حكم تبليغ المسؤولين عن سرقات الموظفين
أعملُ في مؤسَّسةٍ حكوميَّة ووظيفتي تسمح لي بأن أطلِعَ على غالب النَّفقاتِ الماليَّة التي تَحصل في المؤسسة، وقد ظهَرَ لي بِالدَّليل القاطِع أنَّ المسؤولين يَختَلِسُون المالَ العامَّ بطُرُقٍ مُلتوية، وفي المُقابِل يَتَظاهرونَ بالنَّزاهة، والحَزْمِ، والأمانةِ، ويُسيؤون إلى العُمَّال بِطُرقٍ شتَّى.
فعزمْتُ على الاتِّصال بالجهات المكلَّفة بِمحاربة الفساد الماليّ والإداريّ وسلَّمْتُهم الأدلَّة على ما ذَكَرْتُه لكُم؛ فتحرَّكتْ تِلك الجهات وقامَتْ بالتَّحقيق اللاَّزم.
لكنَّ أولئِكَ المسؤولين وجَّهوا إليَّ تُهمة الإبْلاغ عَنهُم؛ لأنَّهم يعلمون استنكاري الدائِمَ والعلني لأفعالِهم، وقاموا بِالضَّغط عليَّ لتَرْكِ المؤسَّسة والانتِقال إلى مؤسسة أخرى.
ونظرًا لكثْرَةِ الضغوطات منهم وخوفي منِ انتقامِهم قُلْتُ في نفسي: ربَّما أخطأتُ لمَّا أبلغتُ عنهُم، وكان عليَّ تركُهم على ما هم عليه؛ لأنَّ درْءَ المفسدةِ مُقدَّم على جَلْبِ المصلحة، فهُمْ أهْلُ سطوةٍ وأنا أَعْزل. فما توجيهُكم؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فشَكَرَ اللهُ لكَ حرصكَ على أموال المسلمين، وعلى الأمْرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عنِ المُنْكَر، وإبلاغِ المسئولينَ عنْ تِلْكَ الطغْمةِ السَّيِّئة الَّتي تَسْرِق أموالَ الشُّعوب، ولا شَكَّ أنَّ ما قُمْتَ به هو السبيلُ الصَّحيحُ لعِلاجِ مِثْلِ هذه الحالات، ولو قام أكثر المسلمينَ بِمِثْل صنيعِك ما بقِيَ لفاسدٍ مكانٌ، ولعمّ الرخاء؛ فالإبْلاغُ عنِ المُفْسِدين من الواجِبات الدينية والخلقية المحتمة، وقَدْ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَن رَأَى مِنْكُم مُنْكرًا فَلْيُغَيِّرْه بيَدِه، فإن لم يَستطِعْ فبلسانِه، فإنْ لم يستطِعْ فبِقَلْبه، وذلِكَ أضْعَفُ الإيمان" (رواهُ مُسلمٌ عن أبي سعيدٍ).
وهُو أيضًا من باب النَّصيحة، وقَد ثبتَ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "الدِّينُ النَّصيحة، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال: لِله ولِكتابِه ولِرسولِه ولأئمَّة المُسْلِمينَ وعامَّتِهم" (رواهُ مُسلمٌ عنْ تَميمٍ الدَّاريِّ).
فالموظَّف في الدَّولة أجيرٌ وأمينٌ على ما تَحتَ يده من أموال، ويَجِبُ عليه المُحافظةُ عليْها، فإِنْ غَصَب شيئًا جَمَع بَيْنَ الخِيانةِ والتَّقصير والانْتِهاب، ووَجَبَ على مَنِ اطَّلَعَ على ذلك أن يَنْصَحَهُ أوَّلاً إنْ أَمْكَنَ ذلك، مع بيانِ خُطورة ما يفعَلُه، فإن لم يَرْعَوِ أو لَم يُمْكِنْ نصحُه لخَوفِ التَّضرُّر منه، فالمبادرةُ إلى إبلاغِ المسؤولين ليتَّخِذُوا الوسائلَ اللاَّزمةَ لرَدْعِه وإبْعاده، ولا يتهاون في ذلك حرصًا على الفَرْدِ والمُجتَمَع.
ولْتَعْلمْ أنَّ الآمِرَ بِالمعروفِ والنَّاهيَ عنِ المُنْكَرِ، لا بدَّ أن ينالَهُ أذًى من جرَّاء ذلِك، ومن ثَمَّ أمَرَ الله تعالَى بالصَّبرِ والاحْتِساب؛ قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ} [لقمان: 17]، فالصَّبر على أذَى النَّاس من جرَّاء التَّمسُّك بِما أَمَرَ اللَّه به.
ولْتعلمْ رعاك الله أنَّ ما قُمْتَ به هو عَيْنُ دَرْءِ المَفْسَدةِ عنِ المُجتَمَع، وجلْبِ المصلحة له، فاستَعِنْ بِالله ولا تعجِزْ، ولا يَحمِلَنَّك كونُ هؤلاءِ اللُّصوصِ أهْلَ سطوةٍ وأنتَ أعْزَلُ أن تَستوْحِشَ منهم، كثُروا أو قلُّوا، صغُروا أو جلُّوا، فلا تُبالِ بِهم فلَيْسَ مِمَّن كان معه اللهُ ورسولُه قلَّة، ولا ذلَّة ولا وحشة إلى أحدٍ، ولا فاقةٌ إلى وفورِ عددٍ؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، قال صلى الله عليه و سلم: "ألا لا يمنعنَّ أحدكم رهبة الناس، أن يقول بحقٍّ إذا رآه أو شهده؛ فإنه لا يُقرِّب من أجلٍ، ولا يُباعِد من رزقٍ - أن يقول بحقٍّ أو يذكِّر بعظيم" (رواه أحمد والتِّرمذي وابن ماجه عن أبي سعيد الخُدْري). فنهى نهيًا مؤكداً عن كتمان الحق خوفا من الناس، ثم بين أن الثبات على الحق لا يغير من قدر الله شيئًا.
فعليك بالاستعانة والاستعاذةِ بِاللَّه من كُلِّ شَرٍّ، وأكْثِرْ من قَوْلِ: حَسْبِيَ الله ونِعْمَ الوكيلُ، "لا إله إلا أنتَ سُبحانك إنِّي كُنْتُ من الظَّالمين، "وأُفَوِّض أمري إلى الله، إنَّ الله بصيرٌ بِالعِباد"، "لا إله إلا اللهُ الحليمُ الكريمُ، سُبحانَ الله ربِّ السموات السَّبعِ وربِّ العَرْشِ العظيم، لا إله إلا أنْتَ عزَّ جارُك وجلَّ ثناؤُك"، " أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ" ولتَعْتَنِي بِالدُّعاء أوقاتَ الإجابة.
ورُوِيَ عنِ ابْنِ مسعودٍ أنَّه قال: "إذا كان على أحَدِكم إمامٌ يخافُ تَغَطْرُسه أو ظُلْمَه فلْيَقُل: اللَّهُمَّ ربَّ السَّماوات السَّبع وربَّ العَرْشِ العَظيم، كُنْ لي جارًا من فلانِ بن فلانٍ وأحزابِه من خلائِقِك أن يَفْرُط عليَّ أحدٌ منهم أو أن يطْغى، عزَّ جارُك وجلَّ ثناؤُك ولا إله إلا أنت" (رواه البُخاريُّ في الأدب المُفْرد، وصحَّحهُ الألباني).
وعنِ ابْنِ عبَّاسٍ أنَّه قال: "إذا أتيتَ سُلطانًا مَهيبًا تَخافُ أن يسْطُوَ بِكَ، فقُلْ: الله أكْبَرُ، اللَّه أعزُّ من خلقِه جميعًا، الله أعزُّ مِمَّا أخافُ وأحْذَرُ، أعوذُ بالله الذي لا إله إلا هو المُمْسِكُ السَّماوات السَّبْعَ أن يَقَعْنَ على الأرضِ إلا بإذْنِه من شرِّ عبْدِك فُلان وجنودِه وأتباعِه من الجِنِّ والإنْس، اللَّهُمَّ كُنْ لي جارًا من شَرِّهِم، جلَّ ثناؤُك وعزَّ جارُك، وتبارَك اسْمُك ولا إله غَيْرُك، ثلاثَ مرَّات" (رواه ابْنُ أبي شَيْبَة، والبخاريُّ في الأدَب المُفْرَد، وصحَّحه الألباني).
ولْتُكْثر من قِراءةِ القُرآن بتدبُّر؛ قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء: 45].
معَ المُحافظة على أذْكارِ الصَّباحِ والمَساء، ولا سيما قراءة المعوذات فقد قال صلَّى الله عليه وسلم: "قل: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، والمُعَوِّذَتَيْنِ حينَ تُمْسِي وحين تُصْبِح ثَلاثًا تكفيكَ من كُلِّ شيء" (رواهُ أبو داود والترمذي، وصحَّحه الألباني). وراجع كتاب "الأذكار" للنوويّ أو "حصن المسلم" للقحطاني.
كما يُمْكِنُك أن تُبلغ المسؤولين ثانيةً بالحالِ عسى أن يتَّخِذُوا التَّدابيرَ اللاَّزمة ضدَّ المذكورين.
ونسألُ اللَّه أن يَحفَظَكَ ويَرعاك،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: