أعاني مِن قلق دائم وشعور بالذنب
أعاني مِن قلق دائم، وشعور بالذنب، وأقوم بأفعال أشعر بأني لا أستطيع السيطرة عليها.
بدأت مشكلتي من سنتين، وسببُها الخوف مِن أن أرتكب ذنبًا يُغضب الله؛
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإن علاج القلق الدائم والشعور بالذنب ينحصر في حسن الظن بالله تعالى الرؤوف الكريم البر الرحيم، فلو سعَيتِ سعيًا صادقًا في تقوية حسْنِ ظنِّك بالله تعالى لما التفتِّ إلى خطرات الشيطان ووساوسه؛ لأنه يَدخُل عليك من باب شعورُكِ الدائم بالذنب؛ ليتمكَّن مِن إيقاعك في اليأس من روح الله، فيسهل عليه إيقاعك في حباله مرةً بعد مرة، ومن عرَف ربه حق المعرفة لا يُصاب بتلك العقدة مطلقًا، كيف وهو يعلم أنَّ التائب من الذنب كمَن لا ذنب له، وأن الله تعالى هو الغفور الرحيم، وأنه سبحانه يحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين؛ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
إن عبادة التوبة من أجلِّ العبادات، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم))؛ رواه مسلم، وقال: ((ليس أحدٌ أحبَّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل))؛ متفق عليه، وأن الله تعالى وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأنه أفرح بتوبة عبده مِن واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأَرض المهلكة بعد فَقدها واليأْس منها.
ومن قرأ القرآن الكريم بتدبر أدرك أن سماحة الدين لا تطرد من يهوون إلى أبشع الذنوب وأكبرها، بل إن من رحمة الله سبحانه أنه لا يجعلهم في ذيل قافلة المؤمنين، إنما هم في مرتبة المتقين شريطة أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء، وينيبوا ويستسلموا لله بالطاعة والعبادة؛ قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[آل عمران: 133 - 136].
إن المنهج الإسلامي الفريد يدرك ضعف الإنسان، مما يدفعه إلى الغلو في نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته، ومن ثم فلا يطرد من رحمة الله حين يظلم نفسه، وحين يرتكب الفاحشة ما دام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته، فلا يغلق في وجهه باب التوبة، ولا يلقيه منبوذاً حائراً في التيه! ولا يدعه مطروداً خائفاً من المآب، وإنما إنه يطمعه في المغفرة، ويدله على الطريق، ويأخذ بيده المرتعشة، ويسند خطوته المتعثرة، وينير له الطريق، ليفيء إلى الحمى الآمن، ويثوب إلى الكنف الأمين، ما دام يذكر الله ولا ينساه، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة! كما قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]، وقال رسول- صلى الله عليه وسلم- "ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة".
والإسلام لا يدعو بهذا إلى الترخص والوقوع في المعصية، إنما هو يقيل عثرة الضعف، ويعظم في النفس الإنسانية الرجاء والحياء من الله، واليقين في مغفرة الذوب وإن عظمت وجسمت.
والحاصل أن مُشكلة الشعور بالذنب ولوم النفس دائمًا، تُحلُّ نهائيًّا بهذه الطريق في التفكير الصادق المبني على معرفة العبد ربه، وتنمية المهارات الإيجابية والعلاقات المثمرة والجادة مع النفس والآخرين، والتفاعُل مع الآخرين، فلهذا أحسن الأثر على القلب والنفس، أعني: معرفة الله تعالى بوحدانيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله.
ثم يأتي بعد ذلك شكر الرب المُنعِم بالقول والعمل، والتزام جميع ما شرعه الله من عبادات، والتي هي شفاء للصدور والقلوب، فالقرآن شفاء؛ حيث يبعث في النفس السكينة فتَزول الأوهام والأمراض، والصلاة شفاء، وذكر الله والاقبال عليه والإنابة إليه شفاء، فالإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله، وذكر محامده، وآلائه، وعبادته - يجد مِن اللذَّة ما لا يجده في شيءٍ آخر.
فكم شفى الله بالفزع إلى الصلاة من عليل! وكم قد عُوفي به من مريض! وكم قام مقام كثير من الأدوية التي لا تبلغ قريبًا مِن مبلغه في الشفاء! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
فالصلاة صِلة مُباشِرة بين العبد وربه، وتبعث في النفس الهدوء والطمأنينة، وتُخلِّصه من الشعور بالذنب، وتقضي على الخوف والقلق الذي لديه، لتضمُّنِها تعظيم الله تعالى بجميع الجوارح مِن نُطقِ اللسان، وعمل اليدَين والرجلين والرأس وحواسه، وسائر أجزاء البدن، والحواس الباطنة، وقيام القلب بواجب عبوديته فيها؛ فهي مشتملة على الثناء والحمد، والتمجيد والتسبيح، والتكبير وشهادة الحق، والقيام بين يدي الرب مقام العبد الذليل الخاضع للمدبِّر المربوب، ثم التذلُّل له في هذا المقام، والتضرُّع والتقرب إليه بكلامه، ثم انحناء الظهر ذلًّا له وخشوعًا واستكانة، ثم استواؤه قائمًا ليستعدَّ لخُضوع أكمل له وهو السجود، فيضع وجهه على الأرض خشوعًا واستكانة وخضوعًا لربه ولعظمتِه، وذلًّا لعزته، وقد انكسر له قلبه، وذلَّ له جسمُه، وخشعت له جوارحه، يتضرع له ويتذلل بين يديه ويَسأله من فضله، فلا يزال هذا دأبه حتى يقضي الصلاة، فمن عرف هذا فَهِمَ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها))، وقوله: ((جعلت قرة عيني في الصلاة))، فيحنُّ إليها، ويتلهَّف عليها.
فالإقبِال على الله تعالى بالضراعة والدعاء والإلحاح؛ فيه شفاء تام للنفس من الهمِّ، والغم، والحزن والكرب، وهو سلاح المؤمن، وكذلك الأكثار من الأدعية الجامعة؛ مثل:
((اللهمَّ إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، والعجز والكسل، والبُخل والجُبن، وضلَعِ الدَّين، وغلبة الرجال))، ((اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنتَ وليُّها ومولاها))، ((اللهمَّ إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودُنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي، وآمِنْ رَوعتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك أن أُغتال من تحتي))،، والله أعلم.