اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق
منذ 2007-06-12
السؤال: اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق
الإجابة: وقد اعترض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق هذه، وقالوا:
أما قول صاحب المنطق: إن القياس لا يبني من مقدمة واحدة، فغلط؛ لأن
القائل إذا أراد مثلا أن يستدل على أن الإنسان جوهر، فله أن يستدل على
نفس الشيء المطلوب من غير تقديم المقدمتين، بأن يقول: الدليل على أن
الإنسان جوهر أنه يقبل المتضادات في أزمان مختلفة، وليس يحتاج إلى
مقدمة ثانية وهي: أن يقول: إن كل قابل للمتضادات في أزمان مختلفة
جوهر؛ لأن الخاص داخل في العام، فعلى أيهما دل استغنى عن الآخر، وقد
يستدل الإنسان إذا شاهد الأثر أن له مؤثرًا، والكتابة أن لها كاتبًا،
من غير أن يحتاج في استدلاله على صحة ذلك إلى مقدمتين.
قالوا: فنقول: إنه لابد من مقدمتين، فإذا ذكرت إحداهما استغنى بمعرفة المخاطب عن الأخرى فترك ذكرها؛ لأنه مستغن عنها. قلنا: لسنا نجد مقدمتين كل، فإذا يستدل بهما على صحة نتيجة؛ لأن القائل إذا قال: الجوهر لكل حي، والحياة لكل إنسان، فتكون النتيجة: إن الجوهر لكل إنسان، فسواء في العقول قول القائل: الجوهر لكل حي، وقوله: لكل إنسان، ولا يجدون من المطالب العملية أن المطلوب يقف على مقدمتين بينتين بأنفسهما، وإذا كان الأمر كذلك، كانت إحداهما كافية.
ونقول لهم: أرونا مقدمتين أوليين لا تحتاجان إلى برهان يتقدمهما، يستدل بهما على شيء مختلف فيه، وتكون المتقدمتان في العقول أولى بالقبول من النتيج، فإذا كنتم لا تجدون ذلك بطل ما ادعيتموه.
قال النوبختى: وقد سألت غير واحد من رؤسائهم أن يوجدنيه فما أوجدنيه فما ذكره أرسطاطاليس غير موجود ولا معروف. قال: فأما ما ذكره بعد ذلك من الشكلين الباقيين فهما غير مستعملين على ما بناهما عليه، وإذا كانا يصحان، بقلب مقدمتيهما حتى يعودا إلى الشكل الأول، فالكلام في الشكل الأول هو الكلام فيها.
انتهى.
قال ابن تيمية: و مقصوده أن سائر الأشكال إنما تنتج بالرد إلى الشكل الأول على ما تقدم بيانه فسائر الأشكال ونتاجها فيه كلفة ومشقة، مع أنه لا حاجة إليها، فإن الشكل الأول يمكن أن يستعمل جميع المواد الثبوتية والسلبية الكلية والجزئية. وقد علم انتفاء فائدته فانتفاء فائدة فروعه التي لا تفيد إلا بالرد إليه أولى وأحرى
. والمقصود أن هذه الأمة ولله الحمد لم يزل فيها من يتفطن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده.
وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيًا ورواية من غير تشاعر ولا تواطؤ.
وهذا الذي نبه عليه هؤلاء النظار يوافق ما نبهنا عليه، ويبين أنه يمكن الاستغناء عن القياس المنطقي، بل يكون استعماله تطويلا وتكثيًرا للفكر والنظر، والكلام بلا فائدة.
الوجه الثالث: أن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة، وإنما تكون كلية في الأذهان لا في الأعيان.
وأما الموجودات في الخارج، فهي أمور معينة، كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشركه فيها غيره، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين، وهم معترفون بذلك وقائلون أن القياس لا يدل على أمر معين، وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي.
فإذن القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه.
وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات، وإنما يفيد أمورًا كلية مطلقة مقدرة في الأذهان لا محققة في الأعيان، فما يذكره النظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه، لا يدل شيء منها على عينه، وإنما يدل على أمر مطلق لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
فإذا قال: هذا محدث، وكل محدث فلابد له من محدث، إنما يدل هذا على محدث مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإنما تعلم عينه بعلم آخر يجعله الله في القلوب.
وهم معترفون بهذا؛ لأن النتيجة لا تكون أبلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لابد من ذلك، والكلي لا يدل على معين، وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الآيات كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية [البقرة: 164].
إلى غير ذلك يدل على المعين كالشمس التي هي آية النهار.
والدليل أعم من القياس؛ فإن الدليل قد يكون بمعين على معين، كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة، فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه، لا على قدر مشترك بينه وبين غيره، فإن كل ما سواه مفتقر إليه نفسه، فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه.
الوجه الرابع: أن الحد الأوسط المكرر في قياس الشمول وهو الخمر من قولك: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام هو مناط الحكم في قياس التمثيل، وهو القدر المشترك الجامع بين الأصل والفرع، فالقياسان متلازمان، كل ما علم بهذا القياس، يمكن علمه بهذا القياس، ثم إن كان الدليل قطعيًا فهو قطعي في القياسين، أو ظنيًا فظني فيهما.
وأما دعوى من يدعي من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل بقياس الشمول دون قياس التمثيل، فهو قول في غاية الفساد.
وهو قول من لم يتصور حقيقة القياسين.
وقد يعلم بنص: أن كل مسكر حرام، كما ثبت في الحديث الصحيح، وإذا كان كذلك، لم يتعين قياس الشمول لإفادة الحكم بل ولا قياس من الأقيسة؛ فإنه قد يعلم بلا قياس، فبطل قولهم لا علم تصديقي إلا بالقياس المنطقي كما تقدم.
والمقصود هنا بيان قلة منفعته أو عدمها، فإن المطلوب إن كان ثم قضية علمت من جهة الرسول تفيد العموم، وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه، فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسول تفيد العلم في المطالب الإلهية، وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه إما منتقضة وإما أنها بمنزلة قياس التمثيل، وإما أنها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة، بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة؛ فإنه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار، فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس، فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها، بل يشترك فيها سائر الأمم بدون خطور منطقهم بالبال، مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول.
وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفًا على الأقيسة، بل يعلم بالآيات الدالة على معين لا شركة فيه يحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر، وما يحصل منها بالشمول فهو بمنزلة ما يحصل بالتمثيل أمر كلي، لا يحصل به العلم بما يختص به الرب، وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر إليه.
الوجه الخامس: أن يقال: هذا القياس الشمولي وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد فنقول: قد علم وسلموا أنه لابد أن يكون العلم بثبوت بعض الأحكام لبعض الأفراد بديهيًا؛ فإن النتيجة إذا افتقرت إلى مقدمتين فلابد أن ينتهي الأمر إلى مقدمتين تعلمان بدون مقدمتين، و إلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان، وإذا فرض مقدمتان طريق العلم بهما واحد، لم يحتج إلى القياس كالعلم بأن كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة.
فالعلم بأن كل إنسان متحرك بالإرادة، أبين وأظهر.
فالمقدمتان إن كان طريق العلم بهما واحدًا.
وقد علمتا فلا حاجة إلى بيانهما.
وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج إلى بيانها ولم يحتج إلى بيان الأخرى التي علمها.
وهذا ظاهر في كل ما يقدره.
فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الأذهان.
الوجه السادس: لا ريب أن المقدمة الكبرى أعم من الصغرى أو مثلها، ولا تكون أخص منها، و النتيجة أخص من الكبرى، أو مساوية لها، وأعم من الصغرى أو مثلها، ولا تكون أخص منها، والحس يدرك المعينات أولا، ثم ينتقل منها إلى القضايا العامة.
فيرى هذا الإنسان وهذا الإنسان، و كل مما رآه حساس متحرك بالإرادة، فنقول: العلم بالقضية العامة.
أما إن يكون بتوسط قياس، والقياس لابد فيه من قضية عامة، فلزم ألا يعلم العام إلا بعام، و ذلك يستلزم الدور أو التسلسل، فلابد أن ينتهي الأمر إلى قضية كلية عامة معلومة بالبديهة.
وهم يسلمون ذلك، وإن أمكن علم القضية العام بغير توسط قياس، أمكن علم الأخرى.
فإن كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفًا لازمًا لها يجب استواء جميع الناس فيه، بل هو أمر نسبي إضافي بحسب حال الناس، فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له، ومن احتاج إلى نظر واستدلال، كانت نظرية له، وهكذا سائر الأمور، فإذا كانت القضايا الكلية منها ما يعلم بلا دليل ولا قياس، وليس لذلك حد في نفس القضايا، بل ذلك بحسب أحوال بني آدم، لم يمكن أن يقال فيما علمه زيد بالقياس: إنه لا يمكن غيره أن يعلمه بلا قياس، بل هذا نفي كاذب.
الوجه السابع: قد تبين فيمـا تقـدم أن قياس الشمول يمكن جعـله قياس تمثيل وبالعكس.
فإن قيل: من أين تعلم بأن الجامع يستلزم الحكم؟
قيل: من حيث تعلم القضية الكبرى في قياس الشمول.
فإذا قال القائل: هذا فاعل محكم لفعله، وكل محكم لفعله فهو عالم، فأي شيء ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل، وزيادة أن هناك أصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك، وفي الشمول لم يذكر شيء من الأفراد التي ثبت الحكم فيها، ومعلوم أن ذكر الكلي المشترك مع بعض أفراده أثبت في العقل من ذكره مجردًا عن جميع الأفراد باتفاق العقلاء.
ولهذا قالوا: إن العقل تابع للحس فإذا أدرك الحس الجزئيات، أدرك العقل منها قدرًا مشتركًا كليًا، فالكليات تقع في النفس بعد معرفة الجزئيات المعينة، فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الأسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفًا للقياس، وعدم ذكرها موجبا لقوته؟! وهذه خاصة العقل؛ فإن خاصة العقل معرفة الكليات بتوسط معرفة الجزئيات.
فمن أنكرها أنكر خاصة عقل الإنسان، ومن جعل ذكرها بدون شيء من محالها المعينة أقوي من ذكرها مع التمثيل بمواضعها المعينة، كان مكابراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
قالوا: فنقول: إنه لابد من مقدمتين، فإذا ذكرت إحداهما استغنى بمعرفة المخاطب عن الأخرى فترك ذكرها؛ لأنه مستغن عنها. قلنا: لسنا نجد مقدمتين كل، فإذا يستدل بهما على صحة نتيجة؛ لأن القائل إذا قال: الجوهر لكل حي، والحياة لكل إنسان، فتكون النتيجة: إن الجوهر لكل إنسان، فسواء في العقول قول القائل: الجوهر لكل حي، وقوله: لكل إنسان، ولا يجدون من المطالب العملية أن المطلوب يقف على مقدمتين بينتين بأنفسهما، وإذا كان الأمر كذلك، كانت إحداهما كافية.
ونقول لهم: أرونا مقدمتين أوليين لا تحتاجان إلى برهان يتقدمهما، يستدل بهما على شيء مختلف فيه، وتكون المتقدمتان في العقول أولى بالقبول من النتيج، فإذا كنتم لا تجدون ذلك بطل ما ادعيتموه.
قال النوبختى: وقد سألت غير واحد من رؤسائهم أن يوجدنيه فما أوجدنيه فما ذكره أرسطاطاليس غير موجود ولا معروف. قال: فأما ما ذكره بعد ذلك من الشكلين الباقيين فهما غير مستعملين على ما بناهما عليه، وإذا كانا يصحان، بقلب مقدمتيهما حتى يعودا إلى الشكل الأول، فالكلام في الشكل الأول هو الكلام فيها.
انتهى.
قال ابن تيمية: و مقصوده أن سائر الأشكال إنما تنتج بالرد إلى الشكل الأول على ما تقدم بيانه فسائر الأشكال ونتاجها فيه كلفة ومشقة، مع أنه لا حاجة إليها، فإن الشكل الأول يمكن أن يستعمل جميع المواد الثبوتية والسلبية الكلية والجزئية. وقد علم انتفاء فائدته فانتفاء فائدة فروعه التي لا تفيد إلا بالرد إليه أولى وأحرى
. والمقصود أن هذه الأمة ولله الحمد لم يزل فيها من يتفطن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده.
وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيًا ورواية من غير تشاعر ولا تواطؤ.
وهذا الذي نبه عليه هؤلاء النظار يوافق ما نبهنا عليه، ويبين أنه يمكن الاستغناء عن القياس المنطقي، بل يكون استعماله تطويلا وتكثيًرا للفكر والنظر، والكلام بلا فائدة.
الوجه الثالث: أن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة، وإنما تكون كلية في الأذهان لا في الأعيان.
وأما الموجودات في الخارج، فهي أمور معينة، كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشركه فيها غيره، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين، وهم معترفون بذلك وقائلون أن القياس لا يدل على أمر معين، وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي.
فإذن القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه.
وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات، وإنما يفيد أمورًا كلية مطلقة مقدرة في الأذهان لا محققة في الأعيان، فما يذكره النظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه، لا يدل شيء منها على عينه، وإنما يدل على أمر مطلق لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
فإذا قال: هذا محدث، وكل محدث فلابد له من محدث، إنما يدل هذا على محدث مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإنما تعلم عينه بعلم آخر يجعله الله في القلوب.
وهم معترفون بهذا؛ لأن النتيجة لا تكون أبلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لابد من ذلك، والكلي لا يدل على معين، وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الآيات كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية [البقرة: 164].
إلى غير ذلك يدل على المعين كالشمس التي هي آية النهار.
والدليل أعم من القياس؛ فإن الدليل قد يكون بمعين على معين، كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة، فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه، لا على قدر مشترك بينه وبين غيره، فإن كل ما سواه مفتقر إليه نفسه، فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه.
الوجه الرابع: أن الحد الأوسط المكرر في قياس الشمول وهو الخمر من قولك: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام هو مناط الحكم في قياس التمثيل، وهو القدر المشترك الجامع بين الأصل والفرع، فالقياسان متلازمان، كل ما علم بهذا القياس، يمكن علمه بهذا القياس، ثم إن كان الدليل قطعيًا فهو قطعي في القياسين، أو ظنيًا فظني فيهما.
وأما دعوى من يدعي من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل بقياس الشمول دون قياس التمثيل، فهو قول في غاية الفساد.
وهو قول من لم يتصور حقيقة القياسين.
وقد يعلم بنص: أن كل مسكر حرام، كما ثبت في الحديث الصحيح، وإذا كان كذلك، لم يتعين قياس الشمول لإفادة الحكم بل ولا قياس من الأقيسة؛ فإنه قد يعلم بلا قياس، فبطل قولهم لا علم تصديقي إلا بالقياس المنطقي كما تقدم.
والمقصود هنا بيان قلة منفعته أو عدمها، فإن المطلوب إن كان ثم قضية علمت من جهة الرسول تفيد العموم، وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه، فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسول تفيد العلم في المطالب الإلهية، وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه إما منتقضة وإما أنها بمنزلة قياس التمثيل، وإما أنها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة، بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة؛ فإنه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار، فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس، فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها، بل يشترك فيها سائر الأمم بدون خطور منطقهم بالبال، مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول.
وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفًا على الأقيسة، بل يعلم بالآيات الدالة على معين لا شركة فيه يحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر، وما يحصل منها بالشمول فهو بمنزلة ما يحصل بالتمثيل أمر كلي، لا يحصل به العلم بما يختص به الرب، وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر إليه.
الوجه الخامس: أن يقال: هذا القياس الشمولي وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد فنقول: قد علم وسلموا أنه لابد أن يكون العلم بثبوت بعض الأحكام لبعض الأفراد بديهيًا؛ فإن النتيجة إذا افتقرت إلى مقدمتين فلابد أن ينتهي الأمر إلى مقدمتين تعلمان بدون مقدمتين، و إلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان، وإذا فرض مقدمتان طريق العلم بهما واحد، لم يحتج إلى القياس كالعلم بأن كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة.
فالعلم بأن كل إنسان متحرك بالإرادة، أبين وأظهر.
فالمقدمتان إن كان طريق العلم بهما واحدًا.
وقد علمتا فلا حاجة إلى بيانهما.
وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج إلى بيانها ولم يحتج إلى بيان الأخرى التي علمها.
وهذا ظاهر في كل ما يقدره.
فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الأذهان.
الوجه السادس: لا ريب أن المقدمة الكبرى أعم من الصغرى أو مثلها، ولا تكون أخص منها، و النتيجة أخص من الكبرى، أو مساوية لها، وأعم من الصغرى أو مثلها، ولا تكون أخص منها، والحس يدرك المعينات أولا، ثم ينتقل منها إلى القضايا العامة.
فيرى هذا الإنسان وهذا الإنسان، و كل مما رآه حساس متحرك بالإرادة، فنقول: العلم بالقضية العامة.
أما إن يكون بتوسط قياس، والقياس لابد فيه من قضية عامة، فلزم ألا يعلم العام إلا بعام، و ذلك يستلزم الدور أو التسلسل، فلابد أن ينتهي الأمر إلى قضية كلية عامة معلومة بالبديهة.
وهم يسلمون ذلك، وإن أمكن علم القضية العام بغير توسط قياس، أمكن علم الأخرى.
فإن كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفًا لازمًا لها يجب استواء جميع الناس فيه، بل هو أمر نسبي إضافي بحسب حال الناس، فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له، ومن احتاج إلى نظر واستدلال، كانت نظرية له، وهكذا سائر الأمور، فإذا كانت القضايا الكلية منها ما يعلم بلا دليل ولا قياس، وليس لذلك حد في نفس القضايا، بل ذلك بحسب أحوال بني آدم، لم يمكن أن يقال فيما علمه زيد بالقياس: إنه لا يمكن غيره أن يعلمه بلا قياس، بل هذا نفي كاذب.
الوجه السابع: قد تبين فيمـا تقـدم أن قياس الشمول يمكن جعـله قياس تمثيل وبالعكس.
فإن قيل: من أين تعلم بأن الجامع يستلزم الحكم؟
قيل: من حيث تعلم القضية الكبرى في قياس الشمول.
فإذا قال القائل: هذا فاعل محكم لفعله، وكل محكم لفعله فهو عالم، فأي شيء ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل، وزيادة أن هناك أصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك، وفي الشمول لم يذكر شيء من الأفراد التي ثبت الحكم فيها، ومعلوم أن ذكر الكلي المشترك مع بعض أفراده أثبت في العقل من ذكره مجردًا عن جميع الأفراد باتفاق العقلاء.
ولهذا قالوا: إن العقل تابع للحس فإذا أدرك الحس الجزئيات، أدرك العقل منها قدرًا مشتركًا كليًا، فالكليات تقع في النفس بعد معرفة الجزئيات المعينة، فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الأسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفًا للقياس، وعدم ذكرها موجبا لقوته؟! وهذه خاصة العقل؛ فإن خاصة العقل معرفة الكليات بتوسط معرفة الجزئيات.
فمن أنكرها أنكر خاصة عقل الإنسان، ومن جعل ذكرها بدون شيء من محالها المعينة أقوي من ذكرها مع التمثيل بمواضعها المعينة، كان مكابراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
- التصنيف: