حكم الجلوس والخروج مع الأصدقاء
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإن الصداقة والصحبة من أخطر الأمور الجالبة للخير أو الشر؛ فالصاحب ساحب لأي منهما، والجليس يؤثر في جليسه، والطباع سراقة، وكل قرين بالمقارن يقتدي، المرء على دين خليله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فاحذر من الخروج مع من يزين فعل المحرمات، أو يهونوا من إثمها، أو من يجعلك معينًا له في الحرام، فقرين السوء مضر من جميع الوجوه على من صاحبه، وشر على من خالطهم، فكم هلك بسببهم أقوام، وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.
فلا يأمن أن يفسد عليه دينه وخلقك؛ بسبب فسوقه وعصيانه؛ وصدق الله العظيم {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]، وقد بين الإمام القرطبي في تفسيره أن الصحيح في معنى الآية أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة.
وقد شرَع الله لنا هجْر أصحاب المعاصي إن كان يترتَّب عليه مصلحة، لخوف الفتنة في الدين، والوُقوع فيما حرَّم الله عز وجل، وقد اتفق العلماءُ على هذا؛ قال ابن عبد البر في "التمهيد" (15/ 69 - 70): "أجْمَعُوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث، إلا لمن خاف مِن مكالمته ما يفسد عليه دينه، أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مَضَرَّة، فإن كان كذلك جاز، وَرُبَّ هَجْرٍ جميلٍ خيرٌ من مُخالَطة مُؤذية". اهـ.
والعجيب أن خلطة أصحاب المعاصي والتي تكون على نوع مودة في الدنيا، وقضاء وطر بعضهم من بعض تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة، ويعض المخلط عليها يديه ندمًا؛ كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27-29]، وقال سبحانه وتعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]؛ لأن خلتهم ومحبتهم في الدنيا لغير الله، فانقلبت يوم القيامة عداوة، {إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، للشرك والمعاصي، فإن محبتهم تدوم وتتصل، بدوام من كانت المحبة لأجله.
فالله تعالى قرن كل شكل إلى شكله، وجعل معه قرينًا وزوجًا: البر مع البر، والفاجر مع الفاجر؛ كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ*مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ* وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 22 - 24]، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم"، وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7].
وعلى الجانب الآخر خير الأصحاب! الذين تكون مدة جلوسك معه قرير النفس، حيث يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك، ويحثك على طاعة الله، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ويبصرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله؛ فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة، يقود بعضها بعضاً إلى الخير، أو إلى ضده.
وأقل ما يُستفاد من الجليس الصالح الكف عن السيئات والمعاصي، رعاية للصحبة، فيحفظك في حضرتك ومغيبك، وتنافسه في الخير، وتنفعك محبته ودعاؤه في حال حياتك وبعد مماتك، بل وفي الآخرة في شفاعة المؤمنين لإخوانهم.
ولهذا كان من أعظم نعم الله على العبد المؤمن، أن يوفقه لصحبة الأخيار، ومن عقوبته لعبده، أن يبتليه بصحبة الأشرار؛ فصحبة الأخيار توصل العبد إلى أعلى عليين، وصحبة الأشرار توصله إلى أسفل سافلين، كما هو ظاهر لمن تأمل الآيات السابقة، وسنة النبي القولية والفعلية، فنهى عن مجالسة من يتأذى بمجالسته، كالمغتاب والخائض فى الباطل، وندب إلى مجالسة من ينال في مجالسته الخير، من ذكر الله - تعالى - وتعلم العلم وأفعال البر كلها.
كما في الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة".
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (16/ 178):
"وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة"
قال الإمام ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" (1/ 453):
"الضابط النافع في أمر الخلطة أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم، والجهاد، والنصيحة ويعتزلهم في الشر، وفضول المباحات، فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لا بد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر، ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له وتعظيم، وثناء عليه منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين، وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له، ومقت، وذم منهم ومن المؤمنين، ومن رب العالمين.
فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة، وأحمد مآلا.
وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه، ويشجع نفسه ويقوي قلبه، ولا يلتفت إلى الوارد الشيطاني القاطع له عن ذلك، بأن هذا رياء ومحبة لإظهار علمك وحالك، ونحو ذلك، فليحاربه، وليستعن بالله، ويؤثر فيهم من الخير ما أمكنه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقًا على حديث الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا صيبكم ما أصابهم":
"فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب، وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي، لا ينبغي لأحد أن يقارنهم ولا يخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل، وأقل ذلك أن يكون منكرًا لظلمهم، ماقتًا لهم، شانئًا ما هم فيه بحسب الإمكان؛ كما في الحديث: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". اهـ.
إذا تقرر هذا، فيجوز الجلوس مع الأصدقاء والخروج معهم أحيانًا، إن كانوا من أهل الخير والصلاح، فإن كانوا غير صالحين فلا يجوز،، والله أعلم.
- المصدر: