الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المعتكف
منذ 2006-12-01
السؤال: الاعتكاف مدرسة إيمانية شرعها الله - تعالى - وهي معينة على الطاعة
والخير والبر، فما هي الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المعتكف فيما
بينه وبين الله تعالى ، وفيما بينه وبين نفسه ، وفيما بينه وبين الناس
؟
الإجابة: هذه المسألة لا يستطيع الإنسان أن يستوعبها كاملة : الأدب مع الله ،
والأدب مع النفس ، وأدب المعتكف مع الناس ، لو جلسنا إلى الفجر ما
استوفينا شيئا من ذلك حقه وقدره ، لكن ننبه على بعض الأمور المهمة :
الأدب فيما بينك وبين الله :
أول ما يفكر فيها المعتكف أن يعلم علم اليقين أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وأن الله ينظر إلى قلبه ، وأنه لا يعطيه من قوله وعمله إلا ما أراد به وجه الله - تعالى - ، فيخرج من بيته حينما يخرج وليس في قلبه إلا الله ، ويتمنى في قرارة قلبه أنه لم تره عين ، ولم تسمع به أذن ، ولم يعلم أحد أنه اعتكف ؛ لأنه يحب أن عمله بينه وبين الله - تعالى .
فالمعتكف إذا أراد أن يتأدب مع الله ابتدأ بالإخلاص ، الذي هو أساس القبول ، وأساس التوفيق، ومحور المعونة على الطاعة والبر .
الأمر الثاني : أن يجتهد المعتكف في تحقيق التقوى ، التي هي الطريق إلى القيام بحقوق العبادات، فمن اتقى الله - تعالى - علمه ، ورزقه فرقانا يفرق به بين الحق والباطل ، وأقامه على سبيل الهدى، وبيّن له معالم المحبة والرضا ؛ فاشتاقت نفسه ، وتلهفت روحه إلى رحمة الله - تعالى - حتى يسعى لله ، ولا يسعى لشيء سواه .
فإذا أراد المعتكف أن يكون اعتكافه نقيا لله خالصا لله - تعالى - عليه أن يحصّل التقوى في أقواله وأفعاله وأعماله الظاهرة والباطنة ، يحرص على هذا الأساس ، وهو تقوى الله - عز وجل .
من الأمور التي تعين على الأدب مع الله - تعالى - : المراقبة ، أن يستشعر في كل دقيقة قبل الساعة ، وفي كل يوم ، وفي كل لحظة أن الله يسمعه ويراه ، وأنه في بيت من بيوت الله - تعالى- وأن هذا البيت له حرمة ، فإن هذه المساجد لم تُبنَ إلا لله ، { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }.
فليس الاعتكاف للجلوس مع زيد أو عمرو، أو لإضاعة الأوقات في القيل والقال والترهات، يستحي من ربه أن يراه يضيع ساعة في غير ذكر أو شكر، فإذا استشعر أن الله يراقبه ، وأن الله ينظر إليه ، فإنه ينكسر قلبه لله ، ويحسن المعاملة مع الله - تعالى - ، يورث هذا شعورا مع الإنسان يجعل النفس من أقوى النفوس انبعاثا في طاعة الله - تعالى - ، حينما يستشعر الإنسان أنه ضيفًا على الله ، وأنه في بيت الله ، قد دخل هذا البيت مهموما مغموما من الدنيا ، وخلفها كلها وراء ظهره ، وأقبل على الله ضيفا عليه ، يرجو رحمته ، ويخشى عذابه .
من الأمور التي تعين على الأدب مع الله : استشعار المعتكف في كل لحظة ، ما كان منه من التقصير في جنب الله - تعالى .
الذنوب تكسر القلوب لله - تعالى - ، الذنوب تخشع القلوب لله - عز وجل - ، الذنوب تعلّم الإنسان حقارته ، وذلته وفاقته ، وأنه تحت رحمة الله - تعالى - ، فإذا دخل إلى الاعتكاف وهو يحس وكأنه أكثر وأعظم من في المسجد ذنبا ، وأنه تحت رحمة ربه ، وأنه تحت لطفه ، وعفوه وبره ، نادما على ما كان منه من الإساءة والتقصير في جنب الله - تعالى - ، فيدخل وهو يقول : يا رب ، لا تحرمني رحمتك ، وذنوبه بين عينيه ، كمل أدبه مع الله - تعالى -
أنا المسيء المذنب الخطاء *** في توبتي عن حوبتي إبطاء
إذا أحس أنه مذنب ، وأن الواجب عليه أن يتوب إلى الله ؛ احتقر نفسه ، وانكسر قلبه بين يدي الله - تعالى - ، وأقبل على الله - تعالى - إقبال الأواه ، التائب ، الطالب ، الراغب ، وهنيئا لأقوام دخلوا المسجد بذنوب فخرجوا كيوم ولدتهم أمهاتهم ، وهنيئا لأقوام خرجوا من اعتكافهم قد نفضت من على ظهورهم السيئات والأوزار، وهنيئا لأقوام بُيّضت صحائف أعمالهم من ذنوب الأعمار، هنيئا لمن أخلص لله - تعالى - فتأدب مع الله فخرج من هذا المسجد ومن المساجد معتكفا بأعظم مثوبة وأعظم جزاء .
من الناس من خرج من المسجد بسعادة لا شقاء بعدها أبدا ، وكم من معتكف خرج من مسجده وقد عتقت رقبته من النار، وكم من معتكف خرج من مسجده بالفردوس الأعلى من الجنة ، أي شيء تطلبه حتى تتأدب مع الله ، وتعرف مع من تُعامل ، مع من تتعامل ، ومن تعبد، ومن ترجو، ملك الملوك ، وجبار السماوات والأرض ، هذا الرب الحليم الرحيم الكريم الجواد العظيم ، الذي بشربة ماءٍ لكلب غفر ذنوب العمر، هذا الرب الذي لا تنقضي خزائنه ، ولا تنتهي فضائله ونوائله - عز وجل - وهو ذو الفضل العظيم .
فإذا علمت من هو الله الذي تعامله ، وأنها سوق رابح، وأنك داخل على باب من أبواب الرحمة لا يعلم مداه وقدره إلا الله - تعالى .
يا هذا أين أنت ، أنت في الرحاب الطاهرات ، والمنازل المباركات ، وفي بيوتٍ أذن الله أن ترفع.
تتأدب مع الله - تعالى - حينما تعلم من هو الرب الذي تعبده ؟ ومن هو الرب الذي تناجيه ؟ من هو الكريم الذي ينفحك برحماته وبركاته وعطاياه - عز وجل - ؟ نسأل الله العظيم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر الحظ والنصيب.
مما ينبغي للإنسان أن يستشعر أيضا في اعتكافه : حسن الظن بالله - تعالى - ، فالأدب مع الله في بيوته وفي العبادات أن يحسن العبد الظن بربه - تعالى - ، ولذلك تجد المحسنين الذي أحسنوا الظنون بربهم إذ ا قرؤوا القرآن خشعت قلوبهم ، وبكت من خشية الله عيونهم ، وسكنت في طاعة الله جوارحهم ، وخضعت لربهم .
كذلك أيضا مما يعين على الأدب في حالة الاعتكاف : مراعاة حقوق النفس ، أن يتأدب المعتكف مع نفسه .
والأدب مع النفس له جوانب عديدة :
على المعتكف أن يعرف من هو ؟ ومن هي نفسه الأمارة بالسوء ؟ ويتأدب مع هذه النفس ، فلا يعطيها أكثر من حقها ، ولا يحملّها فوق ما تطيق ، حتى يُقبل على العبادة بسنة ، واتباعٍ لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بعيدا عن غلو الغالين ، بعيدا عن الرهبانيّة ، والتنطع ، والغلوّ في الدين ، يقبل على اعتكافه متّبعا رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - ، حنيفية سمحاء ، ورحمة من أرحم الراحمين ، لا غلوّ فيها ولا شطط، يقبل بنفس منشرحة ، لا تحمّل فوق ما تطيق ، قال صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا الأدب : " " .
وقال صلى الله عليه وسلم في الذي يعذب نفسه ، ويجهد نفسه ويحملّها فوق ما تطيق: " ".
يسهر الإنسان سهرا لا يعطي نفسه حق النوم في النهار ، ويقدم على العبادة بجد واجتهاد فوق الطاقة ، فعندها يمرض ، أو يسقط ، فلا هو بقي له جسده ، ولا هو كملت له عبادته ، وهذا شيء مذموم في الشرع ، غير محمود ، جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتيسير، ولم يأت بالتعسير ، جاء بالرحمة ، ولم يأت بالعذاب ، رأى رجلا قام في الشمس ، فقال : " ".
فالله لا تنفعه طاعة المطيعين ، ولا تضره معصية العاصين ، فيتأدب مع نفسه ، فلا يحملها ما لا تطيق ، وإنما يأخذها بالسماحة واليسر .
وهناك جوانب عديدة في الأدب مع النفس ، منها : عدم العجب ، وما أهلك العابد في عبادته شيء مثل العجب ، والغرور .
يدخل الإنسان إلى المسجد ، فيخلّي الشيطان بينه وبين عبادته ، فيخشع قلبه ، وينشرح صدره ، ويُقبل على العبادة إقبال المجدّين ، حتى إذا انتهى منها ، جاءه الشيطان من حدب وصوب ، وأشعره بأنه قد فاز ، وأنه قد نال الدرجات العلا ، حتى إن قدميه قد وطئت جنة الله - تعالى - من الغرور ، وعندها يمقته الله - تعالى - ولربما أحبط عمله .
إياك والغرور ، كان السلف الصالح - رحمهم الله - يحملون همّ الصواب في الأعمال ، أول همّ يحملون في العمل أن يعلموا الصواب والحق ، فإذا علموا الصواب ، حملوا همّ التوفيق للعمل ، وكانوا يسألون الله المعونة على الرشد ، فإذا وفّقوا للعمل بالصواب ، حملوا همّ الإخلاص فيه ، فإذا وفّقوا للإخلاص أو وجدوا الإخلاص حملوا همّ إتقانه ، والقيام به على الوجه الذي يرضي الله ، فإذا أتموا الأعمال خالصة متقنة إذا بهم يحملون همّ القبول ، فتجد الإنسان يخاف من ذنب بينه وبين الله أن يحول بينه وبين القبول .
فإياك والغرور ، ولذلك قال مطرف بن عبد الله بن الشخّير : "لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أبيت قائما وأصبح معجبا".
العجب طريق الحبوط - والعياذ بالله - للأعمال ، فمن أصابه العجب ؛ فعلى مهلكة ، فيسأل الله أن يعافيه من هذا البلاء . فإياك والعجب .
أما الأدب مع الناس ، فجماع الخير كله في تقوى الله - تعالى - ، ومن اتقى الله فهو المسلم الحق ، الذي سلم المسلمون من يده ولسانه .
والأدب مع الناس أن تقرأ في كتاب الله ، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الذي أمرك به تجاه إخوانك المسلمين ؟ ومن الذي نهاك عنه ؟ فتعطيهم ما تحب أن تعطى ، وتكف عنهم ما تحب أن يكف عنك ، وتكون مسلما حقا ، قد سلم المسلمون من ويده لسانه، وزلات جوارحه وأركانه ، فإذا وفقك الله لهذا ؛ فأبشر بخير كثير .
مبادئ معروفة عند المسلمين عرفها الصغار قبل الكبار ، من حقوق المسلم على أخيه المسلم ، هذه حقوق واجبة على المسلم وهو خارج المسجد ، ففي داخل المسجد تعلم أنها آكد ، وأنها أعظم ، فالله ، فالله ، أن ينظر الله إليك ، أو يسمع منك أذية لمسلم ، في بيته ، وفي هذا المكان الذي أذن الله أن يرفع ، إذا سبّك أحد فلا تسبّه ، وإذا شتمك فلا تشتمه ، واتق الله - تعالى - ، وكفّ لسانك عن أعراض المسلمين ، لا تغتابهم ، ولا تلمزهم ، ولا تتهمهم بالسوء ، ولا تحملهم على سوء المحامل ، ولا تجلس في بيت الله - تعالى - تجمع الناس على بغض المسلمين بعضهم لبعض ، وتؤلّب المسلمين بعضهم على بعض ، فاتق الله - تعالى - في ذلك ، أن تحفظ أن حقوق إخوانك المسلمين ، وأن تعلم علم اليقين أنك ستقف بين يدي ملك الملوك ، وجبار السماوات والأرض ، ويحاسبك عن فقير المسلمين كما يحاسبك عن غنيّهم ، واعلم أن الذي تراه أمامك من الفقراء والضعفاء ، وممن لا يُؤْبه به من الناس ، من عامة المسلمين ، أنه عند الله بمكان ، ولربّ أشعث أغبر، ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه .
فتحرص أن تكون معتكفا كما ينبغي أن يكون عليه المعكتف ، في حفظ جوارحك عن أذية المسلمين ، وصيانة نفسك عن ذلك ، واعلم أنك لا تستطيع أن تنال ذلك إلا بتوفيق الله - تعالى -، فاسأل الله أن يسلّمك ، وأن يسلم منك ، واستعذ بالله ، ولذلك جاء في السنة أنك تستعيذ بالله في دعاء المساء والصباح أن تجر السوء إلى أخيك المسلم ، تستعيذ بالله أن تعمل سوءا أو تجره إلى أخيك المسلم ، فتتق الله في إخوانك المسلمين ، فكيف وأنت في بيوت الله ، وكيف وأنت في الزمان المفضل ، والمكان المفضل ، ونسأل الله بعزته وجلاله العافية ، وأن يسلمنا وأن يسلم منا ، فو الله ، فإنها من أعظم نعم الله ، ومن أصدق الشواهد على الإيمان في هذا الزمان ، أن تجد الإنسان عفيف اللسان عن سب الناس وشتمهم ، ومن أصدق الدلائل على الإيمان الآن أن تجد إنسانا يحترم عامة المسلمين فضلا عن طلاب العلم وعن العلماء ، فضلا عن أئمة السلف ، والصالحين من هذه الأمة ، أن تجدهم معتكفا كما ينبغي ، فليس الإسلام بالتشهي ولا بالتمني ، ولا بالدعاوى العريضة ، وإنما أن تكون مسلما حقا قد سلم المسلمون من يدك ولسانك ، فإذا فعلت ذلك ؛ فقد رحمك الله .
قال الإمام البخاري رحمه الله : "والله ما اغتبت مسلما منذ أن سمعت الله ينهى عن الغيبة". فإذا علمت أن الله أعطاك لسانا وأنطقك وأخرس غيرك ، وأن أخاك المسلم يسألك حقه عندك ، وهو أن تكف لسانك عنه ، وأن تكف شرك عنه ، وتلك صدقة من الصدقات ، فإذا لزمت المساجد معتكفا تحفظ لسانك عن أذية المسلمين .
من الصور التي تخالف هذا الأدب : أنك تجد الشخص يحجز مكانا في الصف الأول ، أو في أماكن معينة ، فيأتي ضعيف من المسلمين ويجلس ، فيأتي ويلكزه ، أو يضربه ، أو يسبه ويشتمه في بيت الله - تعالى - ، ولربما يكون في حال الصوم ، ولربما يؤذيه ، ولربما يتهمه بالسوء ، فهذا كله من التهتك في حرمات الله - تعالى - ، والتساهل في حدود الله ، لقد أصبحت أعراض المسلمين رخيصة عند الناس ، ولكنها غالية عند رب الجِنّة والناس ، ولينصبن للناس ميزان لا يضيع فيه مثقال خردلة من حقوق الناس ومظالمهم ، وليعلمن هؤلاء الذين يرتعون في أعراض المسلمين ويؤذونهم خاصة في حال اعتكافهم ولزومهم لبيت الله - تعالى - أي ذنب أصابوه ، وأي خير ضيعوه على أنفسهم ، فنحن نشدد في هذه الأمور؛ لأن الناس أصبح عندهم تساهل في هذه الأشياء إلا من رحم الله ، ونسأل الله السلامة والعافية
الأدب فيما بينك وبين الله :
أول ما يفكر فيها المعتكف أن يعلم علم اليقين أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وأن الله ينظر إلى قلبه ، وأنه لا يعطيه من قوله وعمله إلا ما أراد به وجه الله - تعالى - ، فيخرج من بيته حينما يخرج وليس في قلبه إلا الله ، ويتمنى في قرارة قلبه أنه لم تره عين ، ولم تسمع به أذن ، ولم يعلم أحد أنه اعتكف ؛ لأنه يحب أن عمله بينه وبين الله - تعالى .
فالمعتكف إذا أراد أن يتأدب مع الله ابتدأ بالإخلاص ، الذي هو أساس القبول ، وأساس التوفيق، ومحور المعونة على الطاعة والبر .
الأمر الثاني : أن يجتهد المعتكف في تحقيق التقوى ، التي هي الطريق إلى القيام بحقوق العبادات، فمن اتقى الله - تعالى - علمه ، ورزقه فرقانا يفرق به بين الحق والباطل ، وأقامه على سبيل الهدى، وبيّن له معالم المحبة والرضا ؛ فاشتاقت نفسه ، وتلهفت روحه إلى رحمة الله - تعالى - حتى يسعى لله ، ولا يسعى لشيء سواه .
فإذا أراد المعتكف أن يكون اعتكافه نقيا لله خالصا لله - تعالى - عليه أن يحصّل التقوى في أقواله وأفعاله وأعماله الظاهرة والباطنة ، يحرص على هذا الأساس ، وهو تقوى الله - عز وجل .
من الأمور التي تعين على الأدب مع الله - تعالى - : المراقبة ، أن يستشعر في كل دقيقة قبل الساعة ، وفي كل يوم ، وفي كل لحظة أن الله يسمعه ويراه ، وأنه في بيت من بيوت الله - تعالى- وأن هذا البيت له حرمة ، فإن هذه المساجد لم تُبنَ إلا لله ، { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }.
فليس الاعتكاف للجلوس مع زيد أو عمرو، أو لإضاعة الأوقات في القيل والقال والترهات، يستحي من ربه أن يراه يضيع ساعة في غير ذكر أو شكر، فإذا استشعر أن الله يراقبه ، وأن الله ينظر إليه ، فإنه ينكسر قلبه لله ، ويحسن المعاملة مع الله - تعالى - ، يورث هذا شعورا مع الإنسان يجعل النفس من أقوى النفوس انبعاثا في طاعة الله - تعالى - ، حينما يستشعر الإنسان أنه ضيفًا على الله ، وأنه في بيت الله ، قد دخل هذا البيت مهموما مغموما من الدنيا ، وخلفها كلها وراء ظهره ، وأقبل على الله ضيفا عليه ، يرجو رحمته ، ويخشى عذابه .
من الأمور التي تعين على الأدب مع الله : استشعار المعتكف في كل لحظة ، ما كان منه من التقصير في جنب الله - تعالى .
الذنوب تكسر القلوب لله - تعالى - ، الذنوب تخشع القلوب لله - عز وجل - ، الذنوب تعلّم الإنسان حقارته ، وذلته وفاقته ، وأنه تحت رحمة الله - تعالى - ، فإذا دخل إلى الاعتكاف وهو يحس وكأنه أكثر وأعظم من في المسجد ذنبا ، وأنه تحت رحمة ربه ، وأنه تحت لطفه ، وعفوه وبره ، نادما على ما كان منه من الإساءة والتقصير في جنب الله - تعالى - ، فيدخل وهو يقول : يا رب ، لا تحرمني رحمتك ، وذنوبه بين عينيه ، كمل أدبه مع الله - تعالى -
أنا المسيء المذنب الخطاء *** في توبتي عن حوبتي إبطاء
إذا أحس أنه مذنب ، وأن الواجب عليه أن يتوب إلى الله ؛ احتقر نفسه ، وانكسر قلبه بين يدي الله - تعالى - ، وأقبل على الله - تعالى - إقبال الأواه ، التائب ، الطالب ، الراغب ، وهنيئا لأقوام دخلوا المسجد بذنوب فخرجوا كيوم ولدتهم أمهاتهم ، وهنيئا لأقوام خرجوا من اعتكافهم قد نفضت من على ظهورهم السيئات والأوزار، وهنيئا لأقوام بُيّضت صحائف أعمالهم من ذنوب الأعمار، هنيئا لمن أخلص لله - تعالى - فتأدب مع الله فخرج من هذا المسجد ومن المساجد معتكفا بأعظم مثوبة وأعظم جزاء .
من الناس من خرج من المسجد بسعادة لا شقاء بعدها أبدا ، وكم من معتكف خرج من مسجده وقد عتقت رقبته من النار، وكم من معتكف خرج من مسجده بالفردوس الأعلى من الجنة ، أي شيء تطلبه حتى تتأدب مع الله ، وتعرف مع من تُعامل ، مع من تتعامل ، ومن تعبد، ومن ترجو، ملك الملوك ، وجبار السماوات والأرض ، هذا الرب الحليم الرحيم الكريم الجواد العظيم ، الذي بشربة ماءٍ لكلب غفر ذنوب العمر، هذا الرب الذي لا تنقضي خزائنه ، ولا تنتهي فضائله ونوائله - عز وجل - وهو ذو الفضل العظيم .
فإذا علمت من هو الله الذي تعامله ، وأنها سوق رابح، وأنك داخل على باب من أبواب الرحمة لا يعلم مداه وقدره إلا الله - تعالى .
يا هذا أين أنت ، أنت في الرحاب الطاهرات ، والمنازل المباركات ، وفي بيوتٍ أذن الله أن ترفع.
تتأدب مع الله - تعالى - حينما تعلم من هو الرب الذي تعبده ؟ ومن هو الرب الذي تناجيه ؟ من هو الكريم الذي ينفحك برحماته وبركاته وعطاياه - عز وجل - ؟ نسأل الله العظيم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر الحظ والنصيب.
مما ينبغي للإنسان أن يستشعر أيضا في اعتكافه : حسن الظن بالله - تعالى - ، فالأدب مع الله في بيوته وفي العبادات أن يحسن العبد الظن بربه - تعالى - ، ولذلك تجد المحسنين الذي أحسنوا الظنون بربهم إذ ا قرؤوا القرآن خشعت قلوبهم ، وبكت من خشية الله عيونهم ، وسكنت في طاعة الله جوارحهم ، وخضعت لربهم .
كذلك أيضا مما يعين على الأدب في حالة الاعتكاف : مراعاة حقوق النفس ، أن يتأدب المعتكف مع نفسه .
والأدب مع النفس له جوانب عديدة :
على المعتكف أن يعرف من هو ؟ ومن هي نفسه الأمارة بالسوء ؟ ويتأدب مع هذه النفس ، فلا يعطيها أكثر من حقها ، ولا يحملّها فوق ما تطيق ، حتى يُقبل على العبادة بسنة ، واتباعٍ لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بعيدا عن غلو الغالين ، بعيدا عن الرهبانيّة ، والتنطع ، والغلوّ في الدين ، يقبل على اعتكافه متّبعا رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - ، حنيفية سمحاء ، ورحمة من أرحم الراحمين ، لا غلوّ فيها ولا شطط، يقبل بنفس منشرحة ، لا تحمّل فوق ما تطيق ، قال صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا الأدب : " " .
وقال صلى الله عليه وسلم في الذي يعذب نفسه ، ويجهد نفسه ويحملّها فوق ما تطيق: " ".
يسهر الإنسان سهرا لا يعطي نفسه حق النوم في النهار ، ويقدم على العبادة بجد واجتهاد فوق الطاقة ، فعندها يمرض ، أو يسقط ، فلا هو بقي له جسده ، ولا هو كملت له عبادته ، وهذا شيء مذموم في الشرع ، غير محمود ، جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتيسير، ولم يأت بالتعسير ، جاء بالرحمة ، ولم يأت بالعذاب ، رأى رجلا قام في الشمس ، فقال : " ".
فالله لا تنفعه طاعة المطيعين ، ولا تضره معصية العاصين ، فيتأدب مع نفسه ، فلا يحملها ما لا تطيق ، وإنما يأخذها بالسماحة واليسر .
وهناك جوانب عديدة في الأدب مع النفس ، منها : عدم العجب ، وما أهلك العابد في عبادته شيء مثل العجب ، والغرور .
يدخل الإنسان إلى المسجد ، فيخلّي الشيطان بينه وبين عبادته ، فيخشع قلبه ، وينشرح صدره ، ويُقبل على العبادة إقبال المجدّين ، حتى إذا انتهى منها ، جاءه الشيطان من حدب وصوب ، وأشعره بأنه قد فاز ، وأنه قد نال الدرجات العلا ، حتى إن قدميه قد وطئت جنة الله - تعالى - من الغرور ، وعندها يمقته الله - تعالى - ولربما أحبط عمله .
إياك والغرور ، كان السلف الصالح - رحمهم الله - يحملون همّ الصواب في الأعمال ، أول همّ يحملون في العمل أن يعلموا الصواب والحق ، فإذا علموا الصواب ، حملوا همّ التوفيق للعمل ، وكانوا يسألون الله المعونة على الرشد ، فإذا وفّقوا للعمل بالصواب ، حملوا همّ الإخلاص فيه ، فإذا وفّقوا للإخلاص أو وجدوا الإخلاص حملوا همّ إتقانه ، والقيام به على الوجه الذي يرضي الله ، فإذا أتموا الأعمال خالصة متقنة إذا بهم يحملون همّ القبول ، فتجد الإنسان يخاف من ذنب بينه وبين الله أن يحول بينه وبين القبول .
فإياك والغرور ، ولذلك قال مطرف بن عبد الله بن الشخّير : "لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أبيت قائما وأصبح معجبا".
العجب طريق الحبوط - والعياذ بالله - للأعمال ، فمن أصابه العجب ؛ فعلى مهلكة ، فيسأل الله أن يعافيه من هذا البلاء . فإياك والعجب .
أما الأدب مع الناس ، فجماع الخير كله في تقوى الله - تعالى - ، ومن اتقى الله فهو المسلم الحق ، الذي سلم المسلمون من يده ولسانه .
والأدب مع الناس أن تقرأ في كتاب الله ، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الذي أمرك به تجاه إخوانك المسلمين ؟ ومن الذي نهاك عنه ؟ فتعطيهم ما تحب أن تعطى ، وتكف عنهم ما تحب أن يكف عنك ، وتكون مسلما حقا ، قد سلم المسلمون من ويده لسانه، وزلات جوارحه وأركانه ، فإذا وفقك الله لهذا ؛ فأبشر بخير كثير .
مبادئ معروفة عند المسلمين عرفها الصغار قبل الكبار ، من حقوق المسلم على أخيه المسلم ، هذه حقوق واجبة على المسلم وهو خارج المسجد ، ففي داخل المسجد تعلم أنها آكد ، وأنها أعظم ، فالله ، فالله ، أن ينظر الله إليك ، أو يسمع منك أذية لمسلم ، في بيته ، وفي هذا المكان الذي أذن الله أن يرفع ، إذا سبّك أحد فلا تسبّه ، وإذا شتمك فلا تشتمه ، واتق الله - تعالى - ، وكفّ لسانك عن أعراض المسلمين ، لا تغتابهم ، ولا تلمزهم ، ولا تتهمهم بالسوء ، ولا تحملهم على سوء المحامل ، ولا تجلس في بيت الله - تعالى - تجمع الناس على بغض المسلمين بعضهم لبعض ، وتؤلّب المسلمين بعضهم على بعض ، فاتق الله - تعالى - في ذلك ، أن تحفظ أن حقوق إخوانك المسلمين ، وأن تعلم علم اليقين أنك ستقف بين يدي ملك الملوك ، وجبار السماوات والأرض ، ويحاسبك عن فقير المسلمين كما يحاسبك عن غنيّهم ، واعلم أن الذي تراه أمامك من الفقراء والضعفاء ، وممن لا يُؤْبه به من الناس ، من عامة المسلمين ، أنه عند الله بمكان ، ولربّ أشعث أغبر، ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه .
فتحرص أن تكون معتكفا كما ينبغي أن يكون عليه المعكتف ، في حفظ جوارحك عن أذية المسلمين ، وصيانة نفسك عن ذلك ، واعلم أنك لا تستطيع أن تنال ذلك إلا بتوفيق الله - تعالى -، فاسأل الله أن يسلّمك ، وأن يسلم منك ، واستعذ بالله ، ولذلك جاء في السنة أنك تستعيذ بالله في دعاء المساء والصباح أن تجر السوء إلى أخيك المسلم ، تستعيذ بالله أن تعمل سوءا أو تجره إلى أخيك المسلم ، فتتق الله في إخوانك المسلمين ، فكيف وأنت في بيوت الله ، وكيف وأنت في الزمان المفضل ، والمكان المفضل ، ونسأل الله بعزته وجلاله العافية ، وأن يسلمنا وأن يسلم منا ، فو الله ، فإنها من أعظم نعم الله ، ومن أصدق الشواهد على الإيمان في هذا الزمان ، أن تجد الإنسان عفيف اللسان عن سب الناس وشتمهم ، ومن أصدق الدلائل على الإيمان الآن أن تجد إنسانا يحترم عامة المسلمين فضلا عن طلاب العلم وعن العلماء ، فضلا عن أئمة السلف ، والصالحين من هذه الأمة ، أن تجدهم معتكفا كما ينبغي ، فليس الإسلام بالتشهي ولا بالتمني ، ولا بالدعاوى العريضة ، وإنما أن تكون مسلما حقا قد سلم المسلمون من يدك ولسانك ، فإذا فعلت ذلك ؛ فقد رحمك الله .
قال الإمام البخاري رحمه الله : "والله ما اغتبت مسلما منذ أن سمعت الله ينهى عن الغيبة". فإذا علمت أن الله أعطاك لسانا وأنطقك وأخرس غيرك ، وأن أخاك المسلم يسألك حقه عندك ، وهو أن تكف لسانك عنه ، وأن تكف شرك عنه ، وتلك صدقة من الصدقات ، فإذا لزمت المساجد معتكفا تحفظ لسانك عن أذية المسلمين .
من الصور التي تخالف هذا الأدب : أنك تجد الشخص يحجز مكانا في الصف الأول ، أو في أماكن معينة ، فيأتي ضعيف من المسلمين ويجلس ، فيأتي ويلكزه ، أو يضربه ، أو يسبه ويشتمه في بيت الله - تعالى - ، ولربما يكون في حال الصوم ، ولربما يؤذيه ، ولربما يتهمه بالسوء ، فهذا كله من التهتك في حرمات الله - تعالى - ، والتساهل في حدود الله ، لقد أصبحت أعراض المسلمين رخيصة عند الناس ، ولكنها غالية عند رب الجِنّة والناس ، ولينصبن للناس ميزان لا يضيع فيه مثقال خردلة من حقوق الناس ومظالمهم ، وليعلمن هؤلاء الذين يرتعون في أعراض المسلمين ويؤذونهم خاصة في حال اعتكافهم ولزومهم لبيت الله - تعالى - أي ذنب أصابوه ، وأي خير ضيعوه على أنفسهم ، فنحن نشدد في هذه الأمور؛ لأن الناس أصبح عندهم تساهل في هذه الأشياء إلا من رحم الله ، ونسأل الله السلامة والعافية
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
حاصل على الدكتوراه في الفقه وهو مدرس في الجامعة الإسلامية وبالمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة وحاليا قد أصبح الشيخ عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وعضو هيئة كبار العلما
- التصنيف: