الجهل بصفات الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. عندما كنت أصغر في العمر كنت أشبه صفات الخالق بالبشر وذلك لجهلي بحرمة ذلك. كما أني كنت أجهل أن الله لا يشبهه شيء وأن الله يعلم كل شيء بطريقته هو وأجهل أن الله ليس في حاجة إلى مخلوقاته والكثير من الصفات الأخرى لا أعلم معناهاكنت أظن أني على حق ولكن عندما شككت في الأمر ذات مرة لم أسأل أفراد عائلتي لأني كنت أعتقد أنهم لن يفهموني ولن يستطيعوا شرح الأمر لي. فمرة سألتهم عن شيء ولكن قالوا لي أن أقبل الأمر هكذا مسلماولم يشرحوا لي لماذا. فكنت أفسر الأمور كما أعرف. فهل كفرت؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فقد أختلف أهل العلم في تكفير جاهل الصفة، والذي يظهر من الأدلة أن جاهل الصفة لا يكفر، ولا يخرج به عن اسم الإيمان بخلاف من جحدها.
وإن كان الواجب على المسلم أن يؤمن بما اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها: فيؤمن بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله:
من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، فإن أخطأ أو غلط فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، وتزال الشبهة؛ فمن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك.
أما الحكم بكفر المعين فإن الثابت عن السلف الصالح، أنهم يطلقون القول بتكفير من قال كذا، ولكن لا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة، مثل قولهم من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولكن عند التعين لا بد من إقامة الحجة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (23/ 348-349): "ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين... وإنما كان يكفر -أي: الإمام أحمد - الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة: ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة. لكن ما كان يكفر أعيانهم فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك. ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم.
ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا، وقلدوا من قال لهم ذلك.
وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد - حين قال: القرآن مخلوق -: كفرت بالله العظيم؛ بين له أن هذا القول كفرٌ، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم.
وكذلك قال مالك رحمه الله والشافعي وأحمد في القدري: إن جحد علم الله كفر، ولفظ بعضهم: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقرُّوا به خُصِموا، وإن جحدوه كفروا.
ومما استدل به الأئمة على عدم كفر جاهل الصفة ما رواه مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم" وفي رواية أحمد، قالت: "مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: نعم"، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " قال رجل لم يعمل حسنة قط، لأهله: إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر؛ فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب، وأنت أعلم، فغفر الله له".
وفي لفظ عند أحمد كان رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد، فلما احتضر قال لأهله: انظروا إذا أنا مت أن يحرقوه، حتى يدعوه حممًا، ثم اطحنوه، ثم اذروه في يوم راح، فلما مات فعلوا ذلك به، فإذا هو في قبضة الله، فقال الله عز وجل: يا ابن آدم، ما حملك على ما فعلت؟ قال: أي رب من مخافتك، قال: فغفر له بها، ولم يعمل خيرا قط إلا التوحيد".
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (11/ 409-413): "... فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله، وإيمانه بأمره، وخشيته منه، جاهلاً بذلك، ضالاً في هذا الظن مخطئًا، فغفر الله له ذلك.
والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكًا في المعاد، وذلك كفر - إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره - هو بيّن في عدم إيمانه بالله تعالى.
ومن تأول قوله: "لئن قدر الله علي"، بمعنى: قضى، أو بمعنى: ضيق= فقد أبعد النُجعة، وحرف الكلم عن مواضعه؛ فإنه إنما أمر بتحريقه، وتفريقه لئلا يجمع ويعاد.
فغاية ما في هذا أنه كان رجلا لم يكن عالمًا بجميع ما يستحقه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك، فلا يكون كافرا.
ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه؛ كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة،، وذكر الحديث السابق لها ثم قال: "فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس، كافرةً.
وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء.
فقد تبين: أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به، حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشايخها لا يحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: