فضل ليلة القدر وأحكام الاعتكاف
الحمد لله، والصلاة والسلام، على نبيِّنا محمّد، وعلى آله، وصحبه، وبعد:
يُستحب تحرّي ليلة القدر في رمضان، والإجتهاد في العبادة فيها، لأنّ العبادة فيها مضاعفٌ فضلُها، حتى إنه ليبلغ فضل ثواب العمل فيها، أكثر من ثواب عمل 83 عاما، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
والدعاء فيها مستجاب، ومن قامها فوافقها غُفر له ما تقدم من ذنبه، ولهذا كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلم، يجتهد في تحرّيها، ويطلبها بالاعتكاف في المسجد، لئلا يفوته فضلها العظيم، كما صحّ في الأحاديث.
جاء في صحيح مسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ -والقبّة: الخيمة وكلّ بنيان مدوّر- عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ، فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ: « »، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ ، قَالَ « »، فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ، فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ ، فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ، وَالْمَاءَ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، وَجَبِينُهُ، وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ، فِيهِمَا الطِّينُ، وَالْمَاءُ، وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ" (صحيح مسلم).
وليلة القدر هـي في العشر الأواخر من رمضان ، روى البخاري أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: « » (صحيح البخاري).
وهي آكد في ليالي الوتر من العشر الأواخر، لحديث عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه البخاري).
وآكد ماتكون في السبع الآواخر، ولذلك جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام، في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (رواه البخاري ومسلم).ثم هي أرجى ما تكون ليلة السابع والعشرين من رمضان، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن عمر عند أحمد، ومن حديث معاوية عند أبي داود، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
» (خرّجه أحمد وأبو داود).ومعنى ليالي الوتر:
أنه قد يكون بإعتبار الماضي، فيطلب المتحرّي ليالي: إحدى وعشرين، وثلاث .. إلخ
أو يكون بإعتبار الباقي، لحديث (لتاسعةٍ تبقى .. إلخ )، فحينئذ، إذا كان الشهر ثلاثين، كانت تلك من ليالي الإشفاع، وليلة الثانية والعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع سابعة تبقى، كما فسّر ذلك أبو سعيد رضي الله عنه. وإنْ كان الشهر تسعا وعشرين، كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي.
وحكمة إخفائها، تحصيل الإجتهاد في جميع الليالي، ولما في طلب ما فيه خفاء من استدعاء الهمم، وتحريك رغبة البحث.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: «
» (رواه الإمام أحمد ، والترمذي (3513) ، وابن ماجة (3850) وسنده صحيح).والاعتكاف يصح بلبثِ قدْرٍ يُسمى عكوفا، ولو ساعة، ويشترط أن يكون في مسجد، وفي مسجد جماعة لمن تلزمه حضورها، ويبطل بالخروج من المسجد لغير عذر، وله أن يخرج لما لابد منه مثل البول، والغائط، وللأكل والشرب، إذا لم يجد من يأتيه به، ويمشي على عادته إن خرج لذلك. ويخرج لصلاة الجمعة.
ويدخل المعتكف، بغروب شمس ليلة العشرين من رمضان، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلم، دخل خبائه الذي ضُرب له في المسجد بعد صلاة الفجر. ويخرج من معتكفه إذا غربت شمس ليلة العيد.
وفيما يلي ما ذكره الإمام ابن القيم في زاد المعاد عن هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإعتكاف، وكلُّ قد جاءت به السنة الصحيحة:
"لما كان صلاح القلب، واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا على جمعيته على الله، ولـَمِّ شعثه بإقباله بالكليّة على الله تعالى، فإنّ شعت القلب لا يلمُّه إلاَّ الإقبال على الله تعالى.
وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام مما يقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوّقه، أويوقفه.
اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعبادة أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضرُّه، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة، والآجلة.
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصود وروحه، عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به، والإنقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبُّهُ، والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب، وخطراته.
فيستولى عليه بدلها، ويصير الهمُّ كلُّه به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه، وما يقرب منه، فيصير أنسُهُ بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
ولما كان هذا المقصود إنما يتمُّ مع الصوم، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النبيِّ أنه اعتكف مفطرا قط، بل قد قالت عائشة لا اعتكاف إلاّ بصوم، ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلاّ مع الصوم، ولا فعله رسول الله إلاّ مع الصوم.
فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف، أنّ الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي يرجّحُهُ شيخ الإسلام أبو العباس بن تيميه رحمه الله.
وأما الكلام، فإنه شُرع للأمة، حبس اللسان عن كلّ مالا ينفع في الآخرة.
وأما فضول المنام، فإنه شرع لهم من قيام الليل، ما هو من أفضل السهر وأحمده عاقبة، وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن، ولا يعوق عن مصلحة العبد، ومدار رياضه أرباب الرياضات، والسلوك على هذه الأركان الأربعة وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي، ولم ينحرف إنحراف الغالين، ولا قصّر تقصير المفرّطين.
وقد ذكرنا هديـُهُ في صيامه، وقيامه، وكلامه، فلنذكر هديُهُ في اعتكافه.
كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاهُ الله عزّ وجل، وتركه مرة فقضاه في شوال واعتكف مرة في العشر الأول، ثم الأوسط، ثم العشر الأخير، يلتمس ليلة القدر، ثم تبيّن له أنها في العشر الأخير، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربّه عزّ وجلّ.
وكان يأمر بخباءٍ فيُضرب له في المسجد، يخلو فيه بربه عز وجل وكان إذا أراد الاعتكاف صلّى الفجر، ثم دخله، فأمر به مرة فضُرب فأمر أزواجه بأخبيتهنّ فضُربت، فلمّا صلّى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية، فأمر بخبائه فقُوِّض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان، حتى اعتكف في العشر الأُوَل من شوال.
وكان يعتكف كلّ سنة عشرة أيام، فلمَّا كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما. وكان يعارضُهُ جبريلُ بالقرآن كلَّ سنة مرّة، فلمّا كان ذلك العام عارضه به مرتين، وكان يعرض عليه القرآن أيضا، في كلّ سنة مرة فعرض عليه تلك السنة مرتين.
وكان إذا أعتكف دخل قبّتَهُ وحده وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلاّ لحاجة الإنسان وكان يخرج رأسه من المسجد إلى بيت عائشة، فترجلِّه وتغسّله وهو في المسجد وهي حائض.
وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف، فإذا قامت تذهب قام معها يقلبها، وكان ذلك ليلا ولم يباشر، امرأة من نسائه، وهو معتكف ولا بقبلةٍ، ولا غيرها. وكان إذا اعتكف طُرح له فراشُه، ووضع له سريره في معتكفه، وكان إذا خرج لحاجته مرّ بالمريض وهو على طريقه، فلا يعرج عليه، ولا يسأل عنه.
واعتكف مرَّةً في قبة تركية، وجعل على سدتها حصيرا. كلُّ هذا تحصيلاً لمقصود الإعتكاف، وروحه.
عكس ما يفعله الجهّال من اتخاذ المعتكف موضع عِشْرة، ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لونٌ، والاعتكاف النبوي لونٌ، والله الموفق". انتهى.
حامد بن عبد الله العلي
أستاذ للثقافة الإسلامية في كلية التربية الأساسية في الكويت،وخطيب مسجد ضاحية الصباحية
- التصنيف:
- المصدر: