ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه
منذ 2006-12-01
السؤال: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه
الإجابة: الذين يجعلون الفلسفة هي التشبيه بالإله على قدر الطاقة.
ويوجد هذا التفسير في كلام طائفة كأبي حامد الغزالي وأمثاله: ولا يثبت هؤلاء قربا حقيقيا وهو القرب المعلوم المعقول ومن جعل قرب عباده المقربين ليس إليه؛ وإنما هو إلى ثوابه وإحسانه فهو معطل مبطل.
وذلك أن ثوابه وإحسانه يصل إليهم ويصلون إليه.
ويباشرهم ويباشرونه بدخوله فيهم ودخولهم فيه بالأكل واللباس.
فإذا كانوا يكونون في نفس جنته ونعيمه وثوابه كيف يجعل أعظم الغايات قربهم من إحسانه ولا سيما والمقربون هم فوق أصحاب اليمين الأبرار.
الذين كتابهم في عليين {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين 19ـ 28].
قال ابن عباس: {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجا.
فقد أخبر أن الأبرار في نفس النعيم وأنهم يسقون من الشراب الذي وصفه الله تعالى ويجلسون على الأرائك ينظرون فكيف يقال: إن المقربين الذين هم أعلى من هؤلاء بحيث يشربون صرفها ويمزج لهؤلاء مزجا إنما تقريبهم هو مجرد النعيم الذي أولئك فيه ؟ هذا مما يعلم فساده بأدنى تأمل.
المسألة الثانية في قربه الذي هو من لوازم ذاته: مثل العلم والقدرة فلا ريب أنه قريب بعلمه وقدرته وتدبيره من جميع خلقه لم يزل بهم عالما ولم يزل عليهم قادرا هذا مذهب جميع أهل السنة وعامة الطوائف إلا من ينكر علمه القديم من القدرية والرافضة ونحوهم أو ينكر قدرته على الشيء قبل كونه من الرافضة والمعتزلة وغيرهم.
وأما قربه بنفسه من مخلوقاته قربا لازما في وقت دون وقت؛ ولا يختص به شيء: فهذا فيه للناس قولان.
فمن يقول هو بذاته في كل مكان يقول بهذا ومن لا يقول بهذا لهم أيضا فيه قولان.
أحدهما إثبات هذا القرب وهو قول طائفة من المتكلمين والصوفية وغيرهم يقولون: هو فوق العرش ويثبتون هذا القرب.
وقوم يثبتون هذا القرب؛ دون كونه على العرش.
وإذا كان قرب عباده منه نفسه وقربه منهم ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام لم يجب أن يتأول كل نص فيه ذكر قربه من جهة امتناع القرب عليه ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه بل يبقى هذا من الأمور الجائزة وينظر في النص الوارد فإن دل على هذا حمل عليه وإن دل على هذا حمل عليه وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء.
وإن كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه كما في قوله تعالى: {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِد} [النحل: 26] وقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: الآية2] فتدبر هذا فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة ودلالة نص عليها يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ حيث ورد دالا على الصفة وظاهرا فيها.
ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا.
وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك؛ بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى إضافة صفة من آيات الصفات.
كقوله تعالى:{فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: من الآية56].
وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة وهذا من أكبر الغلط فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه.
وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية وهذا موجود في أمر المخلوقين يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات.
وأنا أذكر لهذا مثالين نافعين، أحدهما صفة الوجه فإنه لما كان إثبات هذه الصفة مذهب أهل الحديث والمتكلمة الصفاتية: من الكلابية والأشعرية والكرامية وكان نفيها مذهب الجهمية: من المعتزلة وغيرهم ومذهب بعض الصفاتية من الأشعرية وغيرهم صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد النزاع فالمثبت يجعلها من الصفات التي لا تتأول بالصرف والنافي يرى أنه إذا قام الدليل على أنها ليست صفة فكذلك غيرها.
مثال ذلك قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} [البقرة: 115].
أدخلها في آيات الصفات طوائف من المثبتة والنفاة حتى عدها أولئك كابن خزيمة مما يقرر إثبات الصفة وجعل النافية تفسيرها بغير الصفة حجة لهم في موارد النزاع.
ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود وكنت قد قلت: أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئا مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب الأسماء والصفات في قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي أن المراد قبلة الله فقال أحد كبرائهم في المجلس الثاني قد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل فوقع في قلبي ما أعد فقلت: لعلك قد ذكرت ما روي في قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} قال: نعم.
قلت: المراد بها قبلة الله فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف. ولم يكن هذا السؤال يرد علي؛ فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه ولا أثبتها لكن طلبوها من حيث الجملة وكلامي كان مقيدا كما في الأجوبة فلم أر إحقاقهم في هذا المقام بل قلت هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا ولا تندرج في عموم قول من يقول: لا تؤول آيات الصفات.
قال: أليس فيها ذكر الوجه فلما قلت: المراد بها قبلة الله.
قال: أليست هذه من آيات الصفات ؟ قلت: لا.
ليست من موارد النزاع فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه هنا القبلة فإن [الوجه] هو الجهة في لغة العرب يقال: قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا [الوجه] أي: إلى هذه الجهة وهذا كثير مشهور فالوجه هو الجهة.
وهو الوجه: كما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] أي متوليها فقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} كلتا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان وكلاهما في شأن القبلة والوجه والجهة هو الذي ذكر في الآيتين: أنا نوليه: نستقبله.
قلت: والسياق يدل عليه لأنه قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} وأين من الظروف وتولوا أي تستقبلوا.
فالمعنى: أي موضع استقبلتموه فهنالك وجه الله فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله هذا بعد قوله: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وهي الجهات كلها كما في الآية الأخرى: {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [البقرة: 142].
فأخبر أن الجهات له فدل على أن الإضافة إضافة تخصيص وتشريف؛ كأنه قال جهة الله وقبلة الله. ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي قبلة الله ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه كما جاء في الحديث وكما في قوله ؛ ويقول: إن الآية دلت على المعنيين.
فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه.
والغرض أنه إذا قيل: فثم قبلة الله لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه؛ الذي ينكره منكرو تأويل آيات الصفات؛ ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة فإن هذا المعنى صحيح في نفسه والآية دالة عليه وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر ويبقى دلالة قولهم: {فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} [البقرة 115]على فثم قبلة الله هل هو من باب تسمية القبلة وجها باعتبار أن الوجه والجهة واحد ؟ أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله ؟ فهذا فيه بحوث ليس هذا موضعها.
والمثال الثاني: لفظة [الأمر] فإن الله تعالى لما أخبر بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس 82] وقال: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر} [الأعراف 54] واستدل طوائف من السلف على أن الأمر غير مخلوق بل هو كلامه وصفة من صفاته بهذه الآية وغيرها صار كثير من الناس يطرد ذلك في لفظ الأمر حيث ورد فيجعله صفة طردا للدلالة ويجعل دلالته على غير الصفة نقضا لها وليس الأمر كذلك؛ فبينت في بعض رسائلي: أن الأمر وغيره من الصفات يطلق على الصفة تارة وعلى متعلقها أخرى؛ فالرحمة صفة لله ويسمى ما خلق رحمة والقدرة من صفات الله تعالى ويسمى المقدور قدرة ويسمى تعلقها بالمقدور قدرة والخلق من صفات الله تعالى ويسمى خلقا والعلم من صفات الله ويسمى المعلوم أو المتعلق علما؛ فتارة يراد الصفة وتارة يراد متعلقها وتارة يراد نفس التعلق.
و الأمر مصدر فالمأمور به يسمى أمرا ومن هذا الباب سمي عيسى صلى الله عليه وسلم كلمة؛ لأنه مفعول بالكلمة وكائن بالكلمة وهذا هو الجواب عن سؤال الجهمية لما قالوا: عيسى كلمة الله فهو مخلوق والقرآن إذا كان كلام الله لم يكن إلا مخلوقا؛ فإن عيسى ليس هو نفس كلمة الله وإنما سمي بذلك لأنه خلق بالكلمة على خلاف سنة المخلوقين فخرقت فيه العادة وقيل له: كن فكان.
والقرآن نفس كلام الله.
فمن تدبر ما ورد في باب أسماء الله تعالى وصفاته وإن دلالة ذلك في بعض المواضع على ذات الله.
أو بعض صفات ذاته لا يوجب أن يكون ذلك هو مدلول اللفظ حيث ورد حتى يكون ذلك طردا للمثبت ونقضا للنافي؛ بل ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبين معناه من القرآن والدلالات فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والسنة والاستدلال بهما مطلقا ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب وطرد الدليل ونقضه فهو نافع في كل علم خبري أو إنشائي وفي كل استدلال أو معارضة: من الكتاب والسنة وفي سائر أدلة الخلق.
فإذا كان العبد لا يمتنع أن يتقرب من ربه وأن يقرب منه ربه بأحد المعنيين المتقدمين أو بكليهما؛ لم يمتنع حمل النص على ذلك إذا كان دالا عليه فإن لم يكن دالا عليه لم يجز حمله وإن احتمل هذا المعنى وهذا المعنى وقف.
فجواز إرادة المعنى في الجملة غير كونه هو المراد بكل نص.
وأما قربه اللازم من عباده: بعلمه وقدرته وتدبيره فقد تقدم.
وتقدم ذكر الخلاف في قربه بنفسه قربا لازما وعرف المتفق عليه والمختلف فيه: من قربه العارض واللازم؛ فقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16] من الناس طوائف عندهم لا يحتاج إلى تأويل ومنهم من يحوجها إلى التأويل.
ثم أقول هذه الآية لا تخلو إما أن يراد بها قربه سبحانه؛ أو قرب ملائكته؛ كما قد اختلف الناس في ذلك فإن أريد بها قرب الملائكة فقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق 17]؛ فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس الإنسان وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه.
ودليل ذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى} ففسر ذلك بالقرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان وبأي معنى فسر؛ فإن علمه وقدرته عام التعلق وكذلك نفسه سبحانه لا يختص بهذا الوقت وتكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف 80] ومنه قوله في أول السورة: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق 4].
وعلى هذا فالقرب لا مجاز فيه. وإنما الكلام في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ} حيث عبر بها عن ملائكته ورسله أو عبر بها عن نفسه أو عن ملائكته ولكن قرب كل بحسبه.
فقرب الملائكة منه تلك الساعة وقرب الله تعالى منه مطلق؛ كالوجه الثاني إذا أريد به الله تعالى أي: نحن أقرب إليه من حبل الوريد؛ فيرجع هذا إلى القرب الذاتي اللازم.
وفيه القولان.
أحدهما: إثبات ذلك وهو قول طائفة من المتكلمين والصوفية.
والثاني: أن القرب هنا بعلمه؛ لأنه قد قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}؛ فذكر لفظ العلم هنا دل على القرب بالعلم.
ومثل هذه الآية حديث أبي موسى ؛ فالآية لا تحتاج إلى تأويل القرب في حق الله تعالى إلا على هذا القول وحينئذ فالسياق دل عليه ومما دل عليه السياق هو ظاهر الخطاب؛ فلا يكون من موارد النزاع.
وقد تقدم أنا لا نذم كل ما يسمى تأويلا مما فيه كفاية وإنما نذم تحريف الكلم عن مواضعه ومخالفة الكتاب والسنة والقول في القرآن بالرأي.
وتحقيق الجواب هو أن يقال: إما أن يكون قربه بنفسه القرب اللازم ممكنا أو لا يكون.
فإن كان ممكنا لم تحتج الآية إلى تأويل وإن لم يكن ممكنا حملت الآية على ما دل عليه سياقها وهو قربه بعلمه.
وعلى هذا القول فإما أن يكون هذا هو ظاهر الخطاب الذي دل عليه السياق أو لا يكون.
فإن كان هو ظاهر الخطاب فلا كلام؛ إذ لا تأويل حينئذ.
وإن لم يكن ظاهر الخطاب؛ فإنما حمل على ذلك لأن الله تعالى قد بين في غير موضع من كتابه أنه على العرش وأنه فوق فكان ما ذكره في كتابه في غير موضع أنه فوق العرش مع ما قرنه بهذه الآية من العلم دليلا على أنه أراد قرب العلم؛ إذ مقتضى تلك الآيات ينافي ظاهر هذه الآية على هذا التقدير والصريح يقضي على الظاهر ويبين معناه.
ويجوز باتفاق المسلمين أن تفسر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويصرف الكلام عن ظاهره؛ إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنة وإن سمي تأويلا وصرفا عن الظاهر فذلك لدلالة القرآن عليه ولموافقة السنة والسلف عليه؛ لأنه تفسير القرآن بالقرآن؛ ليس تفسيرا له بالرأي.
والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين كما تقدم.
وللإمام أحمد رحمه الله تعالى رسالة في هذا النوع وهو ذكر الآيات التي يقال: بينها معارضة وبيان الجمع بينها وإن كان فيه مخالفة لما يظهر من إحدى الآيتين أو حمل إحداهما على المجاز.
وكلامه في هذا أكثر من كلام غيره من الأئمة المشهورين؛ فإن كلام غيره أكثر ما يوجد في المسائل العملية وأما المسائل العلمية فقليل.
وكلام الإمام أحمد كثير في المسائل العلمية والعملية لقيام الدليل من القرآن والسنة على ذلك ومن قال: إن مذهبه نفي ذلك فقد افترى عليه والله أعلم.
والكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان} [البقرة 186] مثل قوله صلى الله عليه وسلم فمن حمله على قرب نفسه قربا لازما أو عارضا فلا كلام ومن قال: المراد كونه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم وما يتبع ذلك.
قال: دل عليه السياق فلا يكون خلاف الظاهر.
أو يقول: دل عليه ما في القرآن والسنة من النصوص التي تدل على أنه فوق العرش فيكون تفسير القرآن وتأويله بالكتاب والسنة وهذا لا محذور فيه.
واعلم أن من الناس من سلك هذا المسلك في نفس المعية ويقول: إنه محمول على ما دل عليه السياق.
وإن كان خلاف ظاهر الإطلاق أو محمول على خلاف الظاهر لدلالة الآيات أن الله فوق العرش ويجعل بعض القرآن يفسر بعضا لكن نحن بينا أنه ليس في ظاهر المعية ما يوجب ذلك؛ لأنا وجدنا جميع استعمالات مع في الكتاب والسنة لا توجب اتصالا واختلاطا فلم يكن بنا حاجة إلى أن نجعل ظاهره الملاصقة ثم نصرفه.
فأما لفظ [القرب] فهو مثل لفظ [الدنو] وضد القرب البعد فاللفظ ظاهر في اللغة.
فإما أن يحمل عليه وإما أن يحمل على ما يقال إنه الظاهر الذي دل عليه السياق أو على خلاف الظاهر لدلالة بقية النصوص.
وقد روى الطبراني وغيره .
وصلى الله على محمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)
ويوجد هذا التفسير في كلام طائفة كأبي حامد الغزالي وأمثاله: ولا يثبت هؤلاء قربا حقيقيا وهو القرب المعلوم المعقول ومن جعل قرب عباده المقربين ليس إليه؛ وإنما هو إلى ثوابه وإحسانه فهو معطل مبطل.
وذلك أن ثوابه وإحسانه يصل إليهم ويصلون إليه.
ويباشرهم ويباشرونه بدخوله فيهم ودخولهم فيه بالأكل واللباس.
فإذا كانوا يكونون في نفس جنته ونعيمه وثوابه كيف يجعل أعظم الغايات قربهم من إحسانه ولا سيما والمقربون هم فوق أصحاب اليمين الأبرار.
الذين كتابهم في عليين {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين 19ـ 28].
قال ابن عباس: {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجا.
فقد أخبر أن الأبرار في نفس النعيم وأنهم يسقون من الشراب الذي وصفه الله تعالى ويجلسون على الأرائك ينظرون فكيف يقال: إن المقربين الذين هم أعلى من هؤلاء بحيث يشربون صرفها ويمزج لهؤلاء مزجا إنما تقريبهم هو مجرد النعيم الذي أولئك فيه ؟ هذا مما يعلم فساده بأدنى تأمل.
المسألة الثانية في قربه الذي هو من لوازم ذاته: مثل العلم والقدرة فلا ريب أنه قريب بعلمه وقدرته وتدبيره من جميع خلقه لم يزل بهم عالما ولم يزل عليهم قادرا هذا مذهب جميع أهل السنة وعامة الطوائف إلا من ينكر علمه القديم من القدرية والرافضة ونحوهم أو ينكر قدرته على الشيء قبل كونه من الرافضة والمعتزلة وغيرهم.
وأما قربه بنفسه من مخلوقاته قربا لازما في وقت دون وقت؛ ولا يختص به شيء: فهذا فيه للناس قولان.
فمن يقول هو بذاته في كل مكان يقول بهذا ومن لا يقول بهذا لهم أيضا فيه قولان.
أحدهما إثبات هذا القرب وهو قول طائفة من المتكلمين والصوفية وغيرهم يقولون: هو فوق العرش ويثبتون هذا القرب.
وقوم يثبتون هذا القرب؛ دون كونه على العرش.
وإذا كان قرب عباده منه نفسه وقربه منهم ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام لم يجب أن يتأول كل نص فيه ذكر قربه من جهة امتناع القرب عليه ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه بل يبقى هذا من الأمور الجائزة وينظر في النص الوارد فإن دل على هذا حمل عليه وإن دل على هذا حمل عليه وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء.
وإن كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه كما في قوله تعالى: {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِد} [النحل: 26] وقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: الآية2] فتدبر هذا فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة ودلالة نص عليها يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ حيث ورد دالا على الصفة وظاهرا فيها.
ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا.
وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك؛ بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى إضافة صفة من آيات الصفات.
كقوله تعالى:{فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: من الآية56].
وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة وهذا من أكبر الغلط فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه.
وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية وهذا موجود في أمر المخلوقين يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات.
وأنا أذكر لهذا مثالين نافعين، أحدهما صفة الوجه فإنه لما كان إثبات هذه الصفة مذهب أهل الحديث والمتكلمة الصفاتية: من الكلابية والأشعرية والكرامية وكان نفيها مذهب الجهمية: من المعتزلة وغيرهم ومذهب بعض الصفاتية من الأشعرية وغيرهم صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد النزاع فالمثبت يجعلها من الصفات التي لا تتأول بالصرف والنافي يرى أنه إذا قام الدليل على أنها ليست صفة فكذلك غيرها.
مثال ذلك قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} [البقرة: 115].
أدخلها في آيات الصفات طوائف من المثبتة والنفاة حتى عدها أولئك كابن خزيمة مما يقرر إثبات الصفة وجعل النافية تفسيرها بغير الصفة حجة لهم في موارد النزاع.
ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود وكنت قد قلت: أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئا مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب الأسماء والصفات في قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي أن المراد قبلة الله فقال أحد كبرائهم في المجلس الثاني قد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل فوقع في قلبي ما أعد فقلت: لعلك قد ذكرت ما روي في قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} قال: نعم.
قلت: المراد بها قبلة الله فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف. ولم يكن هذا السؤال يرد علي؛ فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه ولا أثبتها لكن طلبوها من حيث الجملة وكلامي كان مقيدا كما في الأجوبة فلم أر إحقاقهم في هذا المقام بل قلت هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا ولا تندرج في عموم قول من يقول: لا تؤول آيات الصفات.
قال: أليس فيها ذكر الوجه فلما قلت: المراد بها قبلة الله.
قال: أليست هذه من آيات الصفات ؟ قلت: لا.
ليست من موارد النزاع فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه هنا القبلة فإن [الوجه] هو الجهة في لغة العرب يقال: قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا [الوجه] أي: إلى هذه الجهة وهذا كثير مشهور فالوجه هو الجهة.
وهو الوجه: كما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] أي متوليها فقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} كلتا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان وكلاهما في شأن القبلة والوجه والجهة هو الذي ذكر في الآيتين: أنا نوليه: نستقبله.
قلت: والسياق يدل عليه لأنه قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} وأين من الظروف وتولوا أي تستقبلوا.
فالمعنى: أي موضع استقبلتموه فهنالك وجه الله فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله هذا بعد قوله: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وهي الجهات كلها كما في الآية الأخرى: {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [البقرة: 142].
فأخبر أن الجهات له فدل على أن الإضافة إضافة تخصيص وتشريف؛ كأنه قال جهة الله وقبلة الله. ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي قبلة الله ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه كما جاء في الحديث وكما في قوله ؛ ويقول: إن الآية دلت على المعنيين.
فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه.
والغرض أنه إذا قيل: فثم قبلة الله لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه؛ الذي ينكره منكرو تأويل آيات الصفات؛ ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة فإن هذا المعنى صحيح في نفسه والآية دالة عليه وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر ويبقى دلالة قولهم: {فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} [البقرة 115]على فثم قبلة الله هل هو من باب تسمية القبلة وجها باعتبار أن الوجه والجهة واحد ؟ أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله ؟ فهذا فيه بحوث ليس هذا موضعها.
والمثال الثاني: لفظة [الأمر] فإن الله تعالى لما أخبر بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس 82] وقال: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر} [الأعراف 54] واستدل طوائف من السلف على أن الأمر غير مخلوق بل هو كلامه وصفة من صفاته بهذه الآية وغيرها صار كثير من الناس يطرد ذلك في لفظ الأمر حيث ورد فيجعله صفة طردا للدلالة ويجعل دلالته على غير الصفة نقضا لها وليس الأمر كذلك؛ فبينت في بعض رسائلي: أن الأمر وغيره من الصفات يطلق على الصفة تارة وعلى متعلقها أخرى؛ فالرحمة صفة لله ويسمى ما خلق رحمة والقدرة من صفات الله تعالى ويسمى المقدور قدرة ويسمى تعلقها بالمقدور قدرة والخلق من صفات الله تعالى ويسمى خلقا والعلم من صفات الله ويسمى المعلوم أو المتعلق علما؛ فتارة يراد الصفة وتارة يراد متعلقها وتارة يراد نفس التعلق.
و الأمر مصدر فالمأمور به يسمى أمرا ومن هذا الباب سمي عيسى صلى الله عليه وسلم كلمة؛ لأنه مفعول بالكلمة وكائن بالكلمة وهذا هو الجواب عن سؤال الجهمية لما قالوا: عيسى كلمة الله فهو مخلوق والقرآن إذا كان كلام الله لم يكن إلا مخلوقا؛ فإن عيسى ليس هو نفس كلمة الله وإنما سمي بذلك لأنه خلق بالكلمة على خلاف سنة المخلوقين فخرقت فيه العادة وقيل له: كن فكان.
والقرآن نفس كلام الله.
فمن تدبر ما ورد في باب أسماء الله تعالى وصفاته وإن دلالة ذلك في بعض المواضع على ذات الله.
أو بعض صفات ذاته لا يوجب أن يكون ذلك هو مدلول اللفظ حيث ورد حتى يكون ذلك طردا للمثبت ونقضا للنافي؛ بل ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبين معناه من القرآن والدلالات فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والسنة والاستدلال بهما مطلقا ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب وطرد الدليل ونقضه فهو نافع في كل علم خبري أو إنشائي وفي كل استدلال أو معارضة: من الكتاب والسنة وفي سائر أدلة الخلق.
فإذا كان العبد لا يمتنع أن يتقرب من ربه وأن يقرب منه ربه بأحد المعنيين المتقدمين أو بكليهما؛ لم يمتنع حمل النص على ذلك إذا كان دالا عليه فإن لم يكن دالا عليه لم يجز حمله وإن احتمل هذا المعنى وهذا المعنى وقف.
فجواز إرادة المعنى في الجملة غير كونه هو المراد بكل نص.
وأما قربه اللازم من عباده: بعلمه وقدرته وتدبيره فقد تقدم.
وتقدم ذكر الخلاف في قربه بنفسه قربا لازما وعرف المتفق عليه والمختلف فيه: من قربه العارض واللازم؛ فقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16] من الناس طوائف عندهم لا يحتاج إلى تأويل ومنهم من يحوجها إلى التأويل.
ثم أقول هذه الآية لا تخلو إما أن يراد بها قربه سبحانه؛ أو قرب ملائكته؛ كما قد اختلف الناس في ذلك فإن أريد بها قرب الملائكة فقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق 17]؛ فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس الإنسان وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه.
ودليل ذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى} ففسر ذلك بالقرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان وبأي معنى فسر؛ فإن علمه وقدرته عام التعلق وكذلك نفسه سبحانه لا يختص بهذا الوقت وتكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف 80] ومنه قوله في أول السورة: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق 4].
وعلى هذا فالقرب لا مجاز فيه. وإنما الكلام في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ} حيث عبر بها عن ملائكته ورسله أو عبر بها عن نفسه أو عن ملائكته ولكن قرب كل بحسبه.
فقرب الملائكة منه تلك الساعة وقرب الله تعالى منه مطلق؛ كالوجه الثاني إذا أريد به الله تعالى أي: نحن أقرب إليه من حبل الوريد؛ فيرجع هذا إلى القرب الذاتي اللازم.
وفيه القولان.
أحدهما: إثبات ذلك وهو قول طائفة من المتكلمين والصوفية.
والثاني: أن القرب هنا بعلمه؛ لأنه قد قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}؛ فذكر لفظ العلم هنا دل على القرب بالعلم.
ومثل هذه الآية حديث أبي موسى ؛ فالآية لا تحتاج إلى تأويل القرب في حق الله تعالى إلا على هذا القول وحينئذ فالسياق دل عليه ومما دل عليه السياق هو ظاهر الخطاب؛ فلا يكون من موارد النزاع.
وقد تقدم أنا لا نذم كل ما يسمى تأويلا مما فيه كفاية وإنما نذم تحريف الكلم عن مواضعه ومخالفة الكتاب والسنة والقول في القرآن بالرأي.
وتحقيق الجواب هو أن يقال: إما أن يكون قربه بنفسه القرب اللازم ممكنا أو لا يكون.
فإن كان ممكنا لم تحتج الآية إلى تأويل وإن لم يكن ممكنا حملت الآية على ما دل عليه سياقها وهو قربه بعلمه.
وعلى هذا القول فإما أن يكون هذا هو ظاهر الخطاب الذي دل عليه السياق أو لا يكون.
فإن كان هو ظاهر الخطاب فلا كلام؛ إذ لا تأويل حينئذ.
وإن لم يكن ظاهر الخطاب؛ فإنما حمل على ذلك لأن الله تعالى قد بين في غير موضع من كتابه أنه على العرش وأنه فوق فكان ما ذكره في كتابه في غير موضع أنه فوق العرش مع ما قرنه بهذه الآية من العلم دليلا على أنه أراد قرب العلم؛ إذ مقتضى تلك الآيات ينافي ظاهر هذه الآية على هذا التقدير والصريح يقضي على الظاهر ويبين معناه.
ويجوز باتفاق المسلمين أن تفسر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويصرف الكلام عن ظاهره؛ إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنة وإن سمي تأويلا وصرفا عن الظاهر فذلك لدلالة القرآن عليه ولموافقة السنة والسلف عليه؛ لأنه تفسير القرآن بالقرآن؛ ليس تفسيرا له بالرأي.
والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين كما تقدم.
وللإمام أحمد رحمه الله تعالى رسالة في هذا النوع وهو ذكر الآيات التي يقال: بينها معارضة وبيان الجمع بينها وإن كان فيه مخالفة لما يظهر من إحدى الآيتين أو حمل إحداهما على المجاز.
وكلامه في هذا أكثر من كلام غيره من الأئمة المشهورين؛ فإن كلام غيره أكثر ما يوجد في المسائل العملية وأما المسائل العلمية فقليل.
وكلام الإمام أحمد كثير في المسائل العلمية والعملية لقيام الدليل من القرآن والسنة على ذلك ومن قال: إن مذهبه نفي ذلك فقد افترى عليه والله أعلم.
والكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان} [البقرة 186] مثل قوله صلى الله عليه وسلم فمن حمله على قرب نفسه قربا لازما أو عارضا فلا كلام ومن قال: المراد كونه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم وما يتبع ذلك.
قال: دل عليه السياق فلا يكون خلاف الظاهر.
أو يقول: دل عليه ما في القرآن والسنة من النصوص التي تدل على أنه فوق العرش فيكون تفسير القرآن وتأويله بالكتاب والسنة وهذا لا محذور فيه.
واعلم أن من الناس من سلك هذا المسلك في نفس المعية ويقول: إنه محمول على ما دل عليه السياق.
وإن كان خلاف ظاهر الإطلاق أو محمول على خلاف الظاهر لدلالة الآيات أن الله فوق العرش ويجعل بعض القرآن يفسر بعضا لكن نحن بينا أنه ليس في ظاهر المعية ما يوجب ذلك؛ لأنا وجدنا جميع استعمالات مع في الكتاب والسنة لا توجب اتصالا واختلاطا فلم يكن بنا حاجة إلى أن نجعل ظاهره الملاصقة ثم نصرفه.
فأما لفظ [القرب] فهو مثل لفظ [الدنو] وضد القرب البعد فاللفظ ظاهر في اللغة.
فإما أن يحمل عليه وإما أن يحمل على ما يقال إنه الظاهر الذي دل عليه السياق أو على خلاف الظاهر لدلالة بقية النصوص.
وقد روى الطبراني وغيره .
وصلى الله على محمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)
- التصنيف: