من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف
منذ 2007-06-12
السؤال: من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف
الإجابة: ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف، فإذا رأى الشيئين
المتماثلين، علم أن هذا مثل هذا، فجعل حكمهما واحدًا، كما إذا رأى
الماء والماء، والتراب والتراب، والهواء والهواء، ثم حكم بالحكم الكلي
على القدر المشترك، وإذا حكم على بعض الأعيان ومثله بالنظير، وذكر
المشترك، كان أحسن في البيان، فهذا قياس الطرد.
وإذا رأي المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما، وهذا قياس العكس.
وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم، فيتقى تكذيب الرسل حذرًا من العقوبة، وهذا قياس الطرد.
ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك، وهذا قياس العكس، وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين، فإن المقصود أن ما ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره.
والاعتبار يكون بهذا وبهذا.
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] وقد قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى 17]، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] .
و[الميزان] فسره السلف بالعدل، وفسره بعضهم بما يوزن به، وهما متلازمان.
وقد أخبر تعالى أنه أنزل ذلك كما أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان.
وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات، فإذا علمنا أن الله تعالى حرم الخمر لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، ثم رأينا النبيذ يماثلها في ذلك، كان القدر المشترك الذي هو العلة، هو الميزان الذي أنزله الله في قلوبنا لنزن به هذا ونجعله مثل هذا، فلا نفرق بين المتماثلين.
فالقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله به.
ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط، والمقصود بها وزن الأمور الموجودة في الخارج، و إلا فالكليات لولا جزئياتها المعينة لم يكن بها اعتبار ،كما أنه لولا الموزونات لم يكن إلى الميزان من حاجة، ولا ريب أنه إذا حضر أحد الموزونين واعتبر بالآخر بالميزان،كان أتم في الوزن من أن يكون الميزان وهو الوصف الكلي المشترك في العقل، أي شيء حضر من الأعيان المفردة وزن بها مع مغيب الآخر.
ولا يجوز لعاقل أن يظن أن الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان لوجوه:
أحدها: أن الله أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم، وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلاثمائة سنة، فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن به؟!
الثاني: أن أمتنا أهل الإسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية، ولم يسمع سلفًا بذكر هذا المنطق اليوناني، وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبًا منها.
الثالث: أنه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه، يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية، ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا اصطلاحات لفظية، و إلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الأمم، فإنه ليس الأمر كذلك، بل فيه معاني كثيرة فاسدة.
ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الأقيسة العقلية، وزعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وليس الأمر كذلك، فإنه لو احتاج الميزان إلى ميزان، لزم التسلسل.
وأيضا، فالفطرة إن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي، وإن كانت بليدة أو فاسدة لم يزدها المنطق إلا بلادة وفسادًا، ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه، لابد أن يتخبط ولا يأتي بالأدلة العقلية على الوجه المحمود ومتى أتى بها على الوجه المحمود أعرض عن اعتبارها بالمنطق؛ لما فيه من العجز والتطويل، و تبعيد الطريق، وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط.
فإنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات إلى أقيسة كلية، وضعوا ألفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا، حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين، وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة، و كانوا فيها من المطففين، {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 2- 3] وأين البخس في الأموال من البخس في العقول والأديان؟!.
مع أن أكثرهم لا يقصدون البخس، بل هم بمنزلة من ورث موازين من أبيه يزن بها تارة له، وتارة عليه، ولا يعرف أهي عادلة أم عائلة.
والميزان التي أنزلها الله مع الكتاب ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله، وخلافه، فتسوى بين المتماثلين وتفرق بين المختلفين، بما جعله الله في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف.
فإذا قيل: إن كان هذا مما يعرف بالعقل، فكيف جعله الله مما أرسل به الرسل؟
قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية.
فليست العلوم النبوية مقصورة على الخبر، بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الله علما وعملا، وضربت الأمثال فكمـلت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها، لما كانت الفطرة معرضة عنه، أو كانت الفطرة قد فسدت بما يحصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة، فأزالت ذلك الفساد، والقرآن والحديث مملوءان من هذا؛ يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة، ويبين طريق التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [الجاثية: 21] وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35- 36] أي هذا حكم جائر لا عادل، فإن فيه تسوية بين المختلفين، ومن التسوية بين المتماثلين قوله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ} [القمر: 43]، وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [البقرة: 214] .
والمقصود التنبيه على أن الميزان العقلي حق كما ذكر الله في كتابه، وليست هي مختصة بمنطق اليونان، بل هي الأقيسة الصحيحة المتضمنة للتسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل، وصيغ التمثيل هي الأصل وهي الحمل، والميزان هو القدر المشترك وهو الجامع.
الوجه الثامن: أنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا؛ الحسيات، والأوليات، والمتواترات، والمجربات، والحدسيات.
ومعلوم أنه لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرها ما جرت العادة باشتراك بني آدم فيه وتناقضوا في ذلك؛ فإن بني آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات، فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق، وإن لم يكن ما يراه هؤلاء عين ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد، وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته، فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه، بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم، وكذا أكثر المرئيات.
وأما الشم والذوق واللمس، فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه، بل الذي يشمه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه، ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء، لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين .
وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس، فإنه قد يتواتر عند هؤلاء، ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ويجربوه، ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الأدوية، ويجرب آخرون جنس تلك الأدوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب.
ثم هم مع هذا يقولون في المنطق: إن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره.
فيقال لهم: وكذلك المشمومات و المذوقات و الملموسات، بل اشتراك الناس في المتواترات أكثر؛ فإن الخبر المتواتر ينقله عدد كثير، فيكثر السامعون له، ويشتركون في سماعه من العدد الكثير، بخلاف ما يدرك بالحواس؛ فإنه يختص بمن أحسه، فإذا قال: رأيت أو سمعت أو ذقت أو لمست أو شممت، فكيف يمكنه أن يقيم من هذا برهانًا على غيره، ولو قدر أنه شاركه في تلك الحسيات عدد، فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم أحسها، ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر.
وعامة ما عندهم من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هي من العلم بعادة ذلك الموجود، وهو ما يسمونه [الحدسيات]، وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية، والعلوم الفلكية، كعلم الهيئة، فهو من قسم المجربات وهذه لا يقوم فيها برهان؛ فإن كون هذه الأجسام الطبيعية جربت، وكون الحركات جربت، لا يعرفه أكثر الناس إلا بالنقل، والتواتر في هذا قليل.
وغاية الأمر أن تنقل التجربة في ذلك عن بعض الأطباء أو بعض أهل الحساب، وغاية ما يوجد، أن يقول بطليموس: هذا مما رصده فلان، وأن يقول جالينوس: هذا مما جربته، أو ذكر لي فلان أنه جربه، وليس في هذا شيء من المتواتر.
وإن قدر أن غيره جربه أيضًا، فذاك خبر واحد، وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه، ولا علموا بالأرصاد ما ادعوا أنهم علموه، وإن ذكروا جماعة رصدوا، فغايته أنه من المتواتر الخاص الذي تنقله طائفة.
فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء، كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانًا بمثل هذا التواتر؟! ويعظم علم الهيئة والفلسفة، ويدعي أنه علم عقلي معلوم بالبرهان.
وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله،فما الظن بالإلهيات، التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين، وأن كفار اليهود والنصارى أعلم منهم بهذه الأمور.
الوجه التاسع: أن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه، بل الفراسة أيضًا وأمثالها، فإن أدخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات، لم يمكنهم نفي ما لم يذكروه ولم يبق لهم ضابط وقد ذكر ابن سينا وأتباعه أن القضايا الواجب قبولها التي هي مادة البرهان، الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات، وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها، ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر؛ ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه، وإذا كان كذلك، لم يلزم إن كل ما لم يدخل في قياسهم لا يكون معلومًا، وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ؛ فإنه إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذا الطريق، لم يمكن وزنها بهذه الأدلة.
وعامة هؤلاء المنطقيين يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم، وهذا في غاية الجهل، لاسيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء.
فإذا كان أشرف العلوم لا سبيل إلى معرفته بطريقهم، لزم أمران:
أحدهما: ألا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه.
والثاني: أن ما علموه خسيس بالنسبة إلى ما جهلوه، فكيف إذا علم أنه لا يفيد النجاة ولا السعادة؟!
الوجه العاشر: أنهم يجعلون ما هو علم يجب تصديقه ليس علما، وما هو باطل وليس بعلم، يجعلونه علما، فزعموا أن ما جاءت به الأنبياء في معرفة الله وصفاته والمعاد لا حقيقة له في الواقع، وإنهم إنما أخبرو الجمهور بما يتخيلونه في ذلك، لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم، لا ليعرفوا بذلك الحق وأنه من جنس الكذب لمصلحة الناس، ويقولون: إن النبي حاذق بالشرائع العملية دون العلمية، ومنهم من يفضل الفيلسوف على كل نبي؛ وعلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ولا يوجبون إتباع نبي بعينه، لا محمد، ولا غيره؛ ولهذا لما ظهرت التتار، وأراد بعضهم الدخول في الإسلام قيل: إن [هولاكو] أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بألا يفعل، قال: ذاك لسانه عربي ولا تحتاجون إلى شريعته.
ومن تبع النبي منهم في الشرائع العملية لا يتبعه في أصول الدين والاعتقاد، بل النبي عدهم بمنزلة أحد الأئمة الأربعة عند المتكلمين، فإن أئمة الكلام إذا قلدوا مذهبًا من المذاهب الأربعة، اقتصروا في تقليده على القضايا الفقهية، ولا يلتزمون موافقته في الأصول ومسائل التوحيد.
بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين أفضل منهم في ذلك.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بأسمائه وصفاته المعينة، وعن الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، وليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم، وكذا أخبر عن أمور معينة مما كان وسيكون، وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم، لا البرهاني ولا غيره، فإن أقيستهم لا تفيد إلا أمورًا كلية، وهذه أمور خاصة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما يكون من الحوادث المعينة حتى أخبر عن التتر الذين جاؤوا بعد ستمائة سنة من إخباره، وكذلك عن النار التي خرجت قبل مجيء التتر سنة خمس وخمسين وستمائة هـ، فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على آدمي معين أو أمة معينة، فضلًا عن موصوف بالصفات التي ذكرها؟ ثم من بلاياهم و كفرياتهم أنهم قالوا: إن الباري تعالى لا يعلم الجزئيات، و لا يعرف عين موسى وعيسى ولا غيرهما، ولا شيئًا من تفاصيل الحوادث.
والكلام والرد عليهم في ذلك مبسوط في موضعه.
والمقصود أن يعرف الإنسان أنهم يقولون: من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال؛ فرارًا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه.
الوجه الحادي عشر: أنهم معترفون بالحسيات الظاهرة و الباطنة كالجوع والألم واللذة.
ونفوا وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس كالملائكة والجن، وما تراه النفس عند الموت، والكتاب والسنة ناطقان بإثبات ذلك، ولبسط هذه الأمور موضع آخر.
وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفي ما لم يعلم نفيه، أوجب لهم من الجهل والكفر ما صار حاجبًا، وأنهم به أسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى.
الوجه الثاني عشر: أن يقال: كون القضية [برهانية] معناه عندهم: أنها معلومة للمستدل بها، وكونها [جدلية]، معناه كونها مسلمة، وكونها [خطابية] معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة، وجميع هذه الفروق هي نسب وإضافات عارضة للقضية، ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها، فضلا عن أن تكون ذاتية لها على أصلهم، بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها، بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها.
ومعلوم أن القضية قد تكون حقًا.
والإنسان لا يشعر بها، فضلا عن أن يظنها أو يعلمها، و كذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهي حق في نفسها، بل تكون برهانية أيضًا كما قد سلموا ذلك، وإذا كان كذلك، فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هي حق في نفسها، لا تكون كذبًا باطلًا قط.
وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق القضايا ما هو مشترك.
فينتفع به جنس بني آدم، وهذا هو العلم النافع للناس.
وأما هؤلاء المتفلسفة، فلم يسلكوا هذا المسلك، بل سلكوا في القضايا الأمر النسبي فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل، وغير ذلك لم يجعلوه برهانيًا، وإن علمه مستدل آخر.
وعلى هذا، فيكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة، ما ليس من البرهانيات عند آخرين، فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع، بل تختلف باختلاف أحوال من علمها ومن لم يعلمها، حتى إن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم، وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقتهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه عند أهل كل صناعة من الحق والباطل، ومن الصدق والكذب، ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين، بخلاف طريقة الأنبياء؛ فإنهم أخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب، فكل ما ناقض الصدق فهو كذب، وكل ما ناقض الحق فهو باطل؛ فلهذا جعل الله ما أنزله من الكتاب حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنزل أيضا الميزان وما يوزن به، ويعرف به الحق من الباطل.
ولكل حق ميزان يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون؛ فإنه لا يمكن أن يكون هاديًا للحق، ولا مفرقًا بين الحق والباطل، ولا هو ميزان يعرف به الحق من الباطل.
وأما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقًا لما جاءت به الأنبياء، فهو منه.
وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعًا وعقلا.
فإن قيل: نحن نجعل البرهانيات إضافية، فكل ما علمه الإنسان بمقدماته، فهو برهاني عنده، وإن لم يكن برهانيا عند غيره.
قيل: لم يفعلوا ذلك، فإن من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في أشياء معينة، مع إمكان علم كثير من الناس لأمور أخرى بغير تلك المواد المعينة التي عينوها.
وإذا قالوا: نحن لا نعين المواد، فقد بطل أحد أجزاء المنطق وهو المطلوب.
الوجه الثالث عشر: أنهم لما ظنوا أن طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع أن الأمر ليس كذلك وقد علم الناس إما بالحس وإما بالعقل وإما بالأخبار الصادقة معلومات كثيرة، لا تعلم بطرقهم التي ذكروها، ومن ذلك ما علمه الأنبياء صلوات الله عليهم من العلوم أرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد، فقالوا: النبي له قوة أقوى من قوة غيره، وهو أن يكون بحيث ينال الحد الأوسط من غير تعليم معلم، فإذا تصور أدرك بتلك القوة الحد الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم؛ لأن قوى الأنفس في الإدراك غير محدودة، فجعلوا ما يخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي، وهذا في غاية الفساد، فإن القياس المنطقي إنما تعرف به أمور كلية كما تقدم، وهم يسلمون ذلك، والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة، فعلم بذلك أن ما علمته الرسل لم يكن بواسطة القياس المنطقي.
بل جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته في هذا الباب، تعالى الله عن قوله علوًا كبيرًا.
وقد تبين بما تقرر، فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طريق العلم، مادة وصورة، وتبين أنهم أخرجوا من العلوم الصادقة أجل وأعظم وأكثر مما أثبتوه، وأن ما ذكروه من الطريق إنما يفيد علومًا قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة، وهذه مرتبة القوم؛ فإنهم من أخس الناس علمًا وعملا، وكفار اليهود والنصارى أشرف علمًا وعملًا منهم من وجوه كثيرة، والفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل، فضلا عن درجتهم قبل ذلك.
وقد أنشد ابن القشيري في الرد على [الشفاء] لابن سينا:
قطعنا الأخوة من معـــــــشر ** بهم مرض من كتاب الشفـا
وكم قلت: يا قوم أنتم على ** شفا جرف من كتاب الشفـا
فلما استهانوا بتنبيهنـــــــــا ** رجعنا إلى الله حتى كـفـى
فماتوا على ديــن رسطالـس ** وعشــنا على ملة المصطـفى
فإن قيل: ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم، يوجد نحو منه في كلام متكلمي المسلمين، بل منهم من يذكره بعينه إما بعباراتهم، وإما بتغيير العبارة.
فالجواب: أن ليس كل ما يقوله المتكلمون حقًا، بل كل ما جاءت به الرسل فهو حق، وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يوافق ذلك فهو حق، وما قالوه مما يخالفه، فهو باطل.
وقد عرف ذم السلف والأئمة لأهل الكلام المحدث.
قال: والعجب من قوم أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة، فكان ما فعلوه مما جرأ الملحدين أعداء الدين عليه، فلا الإسلام نصروا ولا الأعداء كسروا، ثم من العجائب أنهم يتركون أتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون إلا الحق، ويعرضون عن تقليدهم ويقلدون و يساكنون مخالف ما جاؤوا به من يعلمون أنه ليس بمعصوم، وأنه يخطئ تارة ويصيب أخرى، والله الموفق للصواب.
قال السيوطي:
هذا آخر ما لخصته من كتاب ابن تيمية.
وقد أوردت عبارته بلفظه من غير تصرف في الغالب وحذفت من كتابه الكثير، فإنه في عشرين كراسًا.
ولم أحذف من المهم شيئًا، ولله الحمد والمنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
وإذا رأي المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما، وهذا قياس العكس.
وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم، فيتقى تكذيب الرسل حذرًا من العقوبة، وهذا قياس الطرد.
ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك، وهذا قياس العكس، وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين، فإن المقصود أن ما ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره.
والاعتبار يكون بهذا وبهذا.
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] وقد قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى 17]، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] .
و[الميزان] فسره السلف بالعدل، وفسره بعضهم بما يوزن به، وهما متلازمان.
وقد أخبر تعالى أنه أنزل ذلك كما أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان.
وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات، فإذا علمنا أن الله تعالى حرم الخمر لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، ثم رأينا النبيذ يماثلها في ذلك، كان القدر المشترك الذي هو العلة، هو الميزان الذي أنزله الله في قلوبنا لنزن به هذا ونجعله مثل هذا، فلا نفرق بين المتماثلين.
فالقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله به.
ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط، والمقصود بها وزن الأمور الموجودة في الخارج، و إلا فالكليات لولا جزئياتها المعينة لم يكن بها اعتبار ،كما أنه لولا الموزونات لم يكن إلى الميزان من حاجة، ولا ريب أنه إذا حضر أحد الموزونين واعتبر بالآخر بالميزان،كان أتم في الوزن من أن يكون الميزان وهو الوصف الكلي المشترك في العقل، أي شيء حضر من الأعيان المفردة وزن بها مع مغيب الآخر.
ولا يجوز لعاقل أن يظن أن الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان لوجوه:
أحدها: أن الله أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم، وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلاثمائة سنة، فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن به؟!
الثاني: أن أمتنا أهل الإسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية، ولم يسمع سلفًا بذكر هذا المنطق اليوناني، وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبًا منها.
الثالث: أنه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه، يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية، ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا اصطلاحات لفظية، و إلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الأمم، فإنه ليس الأمر كذلك، بل فيه معاني كثيرة فاسدة.
ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الأقيسة العقلية، وزعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وليس الأمر كذلك، فإنه لو احتاج الميزان إلى ميزان، لزم التسلسل.
وأيضا، فالفطرة إن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي، وإن كانت بليدة أو فاسدة لم يزدها المنطق إلا بلادة وفسادًا، ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه، لابد أن يتخبط ولا يأتي بالأدلة العقلية على الوجه المحمود ومتى أتى بها على الوجه المحمود أعرض عن اعتبارها بالمنطق؛ لما فيه من العجز والتطويل، و تبعيد الطريق، وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط.
فإنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات إلى أقيسة كلية، وضعوا ألفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا، حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين، وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة، و كانوا فيها من المطففين، {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 2- 3] وأين البخس في الأموال من البخس في العقول والأديان؟!.
مع أن أكثرهم لا يقصدون البخس، بل هم بمنزلة من ورث موازين من أبيه يزن بها تارة له، وتارة عليه، ولا يعرف أهي عادلة أم عائلة.
والميزان التي أنزلها الله مع الكتاب ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله، وخلافه، فتسوى بين المتماثلين وتفرق بين المختلفين، بما جعله الله في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف.
فإذا قيل: إن كان هذا مما يعرف بالعقل، فكيف جعله الله مما أرسل به الرسل؟
قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية.
فليست العلوم النبوية مقصورة على الخبر، بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الله علما وعملا، وضربت الأمثال فكمـلت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها، لما كانت الفطرة معرضة عنه، أو كانت الفطرة قد فسدت بما يحصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة، فأزالت ذلك الفساد، والقرآن والحديث مملوءان من هذا؛ يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة، ويبين طريق التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [الجاثية: 21] وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35- 36] أي هذا حكم جائر لا عادل، فإن فيه تسوية بين المختلفين، ومن التسوية بين المتماثلين قوله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ} [القمر: 43]، وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [البقرة: 214] .
والمقصود التنبيه على أن الميزان العقلي حق كما ذكر الله في كتابه، وليست هي مختصة بمنطق اليونان، بل هي الأقيسة الصحيحة المتضمنة للتسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل، وصيغ التمثيل هي الأصل وهي الحمل، والميزان هو القدر المشترك وهو الجامع.
الوجه الثامن: أنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا؛ الحسيات، والأوليات، والمتواترات، والمجربات، والحدسيات.
ومعلوم أنه لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرها ما جرت العادة باشتراك بني آدم فيه وتناقضوا في ذلك؛ فإن بني آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات، فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق، وإن لم يكن ما يراه هؤلاء عين ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد، وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته، فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه، بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم، وكذا أكثر المرئيات.
وأما الشم والذوق واللمس، فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه، بل الذي يشمه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه، ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء، لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين .
وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس، فإنه قد يتواتر عند هؤلاء، ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ويجربوه، ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الأدوية، ويجرب آخرون جنس تلك الأدوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب.
ثم هم مع هذا يقولون في المنطق: إن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره.
فيقال لهم: وكذلك المشمومات و المذوقات و الملموسات، بل اشتراك الناس في المتواترات أكثر؛ فإن الخبر المتواتر ينقله عدد كثير، فيكثر السامعون له، ويشتركون في سماعه من العدد الكثير، بخلاف ما يدرك بالحواس؛ فإنه يختص بمن أحسه، فإذا قال: رأيت أو سمعت أو ذقت أو لمست أو شممت، فكيف يمكنه أن يقيم من هذا برهانًا على غيره، ولو قدر أنه شاركه في تلك الحسيات عدد، فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم أحسها، ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر.
وعامة ما عندهم من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هي من العلم بعادة ذلك الموجود، وهو ما يسمونه [الحدسيات]، وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية، والعلوم الفلكية، كعلم الهيئة، فهو من قسم المجربات وهذه لا يقوم فيها برهان؛ فإن كون هذه الأجسام الطبيعية جربت، وكون الحركات جربت، لا يعرفه أكثر الناس إلا بالنقل، والتواتر في هذا قليل.
وغاية الأمر أن تنقل التجربة في ذلك عن بعض الأطباء أو بعض أهل الحساب، وغاية ما يوجد، أن يقول بطليموس: هذا مما رصده فلان، وأن يقول جالينوس: هذا مما جربته، أو ذكر لي فلان أنه جربه، وليس في هذا شيء من المتواتر.
وإن قدر أن غيره جربه أيضًا، فذاك خبر واحد، وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه، ولا علموا بالأرصاد ما ادعوا أنهم علموه، وإن ذكروا جماعة رصدوا، فغايته أنه من المتواتر الخاص الذي تنقله طائفة.
فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء، كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانًا بمثل هذا التواتر؟! ويعظم علم الهيئة والفلسفة، ويدعي أنه علم عقلي معلوم بالبرهان.
وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله،فما الظن بالإلهيات، التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين، وأن كفار اليهود والنصارى أعلم منهم بهذه الأمور.
الوجه التاسع: أن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه، بل الفراسة أيضًا وأمثالها، فإن أدخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات، لم يمكنهم نفي ما لم يذكروه ولم يبق لهم ضابط وقد ذكر ابن سينا وأتباعه أن القضايا الواجب قبولها التي هي مادة البرهان، الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات، وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها، ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر؛ ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه، وإذا كان كذلك، لم يلزم إن كل ما لم يدخل في قياسهم لا يكون معلومًا، وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ؛ فإنه إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذا الطريق، لم يمكن وزنها بهذه الأدلة.
وعامة هؤلاء المنطقيين يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم، وهذا في غاية الجهل، لاسيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء.
فإذا كان أشرف العلوم لا سبيل إلى معرفته بطريقهم، لزم أمران:
أحدهما: ألا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه.
والثاني: أن ما علموه خسيس بالنسبة إلى ما جهلوه، فكيف إذا علم أنه لا يفيد النجاة ولا السعادة؟!
الوجه العاشر: أنهم يجعلون ما هو علم يجب تصديقه ليس علما، وما هو باطل وليس بعلم، يجعلونه علما، فزعموا أن ما جاءت به الأنبياء في معرفة الله وصفاته والمعاد لا حقيقة له في الواقع، وإنهم إنما أخبرو الجمهور بما يتخيلونه في ذلك، لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم، لا ليعرفوا بذلك الحق وأنه من جنس الكذب لمصلحة الناس، ويقولون: إن النبي حاذق بالشرائع العملية دون العلمية، ومنهم من يفضل الفيلسوف على كل نبي؛ وعلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ولا يوجبون إتباع نبي بعينه، لا محمد، ولا غيره؛ ولهذا لما ظهرت التتار، وأراد بعضهم الدخول في الإسلام قيل: إن [هولاكو] أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بألا يفعل، قال: ذاك لسانه عربي ولا تحتاجون إلى شريعته.
ومن تبع النبي منهم في الشرائع العملية لا يتبعه في أصول الدين والاعتقاد، بل النبي عدهم بمنزلة أحد الأئمة الأربعة عند المتكلمين، فإن أئمة الكلام إذا قلدوا مذهبًا من المذاهب الأربعة، اقتصروا في تقليده على القضايا الفقهية، ولا يلتزمون موافقته في الأصول ومسائل التوحيد.
بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين أفضل منهم في ذلك.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بأسمائه وصفاته المعينة، وعن الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، وليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم، وكذا أخبر عن أمور معينة مما كان وسيكون، وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم، لا البرهاني ولا غيره، فإن أقيستهم لا تفيد إلا أمورًا كلية، وهذه أمور خاصة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما يكون من الحوادث المعينة حتى أخبر عن التتر الذين جاؤوا بعد ستمائة سنة من إخباره، وكذلك عن النار التي خرجت قبل مجيء التتر سنة خمس وخمسين وستمائة هـ، فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على آدمي معين أو أمة معينة، فضلًا عن موصوف بالصفات التي ذكرها؟ ثم من بلاياهم و كفرياتهم أنهم قالوا: إن الباري تعالى لا يعلم الجزئيات، و لا يعرف عين موسى وعيسى ولا غيرهما، ولا شيئًا من تفاصيل الحوادث.
والكلام والرد عليهم في ذلك مبسوط في موضعه.
والمقصود أن يعرف الإنسان أنهم يقولون: من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال؛ فرارًا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه.
الوجه الحادي عشر: أنهم معترفون بالحسيات الظاهرة و الباطنة كالجوع والألم واللذة.
ونفوا وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس كالملائكة والجن، وما تراه النفس عند الموت، والكتاب والسنة ناطقان بإثبات ذلك، ولبسط هذه الأمور موضع آخر.
وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفي ما لم يعلم نفيه، أوجب لهم من الجهل والكفر ما صار حاجبًا، وأنهم به أسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى.
الوجه الثاني عشر: أن يقال: كون القضية [برهانية] معناه عندهم: أنها معلومة للمستدل بها، وكونها [جدلية]، معناه كونها مسلمة، وكونها [خطابية] معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة، وجميع هذه الفروق هي نسب وإضافات عارضة للقضية، ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها، فضلا عن أن تكون ذاتية لها على أصلهم، بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها، بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها.
ومعلوم أن القضية قد تكون حقًا.
والإنسان لا يشعر بها، فضلا عن أن يظنها أو يعلمها، و كذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهي حق في نفسها، بل تكون برهانية أيضًا كما قد سلموا ذلك، وإذا كان كذلك، فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هي حق في نفسها، لا تكون كذبًا باطلًا قط.
وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق القضايا ما هو مشترك.
فينتفع به جنس بني آدم، وهذا هو العلم النافع للناس.
وأما هؤلاء المتفلسفة، فلم يسلكوا هذا المسلك، بل سلكوا في القضايا الأمر النسبي فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل، وغير ذلك لم يجعلوه برهانيًا، وإن علمه مستدل آخر.
وعلى هذا، فيكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة، ما ليس من البرهانيات عند آخرين، فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع، بل تختلف باختلاف أحوال من علمها ومن لم يعلمها، حتى إن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم، وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقتهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه عند أهل كل صناعة من الحق والباطل، ومن الصدق والكذب، ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين، بخلاف طريقة الأنبياء؛ فإنهم أخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب، فكل ما ناقض الصدق فهو كذب، وكل ما ناقض الحق فهو باطل؛ فلهذا جعل الله ما أنزله من الكتاب حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنزل أيضا الميزان وما يوزن به، ويعرف به الحق من الباطل.
ولكل حق ميزان يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون؛ فإنه لا يمكن أن يكون هاديًا للحق، ولا مفرقًا بين الحق والباطل، ولا هو ميزان يعرف به الحق من الباطل.
وأما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقًا لما جاءت به الأنبياء، فهو منه.
وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعًا وعقلا.
فإن قيل: نحن نجعل البرهانيات إضافية، فكل ما علمه الإنسان بمقدماته، فهو برهاني عنده، وإن لم يكن برهانيا عند غيره.
قيل: لم يفعلوا ذلك، فإن من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في أشياء معينة، مع إمكان علم كثير من الناس لأمور أخرى بغير تلك المواد المعينة التي عينوها.
وإذا قالوا: نحن لا نعين المواد، فقد بطل أحد أجزاء المنطق وهو المطلوب.
الوجه الثالث عشر: أنهم لما ظنوا أن طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع أن الأمر ليس كذلك وقد علم الناس إما بالحس وإما بالعقل وإما بالأخبار الصادقة معلومات كثيرة، لا تعلم بطرقهم التي ذكروها، ومن ذلك ما علمه الأنبياء صلوات الله عليهم من العلوم أرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد، فقالوا: النبي له قوة أقوى من قوة غيره، وهو أن يكون بحيث ينال الحد الأوسط من غير تعليم معلم، فإذا تصور أدرك بتلك القوة الحد الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم؛ لأن قوى الأنفس في الإدراك غير محدودة، فجعلوا ما يخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي، وهذا في غاية الفساد، فإن القياس المنطقي إنما تعرف به أمور كلية كما تقدم، وهم يسلمون ذلك، والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة، فعلم بذلك أن ما علمته الرسل لم يكن بواسطة القياس المنطقي.
بل جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته في هذا الباب، تعالى الله عن قوله علوًا كبيرًا.
وقد تبين بما تقرر، فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طريق العلم، مادة وصورة، وتبين أنهم أخرجوا من العلوم الصادقة أجل وأعظم وأكثر مما أثبتوه، وأن ما ذكروه من الطريق إنما يفيد علومًا قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة، وهذه مرتبة القوم؛ فإنهم من أخس الناس علمًا وعملا، وكفار اليهود والنصارى أشرف علمًا وعملًا منهم من وجوه كثيرة، والفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل، فضلا عن درجتهم قبل ذلك.
وقد أنشد ابن القشيري في الرد على [الشفاء] لابن سينا:
قطعنا الأخوة من معـــــــشر ** بهم مرض من كتاب الشفـا
وكم قلت: يا قوم أنتم على ** شفا جرف من كتاب الشفـا
فلما استهانوا بتنبيهنـــــــــا ** رجعنا إلى الله حتى كـفـى
فماتوا على ديــن رسطالـس ** وعشــنا على ملة المصطـفى
فإن قيل: ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم، يوجد نحو منه في كلام متكلمي المسلمين، بل منهم من يذكره بعينه إما بعباراتهم، وإما بتغيير العبارة.
فالجواب: أن ليس كل ما يقوله المتكلمون حقًا، بل كل ما جاءت به الرسل فهو حق، وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يوافق ذلك فهو حق، وما قالوه مما يخالفه، فهو باطل.
وقد عرف ذم السلف والأئمة لأهل الكلام المحدث.
قال: والعجب من قوم أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة، فكان ما فعلوه مما جرأ الملحدين أعداء الدين عليه، فلا الإسلام نصروا ولا الأعداء كسروا، ثم من العجائب أنهم يتركون أتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون إلا الحق، ويعرضون عن تقليدهم ويقلدون و يساكنون مخالف ما جاؤوا به من يعلمون أنه ليس بمعصوم، وأنه يخطئ تارة ويصيب أخرى، والله الموفق للصواب.
قال السيوطي:
هذا آخر ما لخصته من كتاب ابن تيمية.
وقد أوردت عبارته بلفظه من غير تصرف في الغالب وحذفت من كتابه الكثير، فإنه في عشرين كراسًا.
ولم أحذف من المهم شيئًا، ولله الحمد والمنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
- التصنيف: