بين الكذب والتعريض
السلام عليكم و رحمة الله ، إذا قلت لصديقي أنني لن أفعل شيئا و أنا أنوي فعله فهذا يعتبر كذب أعلم هذا ، لكن هل بعد ذلك إذا لم أفعله حقا أعتبر لم أكذب مع أنني قلت عكس ما كنت أنوي او بمجرد تلفظي بعكس ما كنت اريد اعتبر كاذب ؟و إذا كان العكس ، هل أنا مجبر اي واجب علي عدم فعله و الوفاء لكي أصبح صادق و لا أقع في ذنب الكذب ! مع العلم أن هذا قد لا يكون في صالحي و قد يفسد لي بعض أعمالي فساد معتبر فأنا كذبت عليه فقط لأرى ردة فعله لكنني أريد العكس ، فأنا أعلم أنه حتى اليمين و يجوز تكفيرها فهذه أولى منها.
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فمما لا شك فيه أن من أخبر أنه لن يفعل شيئا وهو ينوي فعله لا يكون كاذبًا إذا قصد معنًى آخر غير الذي فهمه المستمع، كأن تقصد: لن تفعل الآن، أو لن تفعل شيئًا يعلمه، أو غير هذا، وهو ما يسمى عند أهل العلم بالمعاريض، حيث يتكلم المرء بكلام يقصد به معنى، ويوهم السامع معنًى آخر.
ولكن لو قصد الفعل المعين الذي يقصده صديقه وتلفظ به بغير تعريض، يعني لم يقصد معنى آخر= فإنه يكون كاذبًا، إلا لو صدق في كلامه ولم يفعل فحين إذن لا يكون كاذبًا؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عن أبي هريرة، قال: "من هم بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها، كتبت له عشرًا إلى سبع مائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم تكتب، وإن عملها كتبت".
أما إن كان في قول الصدق ضرر عليك: في نفسٍ أو مالٍ أو عرضٍ، أو نحو هذا= فيجوز حينئذٍ الانتقال من قول الصدق الى التعريض؛ ففي المعاريض مندوحة عن الكذب، وسيأتي معناه في النقول الآتية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "تباح عند الحاجة الشرعية المعاريضُ، وقد تسمى كذبًا؛ لأن الكلام يَعْنِي به المتكلم معنىً، وذلك المعنى يريد أن يُفْهِمَهُ المخاطَبَ، فإذا لم يكن على ما يعنيه، فهو الكذب المحض، وإن كان على ما يعنيه، ولكن ليس على ما يَفْهَمُهُ المخاطَبُ، فهذه المعاريض، وهي كذب باعتبار الإفهام، وإن لم تكن كذبًا باعتبار الغاية السائغة؛ ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم –: "لم يكذبْ إبراهيم إلا ثلاثَ كذبات، كلهن في ذات الله: قوله لسارة: أختي، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم"، وهذه الثلاثة معاريض؛ وبها احتج العلماء على جواز التعريض للمظلوم، وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ، وإن لم يَفْهَمْهُ المخاطبُ". اهـ.
قال الإِمام النَّوَوي - في "الأذْكَار" (1 / 482) -: "واعلم أن التوريةَ والتعريضَ معناهما: أن تُطلقَ لفظًا هو ظاهرٌ في معنىً، وتريدُ به معنىً آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلافُ ظاهره، وهذا ضربٌ من التغرير والخداع، قال العلماء: فإن دعتْ إلى ذلك مصلحةٌ شرعيةٌ راجحةٌ على خداعِ المخاطب، أو حاجة لا مندوحةَ عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيءٌ من ذلك، فهو مكروهٌ وليس بحرام، إلا أن يُتوصَّل به إلى أخذ باطل، أو دفع حقٍّ، فيصيرُ - حينئذ - حرامًا، هذا ضابطُ الباب". اهـ.
جاء في "إعلام الموقعين عن رب العالمين"(5/ 176- 183): "وإنما تجوز المعاريض إذا كان فيه تخلص من ظالم، كما عرّضَ الخليل بقوله: "هذه أختي"، فإذا تضمنت نصر حق، أو إبطال باطل؛ كما عرض الخليل بقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}[الأنبياء: 63]، وكما عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "نحن من ماء"، وكما كان يوْري عن الغزوة بغيرها؛ لمصلحة الإسلام والمسلمين، إذا لم تتضمن مفسدة في دين ولا دنيا، كما عرّض - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إنا حاملوك على ولد الناقة"، وبقوله: "إن الجنة لا تدخلها العجز"، وبقوله: "من يشتري مني هذا العبد"، يريد عبد الله، وبقوله لتلك المرأة: "زوجك الذي في عينيه بياض"، وإنما أراد به البياض الذي خلقه الله في عيون بني آدم.
وقال شيخنا - رضي الله عنه -: والمعاريض، وهي: أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحًا، ويوهم غيره أنه يقصد به معنى آخر؛ فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركًا بين حقيقتين لغويتين، أو عرفيتين، أو شرعيتين، أو لغوية مع إحداهما، أو عرفية مع إحداهما، أو شرعية مع إحداهما، فيعني أحد معنييه، ويوهم السامع له أنه إنما عنى الآخر: إما لكونه لم يعرف إلا ذلك، وإما لكون دلالة الحال تقتضيه، وإما لقرينة حالية، أو مقالية يضمها إلى اللفظ، أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرًا في معنى، فيعني به معنى يحتمله باطنًا= بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته، أو ينوي بالعام الخاص، أو بالمطلق المقيد، أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته؛ لعرف خاص به، أو غفلة منه، أو جهل، أو غير ذلك من الأسباب، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته؛ فهذا كله إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق فهو جائز، كقول الخليل: "هذه أختي"، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نحن من ماء"، وقول الصديق - رضي الله عنه -: "هادٍ يهديني السبيل".
وقد يكون واجبًا إذا تضمن دَفْعَ ضررٍ يجب دفعه، ولا يندفع إلا بذلك... فلو تضمن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة، أو إقرار، أو علم، أو نصيحة مسلم، أو التعريف بصفةِ معقودٍ عليه في بيع، أو نكاح، أو إجارة؛ فإنه غشٌّ محرم بالنص.
قال مثنى الأنباري: قلت لأحمد بن حنبل: كيف الحديث الذي جاء في المعاريض؟ فقال: المعاريض لا تكون في الشراء والبيع، تكون في الرجل يُصْلِح بين الناس أو نحو هذا.
قال شيخنا رضي اللَّه عنه: والضابط أن كُلَّ ما وجب بيانه فالتعريضُ فيه حرامٌ؛ لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق، والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على الإنسان والعقود بأسرها، ووصف المعقود عليه، والفُتيا، والحديث والقضاء، إلى غير ذلك، وكل ما حَرُم بيانه فالتعريضُ فيه جائزٌ، بل واجب إن اضطر إلى الخطاب، وأمكن التعريض فيه، كالتعريض لمسائل عن مال معصوم، أو نفسه يريد أن يعتدي عليه، وإن كان بيانه جائزًا، أو كتمانه جائزًا؛ فإما أن تكون المصلحة في كتمانه أو في إظهاره أو كلاهما متضمن للمصلحة؛ فإن كان الأول فالتعريضُ مستحب كتورية الغازي عن الوجه الذي يريده، وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصدُّه عن طاعة، أو مصلحة راجحة؛ كتورية أحمد عن المروزي، وتورية الحالف لظالم له، أو لمن استحلفه يمينًا لا تجب عليه ونحو ذلك. وإن كان الثاني فالتورية فيه مكروهة، والإظهار مستحب، وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبًا. وإن تساوى الأمران وكان كل منهما طريقًا إلى المقصود لكون ذلك المخاطب التعريضُ والتصريحُ بالنسبة إليه سواء جاز الأمران، كما لو كان يَعْرف بعدة ألسن وخطابه بكل لسان منها يحصل مقصوده، ومثل هذا ما لو كان له غرضٌ مباح في التعريض ولا حَذَرَ عليه في التصريح، والمخاطب لا يفهم مقصوده، وفي هذا ثلاثة أقوال للفقهاء وهي في مذهب الإمام أحمد: أحدها: له التعريض؛ إذ لا يتضمن كتمان الحق ولا إضرارًا بغير مستحق.
والثاني: ليس له ذلك، فإنه إيهامٌ للمخاطب من غير حاجة إليه، وذلك تغريرٌ، وربما أوقع السامع في الخبر الكاذب، وقد يترتب عليه ضرر به.
والثالث: له التعريض في غير اليمين..
وقال الفضل بن زياد: سألت أحمد عن الرجل يُعرِّض في كلامه، يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به؟ قال: إذا لم يكن يمينًا فلا بأس في المعاريض مندوحةٌ عن الكذب، وهذا عند الحاجة إلى الجواب، فأما الابتداء فالمنع فيه ظاهر؛ كما دل عليه حديث أم كلثوم أنه لم يُرخِّص فيما يقول الناس: إنه كذب إلا في ثلاث - الرجل يُصْلِحُ بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب في الحرب - وكلها مما يحتاج إليه المتكلم، وبكل حال فغاية هذا القسم تجهيل السامع بأن يوقعه المتكلم في اعتقاد ما لم يُرِده بكلامه، وهذا التجهيل قد تكون مصلحته أرجح من مفسدته، وقد تكون مفسدتُه أرجح من مصلحته، وقد يتعارض الأمران، ولا ريب أن مَنْ كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه اللَّه ورسوله كان تجهيله به، وكتمانه عنه أصلح له وللمتكلم، وكذلك ما كان في علمه مضرة على القائل، أو تفوت عليه مصلحة هي أرجح من مصلحة البيان= فله أن يكتمه عن السامع؛ فإن أبى إلا استنطاقه فله أن يعرض له". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: