سورة الذاريات - تفسير السعدي



" والذاريات ذروا "

أقسم الله تعالى بالرياح المثيرات للتراب,

" فالحاملات وقرا "

فالسحب الحاملات ثقلا عظيما من الماء,

" فالجاريات يسرا "

فالسفن التي تجري في البحار جريا إذا يسر وسهولة,

" فالمقسمات أمرا "

فالملائكة التي تُقَسِّم أمر الله في خلقه.

" إنما توعدون لصادق "

إن الذي توعدون به- أيها الناس- من البعث والحساب لكائن حق يقين

" وإن الدين لواقع "

وإن الحساب والثواب على الأعمال لكائن لا محالة.

" والسماء ذات الحبك "

وأقسم الله تعالى بالسماء ذات الخَلْق الحسن,

" إنكم لفي قول مختلف "

إنكم- أيها المكذبون- لفي قول مضطرب في هذا القرآن, وفي الرسول صلى الله عليه وسلم.

" يؤفك عنه من أفك "

يُصرف عن القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم مَن صُرف عن الإيمان بهما, وانصرف عن أدلة الله وبراهينه اليقينية فلم يوفق إلى الخير.

" قتل الخراصون "

قتل الكذابون الظانون غير الحق,

" الذين هم في غمرة ساهون "

الذين هم في لجة من الكفر والضلالة غافلون متمادون.

" يسألون أيان يوم الدين "

يسأل هؤلاء الكذابون سؤال استبعاد وتكذيب: متى يوم الحساب والجزاء؟

" يوم هم على النار يفتنون "

يوم الجزاء, يوم يُعذَّبون بالإحراق بالنار,

" ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون "

ويقال لهم: ذوقوا عذابكم الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا.

" إن المتقين في جنات وعيون "

إن الذين اتقوا الله في جنات عظيمة, وعيون ماء جارية,

" آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين "

أعطاهم الله جميع مُناهم من أصناف الدنيا, فأخذوا ذلك راضين به, فرحة به نفوسهم, إنهم كانوا قبل ذلك النعيم محسنين في الدنيا بأعمالهم الصالحة.

" كانوا قليلا من الليل ما يهجعون "

كان هؤلاء المحسنون قليلا من الليل ما ينامون, يُصلون لربهم قانتين له,

" وبالأسحار هم يستغفرون "

وفي أواخر الليل قبيل الفجر يستغفرون الله من ذنوبهم.

" وفي أموالهم حق للسائل والمحروم "

وفي أموالهم حق واجب ومستحب للمحتاجين الذين يسألون الناس, والذين لا يسألونهم حياء.

" وفي الأرض آيات للموقنين "

وفي الأرض عبر ودلائل واضحة على قدرة خلقها لأهل اليقين بوحدانية الله وصدق رسوله.

" وفي أنفسكم أفلا تبصرون "

وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى, وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم, وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه, أغفلتم عنها, فلا تبصرون ذلك, فتعتبرون به؟

" وفي السماء رزقكم وما توعدون "

وفي السماء رزقكم وما توعدون من الخير والشر والثواب والعقاب, وغير ذلك كله مكتوب مقدر.

" فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون "

أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدكم به حق, فلا تشكوا فيه كما لا تشكون في نطقكم.

" هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين "

هل أتاك- يا محمد- حديث ضيف إبراهيم الذين أكرمهم- وكانوا من الملائكة الكرام-

" إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون "

حين دخلوا عليه في بيته, فحيوه قائلين له: سلاما, فرد عليهم التحية قائلا: سلام عليكم, أنتم قوم غرباء لا نعرفكم.

" فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين "

فعَدَلَ ومال خفية إلى أهله, فعمد إلى عجل سمين فذبحه,

" فقربه إليهم قال ألا تأكلون "

ووضعه أمامهم, وتلطف في دعوتهم إلى الطعام قائلا: ألا تأكلون؟

" فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم "

فلما رآهم لا يأكلون أحس في نفسه خوفا منهم, قالوا له: لا تخف إنا رسل الله, وبشروه بأن زوجته (سارة) ستلد له ولدا, سيكون من أهل العلم بالله وبدينه, وهو إسحاق عليه السلام.

" فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم "

فلما سمعت زوجة إبراهيم مقالة هؤلاء الملائكة بالبشارة أقبلت نحوهم في صيحة, فلطمت وجهها تعجبا من هذا الأمر, وقالت: كيف ألد وأنا عجوز عقيم لا ألد؟

" قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم "

قالت لها ملائكة الله: هكذا قال ربك كما أخبرناك, وهو القادر على ذلك, فلا عجب من قدرته.
إنه سجانه وتعالى هو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها, العليم بمصالح عباده.

" قال فما خطبكم أيها المرسلون "

قال إبراهيم عليه السلام, لملائكة الله: ما شأنكم وفيم أُرسلتم؟

" قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين "

قالوا: إن الله أرسلنا إلى قوم قد أجرموا لكفرهم بالله;

" لنرسل عليهم حجارة من طين "

لنهلكهم بحجارة من طين متحجر,

" مسومة عند ربك للمسرفين "

معلمة عند ربك لهؤلاء المتجاوزين الحد في الفجور والعصيان.

" فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين "

فأخرجنا من كان في قرية قوم لوط من أهل الإيمان.

" فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين "

فما وجدنا في تلك القرية غير بيت من المسلمين, وهو بيت لوط عليه السلام

" وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم "

وتركنا في القرية المذكورة أثرا من العذاب باقيا علامة على قدرة الله تعالى وانتقامه من الكفرة, وذلك عبرة لمن يخافون عذاب الله المؤلم الموجع.

" وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين "

وفي إرسالنا موسى إلى فرعون وملئه بالآيات والمعجزات الظاهرة آية للذين يخافون العذاب الأليم.

" فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون "

فأعرض فرعون مغترا بقوته وجانبه, وقال عن موسى: إنه ساحر أو مجنون.

" فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم "

فأخذنا فرعون وجنوده, فطرحناهم في البحر, وهو آت ما يلام عليه; بسبب كفره وجحوده وفجوره.

" وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم "

وفي شأن عاد وإهلاكهم آيات وعبر لمن تأمل, إذ أرسلنا عليهم الريح التي لا بركة فيها ولا تأتي بخير,

" ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم "

ما تدع شيئا مرت عليه إلا صيَّرته كالشيء البالي.

" وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين "

وفي شأن ثمود وإهلاكهم آيات وعبر, إذ قيل لهم: انتفعوا بحياتكم حتى تنتهي آجالكم.

" فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون "

فعصوا أمر ربهم, فأخذتهم صاعقة العذاب, وهم ينظرون إلى عقوبتهم بأعينهم

" فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين "

فما أمكنهم الهرب ولا النهوض مما هم فيه من العذاب, وما كانوا منتصرين لأنفسهم.

" وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين "

وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء, إنهم كانوا قوما مخالفين لأمر الله, خارجين عن طاعته.

" والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون "

والسماء خلقناها وأتقناها, وجعلناها سَقْفا للأرض بقوة وقدرة عظيمة, وإنا لموسعون لأرجائها وأنحائها.

" والأرض فرشناها فنعم الماهدون "

والأرض جعناها فراشا للخلق للاستقرار عليها, فنعم الماهدون نحن.

" ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون "

ومن كل شيء من أجناس الموجودات خلقنا نوعين مختلفين; لكي تتذكروا قدرة الله, وتعتبروا

" ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين "

ففروا-أيها الناس- من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به وبرسوله, واتباع أمره والعمل بطاعته, إني لكم نذير بيِّن الإنذار.
وكان رسول الله صلى الله عليه يسلم إذا حزبه أمر, فزع إلى الصلاة, وهذا فرار إلى الله.

" ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين "

ولا تجعلوا مع الله معبودا آخر, إني لكم من الله نذير بيِّن الإنذار.
" كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ "
كما كذبت قريش نبيها محمدا صلى الله عليه وسلم, وقالوا: هو شاعر أو ساحر أو مجنون, فعلت الأمم المكذبة رسلها من قبل قريش, فأحل الله بهم نقمته.

" أتواصوا به بل هم قوم طاغون "

أتواصى الأولون والآخرون بالتكذيب بالرسول حين قالوا ذلك جميعا؟ بل هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان, فقال متأخروهم ذلك, كما قاله متقدموهم.

" فتول عنهم فما أنت بملوم "

فأعرضْ- يا محمد- عن المشركين حتى يأتيك فيهم أمر الله, فما أنت بملوم من أحد, فقد بلغت ما أُرسلت به.

" وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين "

ومع إعراضك- يا محمد- عنهم, وعدم الالتفات إلى تخذيلهم, داوم على الدعوة إلى الله, وعلى وعظ من أُرسلت إليهم; فإن التذكير والموعظة ينتفع بهما أهل القلوب المؤمنة, وفيهما إقامة الحجة على المعرضين.

" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "

وما خلقت الجن والإنس وبعثت جميع الرسل إلا لغاية سامية, هي عبادتي وحدي دون من سواي.

" ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون "

ما أريد منهم من رزق وما أربد أن يطعمون, فأنا الرزاق المعطي.
فهو سبحانه غير محتاج إلى الخلق, بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم, فهو خالقهم ورازقهم والغني عنهم.

" إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين "

إن الله وحده هو الرزاق لخلقه, المتكفل بأقواتهم, ذو القوة المتين, لا يُقهَر ولا يغالَب, فله القدرة والقوة كلها.

" فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون "

فإن للذين ظلموا بتكذيبهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم نصيبا من عذاب الله نازلا بهم مثل نصيب أصحابهم الذين مضوا من قبلهم, فلا يستعجلون بالعذاب, فهو آتيهم لا محالة.

" فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون "

فهلاك وشقاء للذين كفروا بالله ورسوله من يومهم الذي يوعدون فيه بنزول العذاب بهم, وهو يوم القيامة.

 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً