الفوائد (5)- عين اليقين

عين اليقين نوعان: نوع في الدنيا، ونوع في الآخرة، فالحاصل في الدنيا نسبته إلى القلب كنسبة الشاهد إلى العين. وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار، وفي الدنيا بالبصائر، فهو عين يقين في المرتبتين.

الفوائد (4)- {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} (2)

ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد، واعي القلب، كامل الحياة، فيحتاج إلى شاهد يميّز له بين الحق والباطل، ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي، فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام، وقلبه لتأمّله، والتفكر فيه، وتعقل معانيه، فيعلم حينئذ أنه الحق. فالأول: حال من رأى بعينيه ما دعي إليه وأخبر به، والثاني: حال من علم صدق المخبر وتيقّنه، وقال يكفيني خبره، فهو في مقام الإيمان، والأوّل في مقام الإحسان. وهذا قد وصل إلى علم اليقين، وترقى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين، وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (54)- نشأة المستشرق (2)

كيف يجوز في عقل عاقل أن تكون بعض سنوات قلائل كافية لطالب غريب عن اللغة، وهذه حاله، أن يصبح محيطًا بأسرار اللغة وأساليبها الظاهر والباطنة، وبعجائب تصاريفها التي تجمعت وتداخلت على مر القرون البعيدة في آدابها، وأن يصبح بين عشية وضحاها مؤهلًا للنزول في ميدان المنهج وما قبل المنهج، كيف؟ من أن هذا الشرط صعب عسير على الكثرة الكاثرة من أبناء هذه للغة أنفسهم! كيف يجوز لعقل عاقل؟ هذا، مع أنه أيضًا تعلمها تلقيًا من أعجمي مثله، ولم يخالط أهلها مخالطة طويلة متمادية تتيح له التلقي عنهم تلقيًا يبصره ببعض هذه الأسرار! غاية ما يمكن أن يحوزه المستشرق في 20 أو 30 سنة، وهو مقيم بين أهل لسانه، أن يكون عارفًا معرفة ما بهذه اللغة، وأحسن أحواله عندئذ أن يكون في منزلة طالب عربي في الـ14 من عمره! أي هو في طبقة العوام الذين لا يعتد بأقوالهم أحد في ميدان المنهج و ما قبل المنهج. هذا على أن اللغة نفسها هي وعاء الثقافة، فهما متداخلان، فمحال أن يكون محيطًا بأسرارها، دون أن يكون محيطًا بثقافتها إحاطة تؤهله للتمكن من اللغة، فمن أين يكون المستشرق مؤهلًا لنزول هذا الميدان؟! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (53)- نشأة المستشرق! (1)

والمستشرق فتى أعجمي، ناشئ في لسان أمته وتعليم بلاده، مغروس في آدابها وثقافتها، حتى استوى رجلًا في العشرين من عمره أو 25، فهو قادر أو مفترض أنه قادر تمام القدرة على التفكير والنظر، ومؤهل أو مفترض أيضًا أنه مؤهل أن ينزل في ثقافته ميدان المنهج وما قبل المنهج بقدم ثابتة. نعم، هذا ممكن أن يكون كذلك؛ ولكن هذا الفتى يتحول فجأة عن سلوك هذه الطريق ليبدأ في تعليم لغة أخرى، (هي العربية هنا)، مفارقة كل المفارقة للسان الذي نشأ فيه صغيرًا، ولثقافته التى ارتضع لبانها يافعًا، يدخل قسم اللغات الشرقية في جامعة من جامعات الأعاجم، فيبتديء تعلم ألف باء تاء، ويتلقى العربية نحوها وصرفها وبلاغتها وشعرها وسائر آدابها وتواريخها عن أعجمي مثه! وبلسان غير عربي، ثم يستمع إلى محاضر في آداب العرب أو أشعارها أو تاريخها أو دينها أو سياستها بلسان غير عربي، ويقضي في ذلك بعض سنوات قلائل، ثم يخرج لنا مستشرقًا يفتي في اللسان العربي، والتاريخ العربي، والدين العربي! عجب وفوق العجب!!

الفوائد (3)- {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} (1)

إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه، فما وجه دخول أداة (أو) في قوله {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} والموضع موضع واو الجمع لا موضع (أو) التي هي لأحد الشيئين. خرج الكلام بـ (أو) باعتبار حال المخاطب المدعو فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه، تام الفطرة، فإذا فكّر بقلبه، وجال بفكره، دلّه قلبه وعقله على صحة القرآن، وأنه الحق، وشهد قلبه بما أخبر به القرآن، فكان ورود القرآن على قلبه نورًا على نور الفطرة، وهذا وصف الذين قيل فيهم {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور من الآية:35]، فهذا نور الفطرة على نور الوحي، وهذا حال صاحب القلب الحيّ الواعي، فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن، فيجدها كأنها قد كتبت فيه، فهو يقرأها عن ظهر قلب. 

الفوائد (1)- الانتفاع بالقرآن

إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، والق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه إليه، فإنّه خطاب منه لك، على لسان رسوله. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (52)- والاستشراق لا يذم!

والاستشراق لا يذم لأنه فعل كل ذلك، لأنه بلا شك قد أدى ما عليه لبني جلدته أحسن أداء وأتمه، ونصر أهل دينه وأخلص لهم كل الإخلاص، وكافح في سبيل هدفه بكل سلاح أجاد صقله وتقويمه، أما الذي هو حقيق بالذم والمعابة، فالعاقل الذي يظن نفسه عاقلًا، والبصير الذي يظن نفسه بصيرًا، ثم لا يكاد عقله يدرك شيئًا هو أبين بيانًا من البدائه المسلمة، ولا يكاد بصره يرى ما هو أظهر ظهورًا من الشمس الساطعة!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (51)- حماية عقل الأوربي المثقف

وبين لك الآن بلا خفاء أن كتب الاستشراق ومقالاته ودراساته كلها، مكتوبة أصلًا للمثقف الأوربي وحده لا لغيره، وأنها كتبت له لهدف معين، في زمان معين، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوربي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التى يستقبلها زحف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب. وأن تكون له نظرة ثابتة هو مقتنع كل الاقتناع بصحتها، ينظر بها إلى صورة واضحة المعالم لهذا العالم العربي الإسلامي وثقافته وحضارته وأهله، وأن يكون قادرًا على خوض ما يخوض فيه، وفي عقله وفي قلبه وفي لسانه وفي يقينه وعلى مد يده، معلومات وافرة يثق بها ويطمئن إليها ويجادل عليها، دون أن تضعف له حمية، أو تلين له قناة، أو يتردد في المنافحة عنها أو يتلجلج، أيا كان الموضوع الذي تدفعه المفاوضة إلى الخوض فيه. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (50)- مستنقع القرون الوسطى

وكذلك نجح الاستشراق في تحقيق هدفه كل النجاح، واستطاع أن يدرج الإسلام وشرائعه وثقافته وحضارته في مستنقع القرون الوسطى الذي طمرته النهضة الحديثة ووطئه عصر الإحياء والتنوير بأقدامه وطأة المتثاقل. وبذلك عصم العقل الأوربي المثقف من أن يزل زلة، فيرى في دين الإسلام أو في ثقافته وحضارته، ما يوجب انبهاره كما انبهر أسلاف له من قبل تساقطوا في الإسلام وثقافته وحضارته طواعية، ثم صاروا مع الأسف، من بناة مجده على مدى اثنى عشر قرنًا على الأقل. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (49)- أنه الصورة الوثيقة المأمونة (3)

بثوا تلك الصورة في كل كتبهم بمهارة وحذق وخبث معرق، وبأسلوب يقنع القارئ الأوربي المثقف الآن كل الإقناع، وتنحط في نظرة حضارة الإسلام وثقافته انحاط القرون الوسطى، ويزداد بذلك زهوًا بأن أسلافه من اليونان والآريين كانوا هم ركائز هذه الحضارة المزيفة الملفقة دينًا ولغةً وعلمًا وثقافةً وأدبًا وشعرًا، ويزداد بذلك الأوربي، أيا كان، غطرسة وتعاليًا وجبريةً، ولا يرى في الدنيا شيئًا له قيمة، إلا وهو مستمد من أسلافه اليونان الآريين والهمج الهامج!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (48)- أنه الصورة الوثيقة المأمونة (2)

كان جوهر هذه الصورة، المبثوث تحت المباحث كلها، هو أن هؤلاء العرب المسلمين هم في الأصل قوم بداة جهال لا علم لهم كان، جياع في صحراء مجدبة، جاءهم رجل من أنفسهم فادعى أنه نبي مرسل، ولفق لهم دينًا من اليهودية والنصرانية، فصدقوه بجهلهم واتبعوه، ولم يلبث هؤلاء الجياع أن عاثوا بدينهم هذا في الأرض يفتحونها بسيوفهم، حتى كان ما كان، ودان لهم من غوغاء الأمم من دان، وقامت لهم في الأرض بعد قليل ثقافة وحضارة جلها مسلوب من ثقافات الأمم السالفة كالفرس والهند واليونان وغيرهم، حتى لغتهم كلها مسلوبة وعالة على العبرية والسريانية والآرامية والفارسية والحبشية. ثم كان من تصاريف الأقدار أن يكون علماء هذه الأمة العربية من غير أبناء العرب، الموالي، وأن هؤلاء هم الذين جعلوا لهذه الحضارة الإسلامية كلها معنى! هذا هو جوهر الصورة التي بثها المستشرقون في كل كتبهم عن دين الإسلام، وعن علوم أهل الإسلام وفنونهم وآثارهم وحضارتهم، وأن هذه الحضارة إنما هى إحدى حضارات القرون الوسطى المظلمة التى كان العالم يومئذ غارقًا فيها -يعنون عالمهم هم- يجري عليها حكم قرونهم الوسطى! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (47)- الصورة الوثيقة المأمونة (1)

وبديهي أن يكون المستشرقون، كما عرفت صفتهم، هم أسبق الناس إلى معرفة هذه الحاجة الملحة التي تضمن للزحف الأكبر على دار الإسلام أن يسير على هدى لا يختل ولا يضل، ويعصم أكبر قدر ممكن من أشتات الزاحفين، حين يدخل دار الإسلام ليطول مقامهم بها، ويجري بينهم وبين من يخالطهم ما يجري بين الناس من التفاوض وتجاذب الأحاديث، يعصمه أن ينبهر بما يرى أو يسمع، أو أن تضعف حميته، أو تلين قناته، أو يتردد ويتلجلج. لا بد إذن من أساس يرتكز عليه تفكيره، ومن صورة سابقة شاملة ثابتة ينبثق بها ويطمئن إليها، ويثق أيضًا بصدقها وأمانتها، حتى يتمكن من أن يرفض أكثر ما يرى وما يسمع، إذا هو خالف ما يعتقد أنه الصورة الوثيقة المأمونة التى سوغه إياها دارس عارف بأحوال هؤلاء الناس. 

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً