حكم هدايا شركات الأدوية للأطباء
أعمل في مجال تسويق الأدوية لكن الأطباء لا يسوقون الأدوية إلا بالهدايا والمؤتمرات، وإن لم يفعلوا ذلك فسيخسر الدواء، وهذا هو الغالب الآن، فهل العمل في هذا المجالحرام؟
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فلا يتردد عالم في الحكم على أن الهدايا التي تقدم للأطباء من شركات الأدوية من الرشوة المحرمة، التي لا يجوز دفعها ولا أخذها ولا التوسط فيها، وأنها تدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش"؛ رواه أحمد.
والرائش هو الواسطة بين الراشي والمرتشي.
فلا غرض لشركات الأدوية من دفع الهدايا أو نحوها إلا المصلحة التجارية البحتة، وترويج منتجاتها دون أي اعتبار آخر، من مصلحة المرضى أو نفع الطبيب أو المجتمع، خصوصًا إن كانت الأدوية أو المستحضرات الطبية أقل جودة من مثيلاتها، أو تكون للأدوية آثار جانبية مضرة ولم يبين ذلك الطبيب من أجل ما أخذه من هدايا أو مال، أو كان هناك دواء أنفع للمرضى منها أو أقل سعرًا، إن كانت الأدوية والمستحضرات الطبية هي الأنفع والأفضل، أو الأرخص أو مشابهة لمثيلاتها، فلا حرج من وصفها للمرضى، ولا يعتبر كتابتها لهم خيانة ولا غشًا للمريض.
فلا يجوز حينئذ العمل في تلك الشركات؛ لأنه يتوسط بين الطبيب والشركة في دفع تلك الرشوة المقدم في صورة هدايا، مما يترتب عليه إفساد الطبيب، وتحوله من كونه رفيقًا بالمرضى إلى محض مسوق لشركات الأدوية، مقابل مال حرام، وهو باب شر على المجتمع؛ لأنه من المفترض أن يقدم الطبيب مصلحة مريضه الذي يدفع له أجرته على مصلحة شركات الأدوية، ولكن تلك الهدايا تعكس الأمر، ولا شك أن هذا نوع من خيانة الأمانة، ومخالفة الأعراف الصحيحة تلك المهنة النبيلة.
أما قول السائل إن هذا هو السائد والمعرف في مجال الادوية، فعلى فرض صحة هذا الكلام أو كان الأمر كما يقول فلا حرج حينئذ من العمل في هذا المجال وتقديم الهدايا للأطباء إن لم تكن هناك طريقة غيرها لترويج الدواء وتسويق المنتجات في الأسواق؛ لأن الشركات إن لم تفعل كسدت منتجاتها رغم جودتها، ومنافستها لغيرها، ولكن بشرط أن يكون الدواء فعالا ونافعا للمرضى وليس في استعماله محظور طبي.
والحاصل سلمك الله أن إعطاء الأطباء للهدايا جائز بشرط ألا يدفعهم المال للكذب ووصف أدوية أقل جودة، أو إخفاء عيوب الدواء، أو كتمان أنه يتوافر ما هو أفضل منه.
ولا يجب ترك العمل والحال كذلك، ولا يعد ما تدفعه رشوة محرمة في حقك، وإنما الإثم على من يأخذها بغير حق.
ودليل ذلك أن من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، ومن القواعد الفقهية المقررة شرعًا: أن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن المشقة تجلب التيسير، وما دام الحال بهذا السوء فيتسامح ويغتفر فيه ما لا يغتفر في الأحوال العادية، وأيضًا فإن: (الضرر يزال)، والحاجة إذا كان يلحق بفواتها حرج أو مشقه، فإنها تنزل منزلة الضرورة، فمثلا إذا فرض أن الإنسان لا يستطيع الحصول على أدوات كتابة أو أجهزة رقمية أو غير ذلك إلا ما هو مغصوب، ففي تلك الحال تنزل الحاجة منزلة الضرورة سواء كانت الحاجة خاصة أو عامة، وكذلك لحال في حق من يرغب في السكنى ولم يجد إلا دورًا مغصوبة، فيجوز له حينئذ الإقامة فيها، وقد نص على هذه القاعدة غير واحد من أهل العلم كالإمام السيوطي في الأشباه والنظائر، وكذلك ابن نجيم الحنفي في كتابه "الأشباه والنظائر"(ص: 78-79) حيث قال: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة،
ولهذا: جوزت الإجارة على خلاف القياس للحاجة وكذا قلنا لا تجوز إجارة بيت بمنافع بيت لاتحاد جنس المنفعة فلا حاجة، بخلاف ما إذا اختلف، ومنها: ضمان الدرك جوز على خلاف القياس.
ومن ذلك: جواز السلم على خلاف القياس؛ لكونه بيع المعدوم دفعا لحاجة المفاليس، ومنها جواز الاستصناع للحاجة، ودخول الحمام مع جهالة مكثه فيها وما يستعمله من مائها، وشربة السقاء، ومنها الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى".
ومن تأمل أحكام الشرع في أبواب المعاملات عمومًا تيقن أن الشريعة راعت حاجات ما يحتاجه العامة والخاصة،، والله أعلم.