سُئِلَ عن عذاب القبر هل هو على النَّفْس والبَدن أو ..
منذ 2006-12-01
السؤال: سُئِلَ شَيْخ الإسْلام قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَه وهو بمصر عن [عذاب
القبر]: هل هو على النَّفْس والبَدن أو على النفس دون البدن؟
والميت يعذب في قبره حيًا أم ميتًا؟ وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم
تَعُدْ, فهل يتشاركان في العذاب والنعيم؟ أو يكون ذلك على أحدهما
دون الآخر؟
الإجابة: الحمد للّه رب العالمين.
بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة, تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن, وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها, فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين, كما يكون للروح منفردة عن البدن.
وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟
هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة والكلام, وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث, قول من يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح؛ وأن البدن لا ينعم ولا يعذب.
وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان, وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين.
ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم, الذين يقولون: لا يكون ذلك في البرزخ, وإنما يكون عند القيام من القبور.
وقول من يقول: إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب, وإنما الروح هي الحياة, وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام, من المعتزلة, وأصحاب أبي الحسن الأشعري, كالقاضي أبي بكر, وغيرهم, وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن, وهذا قول باطل, خالفه الأستاذ أبو المعالي الجُوَيْني وغيره, بل قد ثبت في الكتاب والسنة, واتفاق سلف الأمة, أن الروح تبقى بعد فراق البدن, وأنها منعمة أو معذبة.
من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام, بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف, والتحقيق والكلام.
والقول الثالث الشاذ: قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب, بل لا يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى, كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة, ونحوهم, الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه, بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن, وأن البدن لا ينعم ولا يعذب.
فجميع هؤلاء الطائفتين ضلال في أمر البرزخ, لكنهم خير من الفلاسفة؛ لأنهم يقرون بالقيامة الكبرى.
فإذا عرفت هذه الأقوال الثلاثة الباطلة, فاعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب, وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه, وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة, وأنها تتصل بالبدن أحيانًا, فيحصل له معها النعيم والعذاب.
ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها, وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
ومعاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين, واليهود, والنصارى.
وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة.
وهل يكون للبدن دون الروح نعيم أو عذاب؟ أثبت ذلك طائفة منهم, وأنكره أكثرهم.
ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه.
فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير: فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم, مثل ما في الصحيحين: عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال: .
وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال ..
وفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .
وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: .
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال [وجَبَت الشمس،أي غابت] .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت .
وفي صحيح أبي حاتم البستي عن أم مُبَشِّر رضي اللّه عنها قالت .
قال بعضهم: ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت [أي: أصابها وجع في بطنها بسبب أكلها التراب مع البَقْل] إلى قبور اليهود, والنصارى والمنافقين, كالإسماعيلية والنصيرية, وسائر القرامطة: من بني عبيد وغيرهم, الذين بأرض مصر والشام وغيرهما؛ فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك, كما يقصدون قبور اليهود والنصارى, والجهال تظن أنهم من ذرية فاطمة, وأنهم من أولياء اللّه, وإنما هو من هذا القبيل.
فقد قيل: إن الخيل إذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب بالمغل.
والحديث في هذا كثير لا يتسع له هذا السؤال.
وأحاديث المسألة كثيرة أيضًا, كما في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:
وفي لفظ:
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولًا, كما في سنن أبي داود وغيره عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال .
وفي لفظ: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:27]). قال: فذكر موته. وقال: .
فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد, وباختلاف أضلاعه, وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين.
وقد روى مثل حديث البراء في قبض الروح والمسألة, والنعيم والعذاب, رواه أبوهريرة, وحديثه في المسند وغيره, ورواه أبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: . قال: فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:27] .
وذكر في الكافر ضد ذلك أنه قال: فتلك المعيشة الضنك, التي قال اللّه تعالى:{لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
ههذا الحديث أخصر.
وحديث البراء المتقدم أطول ما في السنن, فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر, وهو في المسند وغيره بطوله.
وهو حديث حسن ثابت يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: .
وذكر المسألة كما تقدم, قال: .. قال: [السَّفُّود ـ بالفتح والضم مع التشديد: حديدة ذات شعب معقفة, يشوي بها اللحم] من الصوف المبلول, {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40], {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}]الحج:31]. .
وساق الحديث كما تقدم إلى أن قال: .
ففي هذا الحديث أنواع من العلم:
منها: أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن, خلافًا لضلال المتكلمين, وأنها تصعد وتنزل خلافًا لضلال الفلاسفة, وأنها تعاد إلى البدن, وأن الميت يسأل, فينعم أو يعذب, كما سأل عنه أهل السؤال, وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في صورة حسنة أو قبيحة.
وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: . قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا, ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون.
ثم نرجع إلى حديث أنس: .
وروى الترمذي وأبو حاتم في صحيحه وأكثر اللفظ له عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك, مما يبين أن البدن نفسه يعذب.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .
رواه النسائي والبزار ورواه مسلم مختصرًا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه.
وعند الكافر ونتن رائحة روحه, فرد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رِيطَة كانت عليه على أنفه هكذا.
[والرِّيطةُ: ثوب رقيق لين مثل الملاءة] .
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال: .
ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه, وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض ذلك.
وعن كعب بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .
رواه النسائي, ورواه مالك والشافعي كلاهما [نسمة المؤمن: أي روحه] .
[وقوله: [يَعْلُق] بالضم أي: يأكل], وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر إذا شاء اللّه وإنما تنعم في الجنة وحدها, وكلاهما حق.
وقد روى ابن أبي الدنيا في [كتاب ذكر الموت] عن مالك بن أنس قال: بلغني أن الروح مرسلة, تذهب حيث شاءت.
وهذا يوافق ما روي: (أن الروح قد تكون على أفْنِيَة القبور) [أفْنِيَة: جمع فناء, وهو المتسع أمام الدار] كما قال مجاهد: إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام, يوم يدفن الميت, لا تفارق ذلك, وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة, كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
وفي سنن أبي داود وغيره, عن أوس بن أوس الثقفي, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه, مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء اللّه ذلك كما يشاء, وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن, ومنعمة ومعذبة.
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى, كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: .
وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم, ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة, ولكن لا يجب ذلك أن يكون دائمًا على البدن في كل وقت, بل يجوز أن يكون في حال دون حال.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه .
وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قَليب بدر فقال: , وقال: , فذكر ذلك لعائشة, فقالت: وَهِم َابن عمر, إنما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلتُ لهم هو الحق ثم قرأت قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] حتى قرأت الآية".
وأهل العلم بالحديث والسنة اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر, وإن كانا لم يشهدا بدرًا, فإن أنسًا روى ذلك عن أبي طلحة, وأبو طلحة شهد بدرًا.
كما روى أبوحاتم في صحيحه عن أنس عن أبي طلحة رضي اللّه عنه [أي: بئر مطوية] [العَرْصَة: كل بُقعة بين الدور واسعة, ليس فيها بناء] .
قال قتادة: أحياهم اللّه حتى سمعهم, توبيخًا وتصغيرًا, ونقمة وحسرة وتنديمًا.
وعائشة تأولت فيما ذكرته كما تأولت أمثال ذلك.
والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره, وليس في القرآن ما ينفي ذلك فإن قوله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] إنما أراد به السماع المعتاد, الذي ينفع صاحبه, فإن هذا مَثَل ضُرِب للكفار, والكفار تسمع الصوت, لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع, كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} [البقرة:171].
فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل, لا يجب أن ينفى عنهم جميعُ السماع المعتاد أنواعَ السماع, كما لم ينف ذلك عن الكفار, بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به, وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خَفْق نعالهم, إذا ولوا مدبرين, فهذا موافق لهذا, فكيف يدفع ذلك؟ ومن العلماء من قال: إن الميت في قبره لا يسمع ما دام ميتًا, كما قالت عائشة, واستدلت به من القرآن.
وأما إذا أحياه اللّه فإنه يسمع كما قال قتادة: أحياهم اللّه له.
وإن كانت تلك الحياة لا يسمعون بها, كما نحن لا نرى الملائكة والجن, ولا نعلم ما يحس به الميت في منامه, وكما لا يعلم الإنسان ما في قلب الآخر, وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه اللّه عليه.
وهذه جملة يحصل بها مقصود السائل, وإن كان لها من الشرح والتفصيل ما ليس هذا موضعه, فإن ما ذكرناه من الأدلة البينة على ما سأل عنه ما لا يكاد مجموعًا.
وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الرابع (العقيدة)
بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة, تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن, وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها, فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين, كما يكون للروح منفردة عن البدن.
وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟
هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة والكلام, وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث, قول من يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح؛ وأن البدن لا ينعم ولا يعذب.
وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان, وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين.
ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم, الذين يقولون: لا يكون ذلك في البرزخ, وإنما يكون عند القيام من القبور.
وقول من يقول: إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب, وإنما الروح هي الحياة, وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام, من المعتزلة, وأصحاب أبي الحسن الأشعري, كالقاضي أبي بكر, وغيرهم, وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن, وهذا قول باطل, خالفه الأستاذ أبو المعالي الجُوَيْني وغيره, بل قد ثبت في الكتاب والسنة, واتفاق سلف الأمة, أن الروح تبقى بعد فراق البدن, وأنها منعمة أو معذبة.
من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام, بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف, والتحقيق والكلام.
والقول الثالث الشاذ: قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب, بل لا يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى, كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة, ونحوهم, الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه, بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن, وأن البدن لا ينعم ولا يعذب.
فجميع هؤلاء الطائفتين ضلال في أمر البرزخ, لكنهم خير من الفلاسفة؛ لأنهم يقرون بالقيامة الكبرى.
فإذا عرفت هذه الأقوال الثلاثة الباطلة, فاعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب, وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه, وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة, وأنها تتصل بالبدن أحيانًا, فيحصل له معها النعيم والعذاب.
ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها, وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
ومعاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين, واليهود, والنصارى.
وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة.
وهل يكون للبدن دون الروح نعيم أو عذاب؟ أثبت ذلك طائفة منهم, وأنكره أكثرهم.
ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه.
فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير: فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم, مثل ما في الصحيحين: عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال: .
وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال ..
وفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .
وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: .
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال [وجَبَت الشمس،أي غابت] .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت .
وفي صحيح أبي حاتم البستي عن أم مُبَشِّر رضي اللّه عنها قالت .
قال بعضهم: ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت [أي: أصابها وجع في بطنها بسبب أكلها التراب مع البَقْل] إلى قبور اليهود, والنصارى والمنافقين, كالإسماعيلية والنصيرية, وسائر القرامطة: من بني عبيد وغيرهم, الذين بأرض مصر والشام وغيرهما؛ فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك, كما يقصدون قبور اليهود والنصارى, والجهال تظن أنهم من ذرية فاطمة, وأنهم من أولياء اللّه, وإنما هو من هذا القبيل.
فقد قيل: إن الخيل إذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب بالمغل.
والحديث في هذا كثير لا يتسع له هذا السؤال.
وأحاديث المسألة كثيرة أيضًا, كما في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:
وفي لفظ:
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولًا, كما في سنن أبي داود وغيره عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال .
وفي لفظ: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:27]). قال: فذكر موته. وقال: .
فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد, وباختلاف أضلاعه, وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين.
وقد روى مثل حديث البراء في قبض الروح والمسألة, والنعيم والعذاب, رواه أبوهريرة, وحديثه في المسند وغيره, ورواه أبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: . قال: فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:27] .
وذكر في الكافر ضد ذلك أنه قال: فتلك المعيشة الضنك, التي قال اللّه تعالى:{لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
ههذا الحديث أخصر.
وحديث البراء المتقدم أطول ما في السنن, فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر, وهو في المسند وغيره بطوله.
وهو حديث حسن ثابت يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: .
وذكر المسألة كما تقدم, قال: .. قال: [السَّفُّود ـ بالفتح والضم مع التشديد: حديدة ذات شعب معقفة, يشوي بها اللحم] من الصوف المبلول, {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40], {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}]الحج:31]. .
وساق الحديث كما تقدم إلى أن قال: .
ففي هذا الحديث أنواع من العلم:
منها: أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن, خلافًا لضلال المتكلمين, وأنها تصعد وتنزل خلافًا لضلال الفلاسفة, وأنها تعاد إلى البدن, وأن الميت يسأل, فينعم أو يعذب, كما سأل عنه أهل السؤال, وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في صورة حسنة أو قبيحة.
وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: . قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا, ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون.
ثم نرجع إلى حديث أنس: .
وروى الترمذي وأبو حاتم في صحيحه وأكثر اللفظ له عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك, مما يبين أن البدن نفسه يعذب.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .
رواه النسائي والبزار ورواه مسلم مختصرًا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه.
وعند الكافر ونتن رائحة روحه, فرد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رِيطَة كانت عليه على أنفه هكذا.
[والرِّيطةُ: ثوب رقيق لين مثل الملاءة] .
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال: .
ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه, وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض ذلك.
وعن كعب بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .
رواه النسائي, ورواه مالك والشافعي كلاهما [نسمة المؤمن: أي روحه] .
[وقوله: [يَعْلُق] بالضم أي: يأكل], وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر إذا شاء اللّه وإنما تنعم في الجنة وحدها, وكلاهما حق.
وقد روى ابن أبي الدنيا في [كتاب ذكر الموت] عن مالك بن أنس قال: بلغني أن الروح مرسلة, تذهب حيث شاءت.
وهذا يوافق ما روي: (أن الروح قد تكون على أفْنِيَة القبور) [أفْنِيَة: جمع فناء, وهو المتسع أمام الدار] كما قال مجاهد: إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام, يوم يدفن الميت, لا تفارق ذلك, وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة, كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
وفي سنن أبي داود وغيره, عن أوس بن أوس الثقفي, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه, مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء اللّه ذلك كما يشاء, وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن, ومنعمة ومعذبة.
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى, كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: .
وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم, ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة, ولكن لا يجب ذلك أن يكون دائمًا على البدن في كل وقت, بل يجوز أن يكون في حال دون حال.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه .
وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قَليب بدر فقال: , وقال: , فذكر ذلك لعائشة, فقالت: وَهِم َابن عمر, إنما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلتُ لهم هو الحق ثم قرأت قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] حتى قرأت الآية".
وأهل العلم بالحديث والسنة اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر, وإن كانا لم يشهدا بدرًا, فإن أنسًا روى ذلك عن أبي طلحة, وأبو طلحة شهد بدرًا.
كما روى أبوحاتم في صحيحه عن أنس عن أبي طلحة رضي اللّه عنه [أي: بئر مطوية] [العَرْصَة: كل بُقعة بين الدور واسعة, ليس فيها بناء] .
قال قتادة: أحياهم اللّه حتى سمعهم, توبيخًا وتصغيرًا, ونقمة وحسرة وتنديمًا.
وعائشة تأولت فيما ذكرته كما تأولت أمثال ذلك.
والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره, وليس في القرآن ما ينفي ذلك فإن قوله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] إنما أراد به السماع المعتاد, الذي ينفع صاحبه, فإن هذا مَثَل ضُرِب للكفار, والكفار تسمع الصوت, لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع, كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} [البقرة:171].
فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل, لا يجب أن ينفى عنهم جميعُ السماع المعتاد أنواعَ السماع, كما لم ينف ذلك عن الكفار, بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به, وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خَفْق نعالهم, إذا ولوا مدبرين, فهذا موافق لهذا, فكيف يدفع ذلك؟ ومن العلماء من قال: إن الميت في قبره لا يسمع ما دام ميتًا, كما قالت عائشة, واستدلت به من القرآن.
وأما إذا أحياه اللّه فإنه يسمع كما قال قتادة: أحياهم اللّه له.
وإن كانت تلك الحياة لا يسمعون بها, كما نحن لا نرى الملائكة والجن, ولا نعلم ما يحس به الميت في منامه, وكما لا يعلم الإنسان ما في قلب الآخر, وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه اللّه عليه.
وهذه جملة يحصل بها مقصود السائل, وإن كان لها من الشرح والتفصيل ما ليس هذا موضعه, فإن ما ذكرناه من الأدلة البينة على ما سأل عنه ما لا يكاد مجموعًا.
وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الرابع (العقيدة)
- التصنيف: