قول المتأخرين: إن تعلم المنطق فرض على الكفاية
منذ 2007-06-14
السؤال: قول المتأخرين: إن تعلم المنطق فرض على الكفاية
الإجابة: من قال من المتأخرين: إن تعلم المنطق فرض علىى الكفاية، أو أنه من
شروط الاجتهاد، فإنه يدل على جهله بالشرع، وجهله بفائدة
المنطق.
وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم ويكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف المنطق اليوناني، فكيف يقال: إنه لا يوثق بالعلم إن لم يوزن به، أو يقال: إن فطر بني آدم في الغالب لم تستقم إلا به؟! فإن قالوا: نحن لا نقول: إن الناس يحتاجون إلى اصطلاح المنطقيين، بل إلى المعاني التي توزن بها العلوم.
قيل: لا ريب أن المجهول لا يعرف إلا بالمعلومات، والناس يحتاجون إلى أن يزنوا ما جهلوه بما علموه، وهذا من الموازين التي أنزلها الله، حيث قال: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25].
وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا، ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان، فعلم أن الأمم غير محتاجة إلى المعاني المنطقية التي عبروا عنها بلسانهم، وهو كلامهم في المعقولات الثانية، فإن [ موضوع المنطق] هو المعقولات من حيث يتوصل بها إلى علم ما لم يعلم فإنه ينظر في أحوال المعقولات الثانية، وهي النسب الثانية للماهيات من حيث هي مطلقة عرض لها، إن كانت موصلة إلى تحصيل ما ليس بحاصل، أو معينة في ذلك لا على وجه جزئي، بل على قانون كلي ويدعون أن صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل، كما أن صاحب أصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته، فيميز ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي.
وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض.
وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أعم من الشرعي، ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل، ويدعون أن نسبة منطقهم إلى المعاني؛ كنسبة العروض إلى الشعر، وموازين الأموال إلى الأموال، وموازين الأوقات إلى الأوقات، وكنسبة الذراع إلى المذروعات.
وهذا هو الذي قال جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء أنه باطل؛ فإن منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل، لا في صورة الدليل ولا في مادته، ولا يحتاج أن توزن به المعاني، بل ولا يصح وزن المعاني به، بل هذه الدعوى من أكذب الدعاوي.
والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق، وزعموا أن التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها، والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها، فذكروا لمنطقهم أربع دعاوي: دعوتان سالبتان، ودعوتان موجبتان.
ادعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق وأن التصديقات لا تنال بغير ما ذكروه فيه من الطريق، وهاتان الدعوتان من أظهر الدعاوى كذبا ، وادعوا أن ما ذكروه من الطريق يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصورة، وهذا أيضا باطل.
وقد تقدم التنبية على هذه الدعاوي الثلاثة، وسيأتي الكلام على دعواهم الرابعة التي هي أمثل من غيرها، وهي دعواهم أن برهانهم يفيد العلم التصديقي.
وإن قالوا: إن العلم التصديقي أو التصوري أيضاً لا ينال بدونه، فهم ادعوا أن طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة إلا من الطريقتين اللتين ذكروهما من الحد، وما ذكروه من القياس.
وادعوا أن ما ذكروه من الطريقتين توصلان إلى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم، بمعنى أن ما يوصل لابد أن يكون على الطريق الذي ذكروه لا على غيره، فما ذكروه آلة قانونية بها توزن الطرق العلمية، ويميز بها بين الطريق الصحيحة والفاسدة، فمراعاة هذا القانون تعصم الذهن أن يزل في الفكر الذي ينال به تصور أو تصديق.
هذا ملخص ما قالوه.
وكل هذه الدعاوى كذب في النفي والإثبات، فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل، ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي ادعوا فيه، وإن كان في طرقهم ما هو حق، كما أن في طرق غيرهم ما هو باطل، فما من أحد منهم ولا من غيرهم يصنف كلاما إلا ولابد أن يتضمن ما هو حق.
فمع اليهود والنصارى من الحق بالنسبة إلى مجموع ما معهم أكثر مما مع هؤلاء من الحق، بل ومع المشركين عباد الأصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع هؤلاء بالنسبة إلى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعملية للأخلاق والمنازل والمدائن.
ولهذا كان اليونان مشركين كفاراً يعبدون الكواكب والأصنام، شراً من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير، ولولا أن الله منَّ عليهم بدخول دين المسيح إليهم، فحصل لهم من الهدي والتوحيد ما استفادوه من دين المسيح، ما داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل، لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين، ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا في دين مركب من حنيفية وشرك بعضه حق وبعضه باطل، وهو خير من الدين الذي كان عليه أسلافهم.
وكلامنا هنا في [بيان ضلال هؤلاء المتفلسفة] الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم، فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات، كقولهم: إن أرسطو وزير ذي القرنين المذكور في القرآن؛ لأنهم سمعوا أنه كان وزير الإسكندر، وذو القرنين يقال له: الإسكندر.
وهذا من جهلهم، فإن الإسكندر الذي وزر له أرسطو هو ابن فيلبس المقدوني، الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى، وهو إنما ذهب إلى أرض القدس، لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره، وكان مشركا يعبد الأصنام، وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام وذو القرنين كان موحداً مؤمنا بالله.
وكان متقدما على هذا، ومن يسميه الإسكندر يقول: هو الإسكندر بن دارا.
ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين، كالقرامطة والباطنية، الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفاراً وإما منافقين، كما نفق من نفق منهم على المنافقين الملاحدة، ثم نفق على المشركين الترك، وكذلك إنما ينفقون دائما على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين.
وكلامنا الآن فيما احتجوا به على أنه لابد في الدليل من مقدمتين لا أكثر ولا أقل، وقد علم ضعفه.
ثم إنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وقد تكفي فيه مقدمة واحدة، قالوا: إنه ربما أدرج في القياس قول زائد، أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح كبيان المقدمتين، ويسمونه المركب.
قالوا: ومضمونه أقيسة متعددة، سيقت لبيان أكثر من مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها بالذات ليس إلا واحداً.
قالوا: وربما حذفت إحدى المقدمات إما للعلم بها أو لغرض فاسد، وقسموا المركب إلى مفصول وموصول.
فيقال: هذا اعتراف منكم بأن من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات، وما يكفي فيه مقدمة واحدة.
ثم قلتم: إن ذلك الذي يحتاج إلى مقدمات هو في معنى أقيسة متعددة فيقال لكم: إذا ادعيتم أن الذي لابد منه إنما هو قياس واحد مشتمل على مقدمتين، وأن ما زاد على ذلك هو في معنى أقيسة، كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات، فقولوا: إن الذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وإن ما زاد على تلك المقدمة، من المقدمات؛ فإنما هو لبيان تلك المقدمة.
وهذا أقرب إلى المعقول.
فإنه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف، وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه، وهو ثبوت الخبر للمبتدأ، أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل، فالذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وما زاد على ذلك فقد يحتاج إليه وقد لا يحتاج إليه.
وأما دعوى الحاجة إلى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج في بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس؛ للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب، وليس تقدير عدد بأولى من عدد.
وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو لتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة، ومن احتج على مسألة بمقدمة، لا تكفي وحدها لبيان المطلوب، أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفي، طولب بالتمام الذي تحصل به كفاية.
وإذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع، وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال، فمن طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص قال: هذا حرام، فقيل له: لم ؟ قال: لأنه نبيذ مسكر، فهذه المقدمة كافية إن كان المستمع يعلم أن كل مسكر حرام، إذا سلم له تلك المقدمة، وإن منعه إياها وقال: لا نسلم أن هذا مسكر، احتاج إلى بيانها بخبر من يوثق بخبره أو بالتجربة في نظيرها، وهذا قياس تمثيل، وهو مفيد لليقين، فإن الشراب الكثير إذا جرب بعضه وعلم أنه مسكر، علم أن الباقي منه مسكر؛ لأن حكم بعضه مثل بعضه.
وكذلك سائر القضايا التجريبية، كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وأمثال ذلك إنما مبناها على قياس التمثيل: بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية، إنما هو بواسطة قياس التمثيل.
وإن كان ممن ينازعه في أن النبيذ المسكر حرام، احتاج إلى مقدمتين إلى إثبات أن هذا مسكر، وإلى أن كل مسكر حرام فيثبت الثانية بأدلة متعددة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم و .
وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل يقال البتع، وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر، وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال .
وهذه الأحاديث في الصحيح، وهي وأضعافها معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه حرم كل شراب أسكر.
فإن قال: أنا أعلم أنه خمر، لكن لا أسلم أن الخمر حرام، أو لا أسلم أنه حرام مطلقاً، أثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا.
وما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب، أن الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه، كما تقدم بيانه، ولما كان الحد الأول مستلزماً للأوسط، والأوسط للثالث، ثبت أن الأول مستلزم للثالث، فإن ملزوم الملزوم ملزوم، ولازم اللازم لازم، فإن الحكم لازم من لوازم الدليل، لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما، فالوسط ما يقرن بقولك: لأنه.
وهذا مما ذكره المنطقيون، وابن سينا وغيره؛ ذكروا الصفات اللازمة للموصوف، وأن منها ما يكون بين اللزوم.
وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر إلى وسط بخلاف الذاتي، فقالوا له: كثير من الصفات اللازمة لا تفتقر إلى وسط، وهي البينة اللزوم، والوسط عند هؤلاء هو الدليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم ويكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف المنطق اليوناني، فكيف يقال: إنه لا يوثق بالعلم إن لم يوزن به، أو يقال: إن فطر بني آدم في الغالب لم تستقم إلا به؟! فإن قالوا: نحن لا نقول: إن الناس يحتاجون إلى اصطلاح المنطقيين، بل إلى المعاني التي توزن بها العلوم.
قيل: لا ريب أن المجهول لا يعرف إلا بالمعلومات، والناس يحتاجون إلى أن يزنوا ما جهلوه بما علموه، وهذا من الموازين التي أنزلها الله، حيث قال: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25].
وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا، ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان، فعلم أن الأمم غير محتاجة إلى المعاني المنطقية التي عبروا عنها بلسانهم، وهو كلامهم في المعقولات الثانية، فإن [ موضوع المنطق] هو المعقولات من حيث يتوصل بها إلى علم ما لم يعلم فإنه ينظر في أحوال المعقولات الثانية، وهي النسب الثانية للماهيات من حيث هي مطلقة عرض لها، إن كانت موصلة إلى تحصيل ما ليس بحاصل، أو معينة في ذلك لا على وجه جزئي، بل على قانون كلي ويدعون أن صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل، كما أن صاحب أصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته، فيميز ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي.
وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض.
وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أعم من الشرعي، ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل، ويدعون أن نسبة منطقهم إلى المعاني؛ كنسبة العروض إلى الشعر، وموازين الأموال إلى الأموال، وموازين الأوقات إلى الأوقات، وكنسبة الذراع إلى المذروعات.
وهذا هو الذي قال جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء أنه باطل؛ فإن منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل، لا في صورة الدليل ولا في مادته، ولا يحتاج أن توزن به المعاني، بل ولا يصح وزن المعاني به، بل هذه الدعوى من أكذب الدعاوي.
والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق، وزعموا أن التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها، والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها، فذكروا لمنطقهم أربع دعاوي: دعوتان سالبتان، ودعوتان موجبتان.
ادعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق وأن التصديقات لا تنال بغير ما ذكروه فيه من الطريق، وهاتان الدعوتان من أظهر الدعاوى كذبا ، وادعوا أن ما ذكروه من الطريق يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصورة، وهذا أيضا باطل.
وقد تقدم التنبية على هذه الدعاوي الثلاثة، وسيأتي الكلام على دعواهم الرابعة التي هي أمثل من غيرها، وهي دعواهم أن برهانهم يفيد العلم التصديقي.
وإن قالوا: إن العلم التصديقي أو التصوري أيضاً لا ينال بدونه، فهم ادعوا أن طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة إلا من الطريقتين اللتين ذكروهما من الحد، وما ذكروه من القياس.
وادعوا أن ما ذكروه من الطريقتين توصلان إلى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم، بمعنى أن ما يوصل لابد أن يكون على الطريق الذي ذكروه لا على غيره، فما ذكروه آلة قانونية بها توزن الطرق العلمية، ويميز بها بين الطريق الصحيحة والفاسدة، فمراعاة هذا القانون تعصم الذهن أن يزل في الفكر الذي ينال به تصور أو تصديق.
هذا ملخص ما قالوه.
وكل هذه الدعاوى كذب في النفي والإثبات، فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل، ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي ادعوا فيه، وإن كان في طرقهم ما هو حق، كما أن في طرق غيرهم ما هو باطل، فما من أحد منهم ولا من غيرهم يصنف كلاما إلا ولابد أن يتضمن ما هو حق.
فمع اليهود والنصارى من الحق بالنسبة إلى مجموع ما معهم أكثر مما مع هؤلاء من الحق، بل ومع المشركين عباد الأصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع هؤلاء بالنسبة إلى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعملية للأخلاق والمنازل والمدائن.
ولهذا كان اليونان مشركين كفاراً يعبدون الكواكب والأصنام، شراً من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير، ولولا أن الله منَّ عليهم بدخول دين المسيح إليهم، فحصل لهم من الهدي والتوحيد ما استفادوه من دين المسيح، ما داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل، لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين، ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا في دين مركب من حنيفية وشرك بعضه حق وبعضه باطل، وهو خير من الدين الذي كان عليه أسلافهم.
وكلامنا هنا في [بيان ضلال هؤلاء المتفلسفة] الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم، فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات، كقولهم: إن أرسطو وزير ذي القرنين المذكور في القرآن؛ لأنهم سمعوا أنه كان وزير الإسكندر، وذو القرنين يقال له: الإسكندر.
وهذا من جهلهم، فإن الإسكندر الذي وزر له أرسطو هو ابن فيلبس المقدوني، الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى، وهو إنما ذهب إلى أرض القدس، لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره، وكان مشركا يعبد الأصنام، وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام وذو القرنين كان موحداً مؤمنا بالله.
وكان متقدما على هذا، ومن يسميه الإسكندر يقول: هو الإسكندر بن دارا.
ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين، كالقرامطة والباطنية، الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفاراً وإما منافقين، كما نفق من نفق منهم على المنافقين الملاحدة، ثم نفق على المشركين الترك، وكذلك إنما ينفقون دائما على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين.
وكلامنا الآن فيما احتجوا به على أنه لابد في الدليل من مقدمتين لا أكثر ولا أقل، وقد علم ضعفه.
ثم إنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وقد تكفي فيه مقدمة واحدة، قالوا: إنه ربما أدرج في القياس قول زائد، أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح كبيان المقدمتين، ويسمونه المركب.
قالوا: ومضمونه أقيسة متعددة، سيقت لبيان أكثر من مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها بالذات ليس إلا واحداً.
قالوا: وربما حذفت إحدى المقدمات إما للعلم بها أو لغرض فاسد، وقسموا المركب إلى مفصول وموصول.
فيقال: هذا اعتراف منكم بأن من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات، وما يكفي فيه مقدمة واحدة.
ثم قلتم: إن ذلك الذي يحتاج إلى مقدمات هو في معنى أقيسة متعددة فيقال لكم: إذا ادعيتم أن الذي لابد منه إنما هو قياس واحد مشتمل على مقدمتين، وأن ما زاد على ذلك هو في معنى أقيسة، كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات، فقولوا: إن الذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وإن ما زاد على تلك المقدمة، من المقدمات؛ فإنما هو لبيان تلك المقدمة.
وهذا أقرب إلى المعقول.
فإنه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف، وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه، وهو ثبوت الخبر للمبتدأ، أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل، فالذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وما زاد على ذلك فقد يحتاج إليه وقد لا يحتاج إليه.
وأما دعوى الحاجة إلى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج في بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس؛ للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب، وليس تقدير عدد بأولى من عدد.
وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو لتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة، ومن احتج على مسألة بمقدمة، لا تكفي وحدها لبيان المطلوب، أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفي، طولب بالتمام الذي تحصل به كفاية.
وإذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع، وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال، فمن طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص قال: هذا حرام، فقيل له: لم ؟ قال: لأنه نبيذ مسكر، فهذه المقدمة كافية إن كان المستمع يعلم أن كل مسكر حرام، إذا سلم له تلك المقدمة، وإن منعه إياها وقال: لا نسلم أن هذا مسكر، احتاج إلى بيانها بخبر من يوثق بخبره أو بالتجربة في نظيرها، وهذا قياس تمثيل، وهو مفيد لليقين، فإن الشراب الكثير إذا جرب بعضه وعلم أنه مسكر، علم أن الباقي منه مسكر؛ لأن حكم بعضه مثل بعضه.
وكذلك سائر القضايا التجريبية، كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وأمثال ذلك إنما مبناها على قياس التمثيل: بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية، إنما هو بواسطة قياس التمثيل.
وإن كان ممن ينازعه في أن النبيذ المسكر حرام، احتاج إلى مقدمتين إلى إثبات أن هذا مسكر، وإلى أن كل مسكر حرام فيثبت الثانية بأدلة متعددة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم و .
وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل يقال البتع، وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر، وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال .
وهذه الأحاديث في الصحيح، وهي وأضعافها معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه حرم كل شراب أسكر.
فإن قال: أنا أعلم أنه خمر، لكن لا أسلم أن الخمر حرام، أو لا أسلم أنه حرام مطلقاً، أثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا.
وما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب، أن الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه، كما تقدم بيانه، ولما كان الحد الأول مستلزماً للأوسط، والأوسط للثالث، ثبت أن الأول مستلزم للثالث، فإن ملزوم الملزوم ملزوم، ولازم اللازم لازم، فإن الحكم لازم من لوازم الدليل، لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما، فالوسط ما يقرن بقولك: لأنه.
وهذا مما ذكره المنطقيون، وابن سينا وغيره؛ ذكروا الصفات اللازمة للموصوف، وأن منها ما يكون بين اللزوم.
وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر إلى وسط بخلاف الذاتي، فقالوا له: كثير من الصفات اللازمة لا تفتقر إلى وسط، وهي البينة اللزوم، والوسط عند هؤلاء هو الدليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
- التصنيف: