من ذبحت من غير أن تسمي هل هي كافرة؟
أنا خالتي وسوس لَها الشيطان واتَّبعتْ وسْوَسَتَهُ وذَبَحتْ مِنْ غَيْرِ ما تُسَمِّي بالله -سبحانه وتعالى- ولا تعرف أن هذا شرك بالله تعالى، ولمَّا عرفتْ ذلك ندِمَتْ وتابَتْ لِلهِ وعمِلَتْ حجًّا وعُمرة أكثر من مرة، لكنَّها تقول: إنها تحس بوساوس في عقلها وقلبها، وإن الشيطان الرجيم يوسوس لها، وهذه الوسوسة على طول، وهي تحاول أن تنام كثيرًا حتى تَهْرُب من وسْوَسَتِه وأنه يُحول كلام القرآن الذي تسمعه إلى كلام كفر في أذنَيْها، وأنها لا تعرف تصلي بتركيز وخشوع من وسوسته، ونحن اتَّصلنا بالإفتاء قالوا نذهب بها لدكتور نفسي، وفعلاً عملنا ذلك، لكن هي قالت إن العلاج لا يعمل حاجة، وإنَّها عملت إثما كبيرًا وربنا يسامح عن كل شيء إلا الكفر، وكلام كثير أنها ستدخل النار، وأنها عرفت نهايتها وأنها كافرة وربنا غضبان عليها، ونحن لا نعرف هل هي فعلا صواب.
دلونا هل هي الآن تُعْتَبَر كافرة أم هي ممكن ربنا يسامحها ويغفر لها لأنها لم تكن تعرف ولما عرفت تابت وندمت على الذي حصل منها؟ دلونا ماذا تعمل؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقدِ اتفق أهلُ العلم على أنَّ مَن تعمَّد تَرْكَ التَّسمية على الذبيحة لا يكفر، وأجمعوا على مشروعية التسمية عليها، واختلفوا في كونِها شرطًا في حلِّ الأكل على قولين:
الأوَّل: أنَّها شرط مع الذِّكر فإذا تركها عمْدًا لا تُؤْكَلُ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل وهو الراجح؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، فالآية نصٌّ في النهي عن أكل ما لم يسمَّ عليه.
وروى الشيخان عن عدِيِّ بن حاتم قال: قلتُ: يا رسول الله، إنِّي أُرْسِلُ كلبي وأُسَمِّي، قال: "إن أرسلتَ كَلْبَك وسمَّيتَ فأخذ فقتل فَكُلْ، وإنْ أَكَلَ مِنْهُ فلا تأْكُلْ فإنَّما أمسكَ على نَفْسِه" قلت: إنِّي أُرْسِلُ كلْبِي أجِدُ معه كلبًا آخَر، لا أدري أيُّهما أخذهُ، قال: "فلا تأكُلْ فإنَّما سمَّيتَ على كلبك ولم تسم على غيره".
والثاني: أنَّ التسمية على الذبيحة سُنَّة فإذا تركها عمْدًا تُؤْكل، وهو مذهب الشافعيِّ، واحتجَّ بحديث عائشة رضي الله عنها أنَّهم قالوا: يا رسول الله، إنَّ قومَنا حديثُ عهدٍ بِالجاهِلِيَّة يأتُونَنا بلحْمانٍ لا نَدْرِي أذكروا اسْمَ اللَّهِ عليه أم لم يَذْكُروا، فنأكل منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا وكلوا" (رواهُ البُخاريُّ في صحيحِه)، والحديث لا حُجَّة فيه على المطلوب؛ "لأنَّ ما ذبَحه المسلم يؤكل ويُحمل على أنه سمي؛ لأنَّ المسلم لا يظنُّ به في كلِّ شيءٍ إلا الخير حتى يتبيَّن خلاف ذلك" قاله أبو عُمَرَ بْنُ عبدالبر.
والحاصل أنَّه لم يَقُلْ أَحَدٌ من أهل العلم أنَّ ترك التسمية على الذبيحة شركٌ بِاللَّه تعالى، إلا أن يكون الأخ السائل يقْصِدُ أنَّ خالته ذبحتْ لغير الله؛ كمَنْ ذَبَحَ للقَبْرِ أوِ الأولياء ونحوِ ذلك تعظيمًا وقصدًا لَهُمْ، فلا ريب أن هذا منَ الشِّرْك الأَكْبَرِ وصاحبه ملعون؛ فقد روى مسلم في "صحيحه" عن عليِّ بن أبي طالبٍ قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّه".
ويَجِبُ عليها الاستغفارُ والتوبة والندمُ والعزم على عدم العودة.
وإن كنَّا نرى أنَّ تِلْكَ المَرْأَةَ -عفا اللهُ عنها- مصابةٌ بِالوسواس، وقدِ اسْتَسْلَمَتْ له وأعانَتْهُ على نَفْسِها بِالجَهْلِ بِحُكْمِ التَّسمية.
ولعلاج تلك الوساوس عليها أوَّلاً أن تُعْرِض عنها ولا تلتفت إليها، وأن تدفع كُلَّ ما مِنْ شَأْنِه أن يُضْعِفَ الإيمان مع قراءةِ القُرْآنِ بِتَدَبُّر والمُحافَظَة على الأذكار، وقَدْ سُئِلَ ابْنُ حَجَرٍ الهيتمي عن داءِ الوَسْوَسَة، هل له دواء؟ فأجاب: "له دواءٌ نافعٌ وهُوَ الإِعْرَاضُ عنها جُملةً -وإن كان في النفس من التردُّد ما كان- فإنَّه متَى لم يلتفتْ لِذلكَ لم يَثْبُتْ بَلْ يَذْهَب بعد زمنٍ قليل؛ كما جرَّب ذلك الموفَّقونَ، وأمَّا مَنْ أَصْغَى إليْها وعمِل بِقَضِيَّتها فإنَّها لا تزال تزدادُ بِهِ حتَّى تُخرجه إلى حيِّز المجانين؛ بل وأقبح منهم" انتهى.
وقال العِزُّ بن عبدالسلام: دواء الوسوسة أن يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني، وأنَّ إبليس هو الذي أورده عليه، وأنْ يُقَاتِلَهُ فإنَّ له ثوابَ المُجاهد لأنه يحارب عدو الله، فإذا استشعر ذلك فرَّ منه. انتهى.
وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يوسوس في القلب وبيَّن العلاج الناجعَ، فروى مسلم في "صحيحه" عن أبي هُريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "لا يزال الناس يتساءلون حتَّى يُقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد شيئًا من ذلك فليقل: آمنت بالله" (هذه رواية مسلم).
وفي الصحيحين أنه قال: "يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له مَنْ خلَقَ ربَّك، فإذا بلغ ذلك فليستعِذْ بالله وليَنْتَه".
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله في دفع شره عنه، وليُعْرِض عن الفكر في ذلك، وليعلمْ أنَّ هذا الخاطر من وسوسة الشَّيطان، وهو إنَّما يسعى بالفساد والإغواء، فلْيُعْرِضْ عن الإصغاء إلى وسوسته، وليُبَادِرْ إلى قَطْعِها بالانْشِغال بِغَيْرِها.
وقال الإمام ابن القيم: وشكا إليه الصحابة أنَّ أحدهم يَجِدُ في نفسِه -يعرض بالشيء- لأنْ يكونَ حُمَمَة أحبُّ إليْهِ مِنْ أن يَتَكَلَّم به، فقال: "الله أكبر الله أكبر، الحمدُ لِلَّه الذي ردَّ كيْدَه إلى الوسوسة" (ص: 422) وأرشد من بُلِيَ بشيء من وسوسة التَّسلسُل في الفاعلين إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق فمَن خَلَقَ اللهَ؟ أن يقرأ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، كذلك قال ابْنُ عبَّاس لأبي زُمَيْلٍ سِماك بن الوليد الحنفي - وقَدْ سأله ما شيءٌ أجِدُه في صدري؟ - قال: ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشَيْءٌ من شَكٍّ؟ قلت بلى، فقال لي: ما نَجا من ذلك أحدٌ، حتَّى أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يُونس: 94] قال: فقال لي: فإذا وجدتَ في نفسك شيئًا، فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التَّسلسُل الباطل ببديهة العقل، وأنَّ سلسلةَ المَخلوقاتِ في ابْتِدائِها تنتهي إلى أوَّلٍ ليس قبله شيءٌ كما تنتهي في آخِرِها إلى آخِرٍ ليسَ بَعْدَهُ شيءٌ، كما أنَّ ظُهُورَه هو العلُوُّ الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثِّرًا فيه لكان ذلك هو الرَّبَّ الخلاَّق، ولابدَّ أن ينتهي الأمْرُ إلى خالقٍ غيرٍ مَخلوق، وغنِيٍّ عن غيره وكُلُّ شيء فقيرٌ إليه، قائِمٍ بنفسه وكلُّ شيء قائمٌ به، موجودٍ بذاتِه وكلُّ شيء موجود به، قديمٍ لا أوَّل له وكلُّ ما سواه فوجودُه بعد عدمه، باقٍ بذاتِه وبقاءُ كل شيء به، فهو الأوَّل الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعدَهُ شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء، وقال صلى الله عليه وسلَّم: "لا يزالُ النَّاسُ يتساءلونَ حتَّى يقولَ قائِلُهم: هذا اللَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ فمن خلق اللهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ من ذلك شيئا فلْيَسْتَعِذْ بالله ولْينته" (ص: 423)، وقد قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [فصلت: 36].
ولتعلمْ أنَّ ظنَّ الإنسان عدمَ مغفرة ذنبه سوءُ أدبٍ مع الله، ويؤَدِّي بصاحبه للقنوط من رحمة الله؛ فالله تعالى وعد التائبين بقبول توبَتِهم، مَهْمَا كثُرت ذُنُوبُهم، فقال سُبْحَانَهُ وتَعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 67-70]، وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
أخرج التِّرمذيُّ وغيرُه عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّم يقول: "قال الله تعالى: يا ابنَ آدم، إنَّك ما دعوتَنِي ورجوتَنِي، غفرتُ لكَ على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابنَ آدَمَ لو بَلَغَتْ ذُنوبُك عَنَانَ السَّماء ثُمَّ استَغْفَرْتَنِي، غفرتُ لك ولا أبالي".
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يبسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيءُ الليل، حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ مِنْ مَغْرِبِها" (رواه مسلم من حديث أبي موسى).
فالواجب على تلكَ المَرْأَةُ التوبةُ والاستغفارُ منَ الذبح بغَيْرِ تَسمية، إن كانت تعمَّدتْ فِعْلَ هذا، أمَّا إن كانت فَعَلَتْهُ ناسيةً فلا يَجِبُ عليها شيء،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: