64] وقال: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:14] وهؤلاء الملاحدة ما عندهم غير يمكن أن يعبد، ولا غير يمكن أن يتخذ وليا، ولا إلها بل هو العابد والمعبود والمصلي والمصلى له.
كما قال شاعرهم ابن الفارض في قصيدته: [نظم السلوك]
لها صلواتى بالمقام أقيمها ** وأشهد فيها أنها لي صلتى
كلانا مصل واحد ساجد إلى ** حقيقته بالجمع في كل سجدة
إلى قوله:
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ** صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلي رسولا كنت مني مرسلا ** وذاتى بآياتى علي إستدلت
وقوله:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ** ولا فرق بل ذاتى لذاتى أحبت
فهؤلاء [الجهمية]من المتكلمة والصوفية في قولهم: أن الإيمان هو مجرد المعرفة والتصديق، يقولون: المعروف هو الموجود الموصوف بالسلب والنفي، كقولهم لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين العالم، ولا محايث، ثم يعودون فيجعلونه حالا في المخلوقات أو محلا لها أو هو عينها أو يعطلونه بالكلية؛ فهم في هذا نظير المتفلسفة المشائين، الذين يجعلون كمال الإنسان بالعلم.
[والعلم الأعلى] عندهم و [الفلسفة الأولى] عندهم: النظر في الوجود ولواحقه، ويجعلون واجب الوجود وجودا مطلقا بشرط الإطلاق، لكن أولئك يغيرون العبارات، ويعبرون بالعبارات الإسلامية القرآنية عن الإلحادات الفلسفية واليونانية، وهذا كله قد قرر؛ وبسط القول فيه في غير هذا الموضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.
- التصنيف: