مقاطعة الأم القاسية والتي تدعو بالشر دائما
طلبت مني أحدا قريباتي أن أسأل حضرتكم عن فتوى ، قريبتي فتاة في مقتبل العمر تبلغ 23 سنة ، عاشت معظم لحظات عمرها و أمها تأذيها و تشتمها و تدعو بها دعاء سيئ جدا كما أنها تفرق بينها و بين أخوتها كثيرا حتى ضنت أنها ليست منهم ، كما أن الفتاة طلبت كثيرا من أمها ان تحسن معاملتها و تتقي الله فيها و إلا سوف تشكوها إلي الله بعد ما رأت منها من ظلم و ضرب و إهانت إلا ان الأم ردت عليها قائلة إن الجنة تحد أقدام الأمهات و دعاء مستجاب و سوف أدعو عليك حتى تتدمر حياتك و كل هذا يكون بعد نقاشات على أشياء تافهة
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإنَّ الفتنةَ في الأهل مِن أعنف صور الابتلاء، والتغلب عليها يكون بالاستعانة بالله مع الصبر والتسليمُ المطلق، وتقوية الإيمان بالقضاء والقدر؛ فإن الإيمان بالقضاء والقدَر إنما يكون في كلِّ ما يصيب الإنسان من المصائب التي لا حيلة في دفعها، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصابته المصائب أن ينظر إلى القدر، ولا يتحسر على الماضي؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان"، فإن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالنظر إلى القدر عند المصائب، والاستغفار عند المعائب؛ كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما روى الطبري عن ابن عباس، وروى عند علقمة: قال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضَى.
والشريعة الإسلامية مليئة بالنصوص التي توجب على الابن الإحسان إلى والديه وبرهما وصحبتهما بالمعروف، حتى ولو كانا مشركين، بل وإن اجتهدا في دعوته للشرك؛ كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14، 15]، فأمر فقط بعدم طاعتهما؛ لأن حق الله مقدمٌ على حق كل أحد، وعلى الرغم من ذلك لم يرخص في عُقوقهما، أو قطيعتهما،، ولا الإساءة إليهما، وإنما قال سبحانه: {فَلا تُطِعْهُمَا}؛ أي: بالشرك، وأما برهما، فاستمر عليه، ولهذا قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}؛ أي: صحبةَ إحسانٍ إليهما بالمعروف، فالوالدان مهما فعلَا فلا يجوز مطلقًا مقاطعتهما.
والأم من أحق الناس بالبر والنصح، الشفقة والإحسانَ إليها، وبذل الوسع والطاقة للنجاة بها من عذاب الله – تعالى، وهذا يتطلب صبرًا، مع صدقُ الالتجاء إلى الله بالدعاء لها بالهداية، فلا قوة إلا قوته، ولا حول إلا حوله، ولا إرادة إلا إرادته، ولا ملجأ إلا إليه، فتحلي بالصبر، واصدقي في النصح، مع الرفق بها والإحسان إليها، وانتقاء الكلمات اللينة الحانية، والالتزام بقول الله - تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24]؛ أي: إذا وصلت إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواها، ويحتاج للطف بها، والإحسان إليها، {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، وهذا أدنى مراتب الأذى، نبه به – سبحانه - على ما سواه من معاني الأذى؛ من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، {وَلا تَنْهَرْهُمَا}؛ فلا تزجريها، وتكلميها كلامًا خشنًا، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، باستعمال الألفاظ التي تحباها، في تأدب، وتلطف بكلام لين حسن يلذ على قلوبها، وتطمئن به نفوسها، ولا يخفى عليك أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، والعوائد والأزمان، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، فتواضعي ذلًّا لها، ورحمة بها، واحتسابًا للأجر الجزيل من الشكور الجواد الكريم، {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا}، فادعي لها بحسن الخاتمة والرحمة، والتوفيق للتوبة، مع تجنب الألفاظ القاسية أو المحرجة، مع حسن اختيار الوقت المناسب للنصيحة.
أما دعاء والدتك عليكِ فمن الأخطاء الشرعية المنتشرة، والذي يقع فيه كثيرٌ من الأمهات إذا حصل من أولادهن ما يغضبهن، وقد نهى رسول الله عن ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنْ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً؛ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ))؛ رواه مسلم.
والحديث الشريف لا يدل أن كل دعاءٍ للوالدين يُجاب، وإنما فيه النهيُ عن الدعاء على الأبناء في الغضب؛ معللًا ذلك بأن الدعاء ربما يُستجاب، ولكن من رحمة الله - تعالى - أنه قال: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس:11]؛ قال مجاهد - كما علقه البخاري في صحيحه -: "قول الإنسان لولده وماله إذا غضب: اللهم لا تبارك فيه والعنه، {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}، لَأُهلِكَ مَن دُعِيَ عليه ولَأَماتَهُ".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "وصله الفِريابيُّ، وعبدُ بنُ حميد، وغيرهما، من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد في تفسير هذه الآية، ورواه الطبريُّ بلفظٍ مختصرٍ قال: "فلو يُعجِّل اللهُ لهم الاستجابة - في ذلك - كما يُستجاب في الخير، لأهلكهم، ومن طريق قتادة قال: هو دعاءُ الإنسان على نفسه وماله بما يكره أن يُستجاب له". اهـ.
وقال شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري: "يقول - تعالى ذكره -: ولو يعجل الله للناس إجابةَ دعائهم في الشرِّ، وذلك فيما عليهم مضرَّةٌ في نفسٍ، أو مال، استعجالَهم بالخير، يقول: كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به، {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}؛ يقول: لَهَلكوا، وعُجِّلَ لهم الموت، وهو الأجلُ، وعَنَى بقوله: {لَقُضِيَ}؛ لَفُرِغَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَجَلِهِمْ، ونُبِذَ إِلَيهِمْ". اهـ. من "تفسير الطبري" (15 / 33).
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: