هل يكفر من يصادق ويحب الكافر؟
هل من يصادق الكافر ويحبه جدًا ، هل يكفر بذلك كفر مخرج عن الملة، كما ذكر في سورة المائدة عن موالاة الكفار؟
هل من يصادق الكافر ويحبه جدًا ، هل يكفر بذلك كفر مخرج عن الملة، كما ذكر في سورة المائدة عن موالاة الكفار؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فحب المؤمنين وبغض الكافرين، من أوثق عُرَى الإيمان، وآكَدِ أُصُول الدين، وهَدْمُ هذا الأصل في قلب المسلم هدم لتلك العقيدة، وترك ما يُوجِب على المؤمن من الأعمال، بل هو هَدم للإيمان كله، الذي هو مبنيٌّ على محبة أولياء الله تعالى، ومعاداة أعدائه؛ كما رَوَى أحمدُ عن البَرَاءِ بنِ عازِبٍ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الموالاةُ في اللهِ، والمعَادَاةُ في اللهِ، والْحَبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ»..
فمن يحب الكافر ويتخذِه صديقًا وخلًّا، على خطر عظيم؛ لأنه يهدم بابًا عظيمًا من أبواب التوحيد، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144]، وقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [الْمَائِدَة: 55 -56].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْأَنْفَال: 72 - 75].
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في "مجموع الفتاوى" (35/ 94):
"عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ، وَمُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ تَابِعًا لِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ فَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُعَادِي مَن يُعَادِي اللهَ وَرَسُولَهُ، وَمَن كَانَ فِيهِ مَا يُوالَى عَلَيْهِ مِنْ حَسَنَاتٍ وَمَا يُعَادَى عَلَيْهِ مِن سَيِّئَاتٍ، عُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ، كَفُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ؛ إِذْ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ؛ بِحَسَبِ مَا فِيهِم مِنَ البِرِّ وَالْفُجُورِ؛ فَإِنَّ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَة: 7 - 8]؛ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ" اهـ.
ولا شكَّ أن الخُلطَةَ بالكافرين، واتخاذِهم أصدقاءَ وخلان- توجِبُ من الحُبِّ ومَيلِ القلب والمودةِ، حتى يقع المسلم في موادَّة الكُفَّار، والرِّضا بدينِهِ والركون إليه؛ وهذا من الكفر البواح؛ قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وقال سبحانه: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ولكن بغير مودَّةِ القلب، ولا تعظيمٍ لشعائر الكُفر، فَمَتَى أدَّى إِلَى أَحَدِ هذينِ امتَنَعَتْ، وَصَارَ مِن قَبِيلِ ما نُهِيَ عنهُ؛ كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ} [الممتحنة:8].
فمحبة الله ورسوله هي أكمل محبة وأصل الأعمال، والمحبة في الله تمنع من محبة المشرك، وقد توعد الله وعيدًا شديدًا من كان أهله أو ماله أو المساكن والمتاجر والأصحاب والإخوان - إلا لم يكن مؤمنًا حقًا، قال تعالى: { {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، فجنس المحبة تكون لله ورسوله، وفي الله ورسوله، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ} [المائدة: 54].
هذا؛ وقد صرح شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في مجموع الفتاوى (7/ 16-18) بأن محبة الكافرين من نواقض الإيمان، وأن الإيمان الواجب يمنع صاحبه من حبهم؛ فقال:
"فيقال: من أحوال القلب وأعماله ما يكون من لوازم الإيمان الثابتة فيه، بحيث إذا كان الإنسان مؤمنا؛ لزم ذلك بغير قصد منه ولا تعمد له، وإذا لم يوجد؛ دل على أن الإيمان الواجب لم يحصل في القلب؛ وهذا كقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].
فأخبر أنك لا تجد مؤمنًا يواد المحادين لله ورسوله؛ فإن نفس الإيمان ينافي موادته، كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه؛ كان ذلك دليلًا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب، ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ* وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80، 81]، فذكر "جملة شرطية" تقتضي أنه إذا وجد الشرط، وجد المشروط بحرف "لو" التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط؛ فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء}، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء، ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب،
ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء؛ ما فعل الإيمان الواجب، من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه؛ ومثله قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمنا، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم؛ فالقرآن يصدق بعضه بعضا".
هذا؛ والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: