تخصيص الجمعة بالعطلة الأسبوعية
التعطيل والاستراحة من الأعمال الدنيوية يوم الجمعة ، من باب الاستراحة أو التفرغ لعبادات الجمعة : هو أمر لا بأس به؛ ولم يرد ما ينهى عنه. ومثل ذلك : التعطيل للتفرغ لأعمال الجمعة، وما يندب فيها ، من تبكير للصلاة ، واشتغال بالدعاء والذكر من بعد العصر إلى المغرب، ونحو ذلك : فهو أمر حسن مشروع. وأما التعطيل بحجة تعظيم الجمعة ، أن يُشتغل فيها بكسب أو معاش ، كما يصنع اليهود مع يوم السبت؛ فهذا أمر مبتدع غير مشروع.
تصح العطلة في الإسلام؟ وقد قال لي أحد أصحابي استدلالا على الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وعن مفهوم الحديث (خالفوا اليهود والنصارى) : أن اليهود تكون العطلة لهم يوم السبت، والنصارى لهم يوم الأحد، أن العطلة في يوم الجمعة في الإسلام، فهل يصح ذلك؟ وإن لم يكن صحيحا فكيف أجيبه؟
الحمد لله.
أولا:
من المعلوم؛ أن التعطيل والاستراحة من الأعمال الدنيوية في زمننا هذا على نوعين:
النوع الأول: التعطيل المراد به مصلحة دنيوية بحتة؛ لقصد تنشيط العمال وإزالة الملل عنهم، وأيضا لكي يتفرغوا لأمورهم الشخصية، كما في العطل الأسبوعية والإجازات السنوية.
فالأصل في هذا النوع الإباحة؛ لأنه من العادات وليس العبادات؛ والعادات لا يحرم منها شيء إلا بدليل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم.
فباستقراء أصول الشريعة: نعلم أن العبادات التي أوجبها الله، أو أحبها: لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.
وأما العادات: فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يُحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى ...
والعادات: الأصل فيها العفو، فلا يُحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}. ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه ... وهذه قاعدة عظيمة نافعة " انتهى من " مجموع الفتاوى " (29 / 16 – 18).
وقال رحمه الله تعالى:
" لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين: في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه: فهو مطلق غير محجور، وقد نص على ذلك كثير ممن تكلم في أصول الفقه وفروعه، وأحسب بعضهم ذكر في ذلك الإجماع، يقينا، أو ظنا كاليقين " انتهى من "مجموع الفتاوى" (21 / 538).
النوع الثاني: التعطيل على وجه الاحتفال، وتعظيم يوم التعطيل؛ فهذا أمر يلحق بالعبادات؛ فلا يُعظَّم إلا ما عظمه الشرع.
والشرع لم يخص بالاحتفال إلا يومين؛ الأضحى والفطر، كما في حديث أَنَسٍ، قَالَ: " قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ»؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ» أبوداود (1134).
ثانيا:
التعطيل في بلاد المسلمين يوم الجمعة هو في الغالب من النوع الأول؛ أي القصد منه تنشيط العمال وتفريغهم لمهامهم الشخصية؛ وليس القصد منه تعبديا؛ وإنما ناسب الجمعة؛ لأن المسلمين يحتاجون فيه إلى الذهاب إلى الجمعة، والتبكير إليها، والاستعداد لها بالاغتسال.
قال الحطاب الرعيني المالكي رحمه الله تعالى:
" يكره ترك العمل يوم الجمعة؛ يريد: إذا تركه تعظيما لليوم كما يفعل أهل الكتاب.
وأما ترك العمل للاستراحة: فمباح. قال صاحب "الطراز": وتركه للاشتغال بأمر الجمعة، من دخول حمام، وتنظيف ثياب، وسعي إلى مسجد من بُعدِ منزل: فَحَسَنٌ، يثاب عليه. انتهى " انتهى من "مواهب الجليل" (2 / 460).
ثالثا:
استدلال صاحبك على الاستراحة من الأعمال يوم الجمعة بقول الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة/9] استدلال غير صحيح؛ لأن الآية مختصة بصلاة الجمعة، وليس بسائر يوم الجمعة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي: اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع، إذا نودي للصلاة: ولهذا اتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني " انتهى من "تفسير ابن كثير" (8 / 122).
ولأن الآية بعدها أباحت العمل وطلب الرزق بعد الانصراف من الصلاة؛ حيث قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة/10].
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} هذا أمر إباحة.
يقول: إذا فرغتم من الصلاة، فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم. {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي من رزقه " انتهى من "تفسير القرطبي" (20 / 476).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}أي: فُرِغ منها، {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} لَمّا حَجر عليهم في التصرف بعد النداء، وأمرهم بالاجتماع: أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض، والابتغاء من فضل الله " انتهى من "تفسير ابن كثير" (8 / 122).
وكذا استدلاله بمخالفة اليهود والنصارى؛ فهذا الاستدلال ليس بمستقيم؛ لأن من عظّم الجمعة بترك العمل، بحجة مخالفة اليهود؛ فقد وافقهم وتشبه بهم في تعظيم يوم من الأسبوع بترك العمل فيه.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
قال مالك: كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون أن يُترك يوم الجمعة العمل؛ لئلا يصنعوا فيه كما فعلت اليهود والنصارى في السبت والأحد.
قال محمد بن رشد: وهذا لما روي: أن رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بمخالفة أهل الكتاب، وينهى عن التشبه بهم..." انتهى من "البيان والتحصيل" (1 / 244).
ثم إن ترك اليهود للعمل يوم السبت كان معلوما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلو كانت مخالفتهم تتحقق بترك العمل يوم الجمعة، لأرشدنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن هذا لم يرد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وكل ما لم يشرع من العبادات، مع قيام المقتضي لفعله، من غير مانع: فإنه من باب المنهي عنه " انتهى من" اقتضاء الصراط المستقيم " (2 / 721) .
فالحاصل؛ أن التعطيل والاستراحة من الأعمال الدنيوية يوم الجمعة، من باب الاستراحة أو التفرغ لعبادات الجمعة: هو أمر لا بأس به؛ ولم يرد ما ينهى عنه.
ومثل ذلك: التعطيل للتفرغ لأعمال الجمعة، وما يندب فيها، من تبكير للصلاة، واشتغال بالدعاء والذكر من بعد العصر إلى المغرب، ونحو ذلك: فهو أمر حسن مشروع.
وأما التعطيل بحجة تعظيم الجمعة، أن يُشتغل فيها بكسب أو معاش، كما يصنع اليهود مع يوم السبت؛ فهذا أمر مبتدع غير مشروع.
والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: