هل علم الله أن العبد سينتحر من تكليف ما لا يطاق

منذ 2020-01-19
السؤال:

كيف الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ويوجد العديد من الاشخاص ينتحرون والله بعلمه يعلم ان هذا العبد لن يتحمل هذه المصائب وسوف ينتحر

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:

 فالتشريع الإسلاميَّ بُني على السماحة والتيسير والرفق بالمكلفين، فلا إعناتَ ولا إرهاقَ، ولا تضييقَ؛ كما قال – تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقال أيضًا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ } [الحج: 78]، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَااسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]،  وقال - عليه الصلاة والسلام -: " إذا أمرتُكم بأمرٍ فأْتوا منه ما استطعتُم "؛ متفقٌ عليه.

والعقول الكاملة والفطرة السليمة التي لم تتغير تدرك ذلك في كل ما شرعه الله في الصلاة ة والصيام وجميع الشرائع تراعي فيها قدرة المكلف؛ وقال سبحانه في حق الصائم: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وجعل سبحانه حفظ النفس من الضروريات الشرعية التي تقدم عند التعارض.

وتأمل كيف جعل الله تعالى مناط  التكليف هو ما يطيقه كل عبد في نفسه، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز والعلم والجهل، فحق التقوى وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء، فالله تعالى جعل الدين واسعًا يسع كل أحد، كما جعل رزقه يسع كل حي، وكلف العبد بما يسعه العبد، ورزق العبد ما يسع العبد، فهو يسع تكليفه ويسعه رزقه، وما جعل على عبده في الدين من ضيق بوجه ما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة"، أي: سمحة في العمل، فوسع الله سبحانه وتعالى على عباده غاية التوسعة في دينه ورزقه وعفوه ومغفرته، وبسط عليهم التوبة ما دامت الروح في الجسد، وفتح لهم بابًا لها لا يغلقه عنهم إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وجعل لكل سيئة كفارة تكفرها من توبة أو صدقة أو حسنة ماحية أو مصيبة مكفرة، وجعل بكل ما حرّم عليهم عوضًا من الحلال أنفع لهم منه وأطيب وألذ، فيقوم مقامه ليستغني العبد عن الحرام، ويسعه الحلال فلا يضيق عنه، وجعل لكل عسر يمتحنهم به يسرًا قبله ويسرًا بعده؛ فإذا كان هذا شأنه سبحانه مع عباده فكيف يكلفهم ما لا يسعهم؟! فضلاً عما لا يطيقونه ولا يقدرون عليه، وسابق علمه لا يجبر أحدًا على عمل؛ لأنه أعطى الإنسان حرية الاختيار، كما يراه كل أحد من نفسه؛ فالجبر باطل عقلا وفطرة وشرعًا.

غير أن المشكلة إنما تكمن في قلوب الخلق، وتباين أحوالهم مع الهداية التي هي بمثابة النور التام، فبعضهم عديم البصيرة جملة، ولم يرفع بهذا الدين رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي هدى به عباده ولو جاءته كل آية، فلا يرى من هذا الضوء إلا الظلمات والرعد والبرق، ولا يجاوز نظره ما وراء ذلك من الرحمة التامة، وأسباب الحياة الأبدية.

وبعض الناس أصحاب بصائر ضعيفة! دينهم دين العادة والمنشأ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

والفائزون هم أصحاب البصائر النافذة، الذين شهدت بصائرهم هذا النور المبين، فكانوا منه على بصيرة ويقين، ومشاهدة لحسنه وكماله، بحيث لو عرض على عقولهم ضده لرأوه كالليل البهيم الأسود.

ومن تأمل كتاب الله المقروء وهو القرآن الكريم، وكتاب الله المنظور وهو لكون، أدرك ذلك ولم يتحير في شيء؛ فكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع، وفطرة الإنسان تعرف ذلك وتحسه بكل خصائصها، تملك الاستجابة للقرآن، والشريعة الإسلامية كلها في أصولها وفروعها مركوز حسنها في العقول، ولو وقعت على غير ما هي عليه لخرجت عن الحكمة والمصلحة والرحمة، بل من المحال أن تأتي بخلاف ما أتت به؛ كما قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

أما من يقدم على الانتحار فليس هذا دليلاً على تكليف ما لا يطاق، ولكنَّه برهان ضروري على أن الله تعالى لم يجبر أحدًا، وإنما أعطى عباده الإرادة والمشيئة والقدرة على الاختيار، فأقدر عباده على الطاعات والمعاصي، والصلاح والفساد، وهذا الأقدار هو مناط الشرع والأمر والنهي، ولولاه لم يكن شرع ولا رسالة ولا ثواب ولا عقاب، وكان الناس بمنزلة الجمادات والأشجار، فلو حال سبحانه بين العباد وبين القدرة على المعاصي لارتفع الشرع والرسالة والتكليف، فالثواب والعقاب لا يحصل إلا بأقدار العباد على الخير والشر، وإعطاء الأسباب والآلات التي يتمكنون بها من فعل هذا وهذا؛ قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورً} [الإنسان: 3]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، فخلق الله له القوى الباطنة والظاهرة، كالسمع والبصر، وسائر الأعضاء، وأرسل الرسل؛ لإقامة الحجة، وهداه الطريق الموصلة إلى الله، ورغبه فيها، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله.

وأخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، ورهبه منها، وأخبره بما له إذا سلكها، وابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله، وإلى كفور لنعمة الله عليه،، والله أعلم

 

 

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 3
  • 1
  • 1,068

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً