ما يدركه المسبوق مع الإمام في الصلاة هل هو أولها أو آخرها؟
إذا دخل المسبوق مع الإمام في الصلاة، فهل يستفتح -بناء على أن ما يدركه معه أول صلاته- أم يؤخر ذلك لما يقضيه بعد سلام إمامه، بناء على أن ما يدركه معه آخر صلاته؟ أرجو إيضاح هذه المسألة لكثرة وقوعها.
هذه المسألة مما اختلف فيه العلماء. فالمشهور من المذهب -عند المتأخرين- أن ما يدركه المسبوق مع إمامه هو آخر صلاته، وما يقضيه بعد سلام إمامه هو أولها. ويروى ذلك عن ابن عمر، ومجاهد، وابن سيرين، ومالك، والثوري، وحُكي عن الشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف. ذكره في (الشرح الكبير) (1).
واستدل أصحاب هذا القول بما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " " (2)، والقول الثاني: أن ما يدركه المأموم مع إمامه أولُ صلاته، وما يقضيه آخُرها. وهو رواية عن الإمام أحمد، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعمر ابن عبد العزيز، وإسحاق. وهو قول الشافعي، ورواية عن الإمام مالك. واختاره ابن المنذر. واستدل القائلون بهذا بالرواية الأخرى من الحديث الذي أورده أصحاب القول الأول؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق: " " (3).
فعلى القول الأول؛ إذا دخل المسبوق مع الإمام لا يستفتح، ولا يستعيذ إن لم يقرأ، ولا يقرأ السورة بعد الفاتحة، ويتورك مع إمامه في التشهد الأخير. فإذا قام لقضاء ما فاته استفتح بسبحانك اللهم...، ونحوها، واستعاذ، وقرأ السورة بعد الفاتحة. ولو كان مسبوقا بصلاة العيد كبر فيما يقضيه ست تكبيرات؛ لأنها المشروعة في الركعة الأولى. إلا أنه لو أدرك ركعة من المغرب، فإذا قام ليقضي ما فاته بعد سلام إمامه وصلى ركعة، جلس للتشهد الأول.
وهذا موافق للرواية الأخرى. قالوا: لئلا يفضي إلى تغيير هيئة الصلاة؛ لأنه لو تشهد عقب ركعتين لزم منه قطع المغرب على شفع، وليست كذلك.
ومثله: لو أدرك ركعة من الرباعية، فإنه يتشهد عقب ركعة أخرى؛ لئلا يلزم منه قطع الرباعية على وتر، وليست كذلك.
والقول الثاني بخلاف ذلك كله؛ فيستفتح فيما يدركه مع إمامه، ويستعيذ، ويقرأ السورة بعد الفاتحة. وإذا قام لقضاء ما فاته اكتفى بالاستفتاح المتقدم.
ومن تتبع كلام العلماء على روايتي حديث أبي هريرة السابق وجد أن رواية: " " أكثر رواة، وأصح إسنادا عند كثير من أهل الحديث، مع أن رواية: " " لا تخالف رواية: " " لمن تدبر المعنى؛ لأن القضاء يراد به الإتمام، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (4)، و{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} (5).
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (6): وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " " أي: أكملوا. هذا هو الصحيح في رواية الزهري. ورواه ابن عيينة بلفظ: " "، وحكم عليه مسلم بالوهم في هذه اللفظة مع أنه أخرج إسناده في (صحيحه)، لكنه لم يسق لفظه.
قال: والحاصل أن أكثر الروايات ورد بلفظ: " "، وأقلها بلفظ: " "، وإنما تظهر فائدة ذلك إن جعلنا بين القضاء والإتمام مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدًا، واختلفوا في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد، كان أولى. وهنا كذلك؛ لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا، لكن يطلق على الأداء أيضا، ويرد لمعان أُخَر. فيحمل قوله هنا: " " على معنى الأداء، أو الفراغ، فلا يغاير قوله: " "، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية: " " على أن ما أدركه المأموم مع الإمام هو آخر صلاته حتى استحب الجهر في الركعتين، وقراءة السورة. بل هو أولها، وإن كان آخر صلاة إمامه؛ لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدم.
وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرها لما احتاج إلى إعادة التشهد. انتهى ملخصا.
فظهر بما ذكرناه أن القول الصحيح: أن ما يدركه المأموم مع إمامه هو أول صلاته، وما يقضيه بعد سلامه هو آخرها. والله أعلم.
___________________________________________
1 - (2/ 11).
2 - لفظة: " "، أخرجها أحمد (2/ 238)، والحميدي (935)، والبخاري في (القراءة خلف الإمام) (177)، والترمذي (327، 329)، والنسائي (2/ 114) وغيرهم، من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، مرفوعًا، به. قال أبو داود عقب حديث (572): كذا قال الزبيدي، وابن أبي ذئب، وإبراهيم بن سعد، ومعمر، وشعيب، عن الزهري: " "، وقال ابن عيينة عن الزهري وحده: " "، وقال الحافظ في (الفتح) (2/ 118): قوله: " " أي أكملوا. هذا هو الصحيح في رواية الزهري، ورواه عنه ابن عيينة بلفظ: " "، وحكم مسلم في (التمييز) عليه بالوهم في هذه اللفظة. وقال ابن عبد البر في (التمهيد) (7/ 78): ولم يختلفوا أن من فاته بعض صلاته يتشهد في آخرها، ويحرم إذا دخل، وهذا يدل على أن ما أدرك فهو أول صلاته، ويقضي آخرها، وبالله التوفيق. وراجع كلامه مفصلاً واختلاف الأئمة في ذلك (التمهيد) (20/234).
3 - أخرجه البخاري (635، 636)، ومسلم (602، 603) من حديث أبي قتادة، وأبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ: " "، وهو المحفوظ.
4 - سورة الجمعة: الآية (10).
5 - سورة البقرة: الآية (200).
6 - (2/ 118).
عبد الله بن عبد العزيز العقيل
كان الشيخ عضوا في مجلس القضاء الأعلى ومن هيئة كبار العلماء في المملكة. توفي رحمه الله عام 1432هـ .
- التصنيف: