رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (8)- فما الذي يعصم من هذا الوباء؟

فما الذي يعصم من هذا الوباء الحالق الذي يحلق المعرفة حلقًا من أصولها؟ فالعاصم يأتي من قبل الثقافة التي تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به، لا من حيث هي معارف متنوعة تدرك بالعقل وحسب، بل من حيث هي معارف يؤمن بصحتها من طريق العقل والقلب، ومن حيث هي معارف مطلوبة للعمل بها، والالتزام بما يوجبه ذاك الإيمان، ثم من حيث هي بعد ذلك انتماء إلى هذه الثقافة انتماءً ينبغي أن يدرك معه تمام إدراك أنه لو فرط فيه، لأداه تفريطه إلى الضياع والهلاك، ضياعه هو وضياع ما ينتمي إليه! فرأس الأمر هو ما يتعلق بنفس النازل، وهو بهذه المثابة أصل أخلاقي قبل كل شيء وبعد كل شيء. وإغفال هذا الأصل الأخلاقي من قبل نازل هذا الميدان أو من قبل المتلقي عنه، يجعل قضية المنهج وما قبل المنهج فوضى مبعثرة لا يتبين حق من باطل، ولا صدق من كذب، ولا صحيح من سقيم، ولا صواب من خطأ. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (7)- لا يشوبه ذرو من الصدق!

قد بينت لك ما آستطعت طبيعة هذا الميدان، ميدان ما قبل المنهج، وطبيعة النازلين فيه، ثم المخاوف التي تهدد ما قبل المنهج بالتدمير والفساد حتى يصبح ركامًا من الأضاليل، وحتى تفسد الحياة الأدبية فسادًا يستعصى أحيانًا على البرء. ولا يغررك ما غرى به بعض المتشدقين المموهين: أن القاعدة الأساسية في منهج ديكارت، هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن خلوًا تامًا مما قبل، فإنه شيء لا أصل له، ويكاد يكون بهذه الصياغة كذبًا مصفي لا يشوبه ذرو من الصدق! هبه يستطيع أن يخلي ذهنه، أفمستطيع هو أيضًا أن يتجرد من سلطان اللغة التي غذي بها صغيرًا؟ أفمستطيع هو أن يتجرد من سطوة الثقافة التي جرت من مجرى لبان الأم من وليدها؟ أفمستطيع هو أن يتجرد كل متجرد من بطشة الأهواء التي تستكين ضارعة في أغوار النفس وفي كهوفها؟ 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (6)- طبيعة الميدان!

فهذا كما ترى، ميدان لا يطيق النزول في أرضه وبحقه، إلا ما أوتي حظًا وافرًا من البصر النافذ، والإخلاص المتجرد لطلب الحق وإدراكه. وبطبيعة هذه الميدان، تدخل نفس النازل في أرضه عاملًا حاسمًا في شطري ما قبل المنهج، تدخل أولًا عن طريق معرفة اللغة التي نشأ فيها صغيرًا، وتدخل ثانيًا من طريق الثقافة التي ارتضع لبانها يافعًا، وتدخل ثالثًا من طريق أهوائه ومنازعه التي يملك ضبطها أو لا يملكها بعد أن استوى رجلًا مبينًا عن نفسه. فهذا الثاث هو موضع المخافة، الذي يستوجب الحذر، ويقتضيك حسن التحري.

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (5)- آداب اللسان

أما آداب اللسان، فإن الناس لا يتحاجون إلى ما أسميته ما قبل المنهح إلا بعد أن تستوفى الآداب نموها عن طريق اللغة التي هي وعاء المعارف جميعًا، وبعد أن تستوفى أيضًا نموها عن طريق الثقافة التي هي ثمرة المعارف جميعًا، وبعد أن تستوفى حظًا من القوة والتماسك والشمول والغلبة على أصحاب هذه اللغة وهذه الثقافة، حتى يحتاج عندئذ إلى إعادة النظر المفصل بين تداخل أطرافها بعضها في بعض، طلبًا لتصحيح المسيرة، وطلبًا للوضوح، وطلبًا للنهج السوي والطريق المستقيم. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (2)- المنهج الأدبي

ولكي لا تقع في الوهم والضلال، وكي لا يغرر بك أحد من المتشدقين من أهل زماننا هذا بالثرثرة، فاعلم أن حديثي هنا هو عن الذي يسمى "المنهج الأدبي" على وجه التحديد؛ أي: عن المنهج الذي يتناول الشعر والأدب بجميع أنواعه، والتاريخ، وعلم الدين بفروعه المخلتفة، والفلسلفة بمذاهبها المتضاربة، وكل ما هو صادر عن الإنسان إبانة عن نفسه وعن جماعته؛ أي يتناول ثقافتها المتكاملة المتحدرة إليه في تيار القرون المتطاولة والأجيال المتعاقبة. ووعاء ذلك كله ومستقره هو اللغة العربية واللسان لا غير.

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً