كيف أوفق بين نهي النبي عن نشر أخبار الجماع وإخباره عن فعله!
استوقفنى حديث للرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيه( إنَّ مِن أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إلى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا.) كيف اوفق بينه وبين حديث لعائشة وهو عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جنب ، وكان يأمرني فأتّـزر فيباشرني وأنا حائض ، وكان يخرج رأسه إليّ وهو مُعتكف فأغسله وأنا حائض . وهل يعتبر هذا نشرا للسر ام لا
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإن الناظر في الشريعة الإسلامية وفي سيرة رسوالله صلى الله عليه وسلم، يجد العنصر الأخلاقي بارزًا أصيلاً فيها، فالدعوة الكبرى في هذه الشريعة الخاتمة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد، ومطابقة القول للفعل، ومطابقتهما معًا للنية والضمير، والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الحرمات والأعراض، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور، وما ذاك إلا لحماية وصيانة الجانب الأخلاقي في الشعور والسلوك، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع، وفي العلاقات الفردية والجماعية على السواء.
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يلخص رسالته في هذا الهدف النبيل؛ حيث يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وتتواتر وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم، وسيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه، ومثالاً حيًا وصفحة نقية، وصورة رفيعة في مكارم الأخلاق وكرم الشمائل، وتستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وسيرته وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته التي إذا تأملها المتأمل المنصف ورأى جميل أثره، وحميد سيره، وبراعة علمه، ورجاحة عقله، وحلمه، وجملة كماله، وجميع خصاله، وشاهد حاله، وصواب مقاله، لم يمتر في صحة نبوته.
فكان من أكمل الناس تربية ونشأة، ولم يزل معروفًا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهودًا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، وممن آمن به، وممن كفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به؛ لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة، وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وقد نقل الناس صفاته الظاهرة الدالة على كماله، ونقلوا أخلاقه من حلمه وشجاعته وكرمه وزهده، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقًا وخَلقًا، ولم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا سخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أو يغفر.
إذا تقرر هذا، فالحديث المشكل على السائل يتجلى فيه حرص الشارع الحكيم على مكارم الأخلاق ومعاليها؛ فحرم على الرجل إفشاء ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، بل جعل حفظ المقال من خصال الإيمان؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"؛ متفق عليه.
ولكن يستثنى من تلك القاعدة العامة ما دعت إليه الحاجة الراجحة أو المصلحة، بل يكون ذكره واجب في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من جملة ما أمر بتبليغه، وكذلك إن كان يترتب على ذكره فائدة الذب من النفس والعرض؛ مثل أن تدعي الزوجة على زوجها الضعف أو العجز عن الجماع أو إعراضه عنها أو نحو ذلك:- فلا كراهة في ذكره.
فصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأفعله أنا وهذه ثم نغتسل"، لما سُئل عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل، والمصلحة هاهنا هو معرفة الحكم مشفوعًا بالاقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم، وهو أقوى في الدلالة؛ كما قال جابر بن عبد الله واصفًا اقتداء الصحابة برسول الله: "... وإنما ينظرون فيما فعلت"؛ رواه مسلم، وهو معنى قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] فتأمل!
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "أعرستم الليلة"، ليدعو له بالذرية والخلف عن ابنه الذي توفي، وقوله لجابر بعدما تزوج: "الكيس الكيس"، أي: التزام الأدب، واقصد الولد الصالح، ولا يكن الهم مجرد اللذة وقضاء الشهوة.
وقول عبد الرحمن بن الزبير القرظي: (إني لأنفضها نفض الأديم)، لما قالت زوجته مدعية عجزه عن الجماع: (ليس بأغنى عني من هذه، وأخذت هدبة من ثوبها".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى يذوق من عسيلتك"، وهي كناية عن الجماع، فشبه لذته بلذة العسل وحلاوته.
جاء في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (4/ 162): "ومقصود هذا الحديث هو: أن الرجل له مع أهله خلوة، وحالة يقبح ذكرها، والتحدث بها، وتحمل الغيرة على سترها، ويلزم من كشفها عار عند أهل المروءة والحياء، فإن تكلم بشيء من ذلك، وأبداه، كان قد كشف عورة نفسه وزوجته؛ إذ لا فرق بين كشفها للعيان، وكشفها للأسماع والآذان؛ إذ كل واحد منهما يحصل به الاطلاع على العورة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا تعمد المرأة فتصف المرأة لزوجها، حتى كأنه ينظر إليها".
فإن دعت حاجة إلى ذكر شيء من ذلك، فليذكره مبهما، غير معين، بحسب الحاجة والضرورة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فعلته أنا وهذه)، وكقوله: "هل أعرستم الليلة؟"، وكقوله: "كيف وجدت أهلك؟ "، والتصريح بذلك وتفصيله ليس من مكارم الأخلاق، ولا من خصال أهل الدين". اهـ.
أما إخبار عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين عن صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلأنه من جملة التشريع الذي يجب نقله وروايته ولا يجوز لهن كتمه، حيث دلّ حديثهن على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد جميعًا، ورؤية كلا الزوجين لبعضهما وهما على تلك الحال بغير كراهة؛ قالت أم سلمة: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من الجنابة» متفق عليه، وعن عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة» متفق عليه، وفي لفظ للبخاري: "من إناء واحد نغترف منه جميعا"، ولمسلم: "من إناء بيني وبينه واحد فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي".
أما حديث عائشة قالت: "كانت إحدانا إذا كانت حائضًا فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباشرها، أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضتها ثم يباشرها"؛ متفق عليه.
فهو أيضًا مما دعت المصلحة العظيمة في تبليغه ونقله؛ ليكون دليلاً ظاهرًا على جواز الاستمتاع بالزوجة الحائض بما عدا الفرج، وبما فوق الإزار، خلافًا لما كانت عليه الأمم السابقة؛ ففي الصحيح عن أنس بن مالك: (أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله - عز وجل - {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، وفي لفظ "إلا الجماع".
إذا تقرر هذا؛ ظهر لك وجه السنة المشرفة واتساقها وعظمة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم،، والله أعلم.
- المصدر: