نتفلكس إمكانات لا محدودة لاختراق عقول المراهقين
ما هي الإمكانات الهائلة التي تملكها نتفلكس وتميزها عن باقي المنصات؟ كيف تتلاعب نتفلكس بعقول أبنائنا دون أن ندري؟ ما هي رسائل نتفلكس التي توجهها إلى اللاوعي لدى المراهقين؟
في بداية عقد الألفينات، وتحديدا في العام 2003 ظهرت إلى النور قناة (إم بي سي2)، المتخصصة في بث الأفلام والأعمال السنيمائية الغربية (الأمريكية على وجه الخصوص) طوال 24 ساعة يوميًا، والتي كانت تنقل للمشاهد حرفيًا النمط الغربي في الحياة بكامل مفرداته (العقائدية - والاجتماعية - والأخلاقية)، منظومة حياتية متكاملة من القيم والمبادئ والأطر الحاكمة التي يتعارض ويتصادم كثير منها مع طبيعة البناء العقدي والقيمي والمفاهيمي العربي والإسلامي، تتم صياغتها في قوالب سنيمائية مؤثرة تنفذ إلى عقول وضمائر الشباب والمراهقين، والكبار أيضًا.
كان لهذه القناة وقع كبير وتأثير نافذ لاسيما على الفئة العمرية الخاصة بالمراهقين والشباب، نظرًا لما لدى هذه الفئة من تصور ذهني مبهر عن المجتمع الغربي مقارنة بالوضع في بلدنا، وما تعانيه هذه الفئة من حالة القزامة تجاه كل ما هو قادم من الغرب من جانب، ومن جانب آخر لما تتمتع به هذه الأفلام من جانب إبهاري كبير وإمكانات ضخمة مقارنة بالإنتاج السنيمائي العربي تجعلها محطا لاهتمام المشاهدين في بلادنا مهما بلغت درجة سوئها في الأفكار أو التنفيذ.
نتفلكس لها أجندة أكثر حدّة تجاه الكثير من القضايا الاجتماعية والدينية، وتأخذ على عاتقها تنفيذها بصورة سريعة مهما كانت نتائجها فجّة وصادمة. ويمكننا تلمّس ذلك من خلال النظر في كثير من القضايا المثارة عن الإلحاد والشذوذ
كانت هذه القناة حديث المجالس في فترة بداية الألفية بالكامل وإلى وقت قريب حتى ظهور المنصات الإلكترونية وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي والطفرة الكبيرة في الهواتف النقالة، التي أتاحت للجميع مطالعة ما يشاؤون في الوقت والمكان الذي يشاؤون. كانت هذه خطوة جديدة كرّست لحالة مختلفة من التغريب والغزو الفكري بمفهومه الفني والدرامي والسينمائي، والتي أتاحت للمراهقين والشباب على وجه الخصوص الاطلاع على المجتمع الغربي بكافة سوءاته 24 ساعة في اليوم بلا توقف. ولنا أن نتخيل الأثر التربوي والاجتماعي والفكري بالغ السوء الذي تعرض له شبابنا وأبناؤنا في هذه الفترة جراء ترسيخ هذا النمط الاجتماعي المنحل.
وهنا ظهرت نتفلكس، وحدثت النقلة النوعية الأكبر والأوسع في تاريخ الغزو السنيمائي والدرامي العالمي حتى الآن، فعلى الرغم من الأثر بالغ السوء لقناة (إم بي سي2) على عقول الناشئة والمراهقين والشباب العرب والمسلمين، إلا أنه لا يكاد يقارن بمنصة نتفلكس المشبوهة وإنتاجها المتعدد الأوجه، فإن كانت (إم بي سي2) مجرد جامعة للأعمال السنيمائية من هنا وهناك؛ فإن نتفلكس ليست كذلك؛ فهي شركة إنتاج عالمية متكاملة بإمكانات مادية خارقة، أخذت على عاتقها تشكيل العقول وتنميطها على العقلية الحداثية الجديدة التي أخضعت كافة الأفكار والمبادئ والقيم للعبث والنسبية والتشييء والتسليع، والنمط الرأسمالي الذي جعل لكل شيء ثمنًا حتى الأخلاق والقيم، حتى أنتجت مسلسلاً عن الشيطان ذاته (مسلسل لوسيفر)، يروج فيه لأفكاره ويحسن صورته الذهنية لدى البشر، ويضع مبادئه وأعماله الخبيثة في موضع المساومة باعتبارها مجرد وجهة نظر!! هذا بالإضافة للطفرة في وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف ضاعفت أثرها وجعلت حياة المراهقين والشباب مساحة مستباحة قابلة للاختراق العقدي والاجتماعي والقيمي في أية لحظة.
نتفلكس شأنها شأن المنصات الإنتاجية السنيمائية والدرامية العالمية تخضع أعمالها لتصنيف سني لتحديد الفئة العمرية التي يمكنها مشاهدة أعمالها، ما بين مناسب للأطفال والكبار، أو يشاهد بإشراف الوالدين، أو مناسب لـ18 عامًا فأعلى لاحتوائه على مشاهد عنيفة أو جنسية. وكذلك لكل دولة تصنيفاتها التي تحدد من خلالها تلك الفئات العمرية ومدى قدرتها على التعرض للمشاهد.
إلا أننا هنا في حالة نتفلكس نواجه أفكارًا عصيّة على التفكيك والقدرة على المواجهة البسيطة الخاضعة للتصنيف، فحتى أفلام الرسوم المتحركة التي تنتجها نتفلكس، والتي من المفترض أنها موجهة للصغار، وأنها خاضعة للتصنيف العمري لهم؛ لم تعد كذلك الآن، بل صارت تحتوي على كم كبير من الأفكار المتشابكة والمعقدة التي تحتاج من الوالدين أو المشرفين على الأطفال أن يراجعوا مثل هذه الأفلام أكثر من مرة، والنظر إليها نظرة أكثر عمقا وانتقادًا، ومحاولة فك تشابكاتها ورموزها قبل تعريض الأطفال لها، حتى وإن كانت أعمار أبنائهم متوافقة مع العمر الذي تدعي الشركة أنه مناسب لهم.
كثير من الآباء أو المشرفين التربويين يكون شغلهم الشاغل هو التأكد بسذاجة شديدة من خلو المادة الفيلمية من العري والإباحية فحسب، وبناءً على ذلك يسمحون للطفل بالمشاهدة، إلا أن هذا الإجراء قد صار الآن جزءًا من الماضي، فالاختراق الأعمق الآن طال الأفكار والقيم والمنظومة الأخلاقية بالكامل.
نتفلكس تجسيد مقيت للعولمة والرأسمالية الغربية، لا تعادي الأديان فقط بفرض رؤيتها المشوهة على الجميع، ولكنها تعادي الإنسان من حيث كونه إنسانًا أصلاً، تريد سلخه من إنسانيته وفطرته وقيمه وتحوله إلى مسخ حيواني وسلعة بلا شعور ولا مبادئ ولا زمام.
الرسائل الموجهة بين الخفاء والفجاجة:
كانت غالبية الرسوم المتحركة قديمًا التي تحمل أفكارًا قيمية سلبية؛ كانت مباشرة في رسالتها، يمكن كشفها بسهولة، وإن كانت لا تخلو في أحيان كثيرة من رسائل خفية تؤثر في لاوعي الأطفال والمراهقين، إلا أننا حينما نطالع إنتاج نتفلكس في هذا المجال يمكننا الوقوف على كم ضخم جدا من الأفكار الهدامة اللاهثة خلال العمل الواحد، فالأفلام التي كانت قائمة قديما على فكرة التعاون مثلا وقيمته في حياة البشر ومواجهة الشر، تحولت إلى بث أفكار تروج للشر نفسه والشذوذ الجنسي باعتباره تقبلاً للآخر، والإلحاد والعبادات الوثنية والسحر، وهدم المنظومة الأسرية وبث الكراهية بين الآباء وأبنائهم.
الإشكالية الكبرى في هذه الأعمال أنها لا توجه رسائل مباشرة، فربما يشاهد البالغ غير المنتبه -والطفل طبعا بطبيعة الحال- الفيلم أكثر من مرة ولا يدرك شيئا من رسائله وأفكاره المفسدة، ذلك لأنها موجهة في الأساس إلى العقل اللاواعي، فتترك أثرًا داخلياً لا يستثار إلا أثناء التعرض للمواقف التي يتعرض لها الطفل أو الشاب، فتتسرب شيئًا فشيئا وتظهر في السلوك وتنسحب على الفكر والاعتقاد.
وإن كانت إجراءات هدم مبادئ الأسرة واحترام الوالدين قد بدأت في مرحلة متقدمة في ديزني وبيكسار وغيرهما من شركات الإنتاج العالمية؛ إلا أنها تشهد حاليًا قفزات غير منطقية في نتفلكس، فنتفلكس لها أجندة أكثر حدّة تجاه الكثير من القضايا الاجتماعية والدينية، وتأخذ على عاتقها تنفيذها بصورة سريعة مهما كانت نتائجها فجّة وصادمة. ويمكننا تلمّس ذلك من خلال النظر في كثير من القضايا المثارة عن الإلحاد والشذوذ على سبيل المثال في الأفلام والرسوم المتحركة، كيف كانت من عقد واحد وأين وصلت الآن!!
لم تهتم نتفلكس بحملات المقاطعة التي أطلقها البعض، سواء في الغرب نفسه من قبل بعض المحافظين الذين احتجوا على أعمالها، والتي كان منها استخدامها للأطفال في الترويج للأفكار الشاذة في الأفلام كما حدث مع الفيلم الفرنسي (Cuties) الذي يروج لاستغلال الأطفال جنسيًا، أم في الدول العربية الإسلامية احتجاجا على هذا المحتوى الفج ومعالجتها لكثير من القضايا الشائكة بهذه الصورة المتحدّية كما في مسلسلي (مدرسة الروابي) و(جن) الأردنيين اللذين ركزا على عالم المراهقين واتُّهما بالترويج للإباحية والعلاقات المحرمة بين المراهقين. فهي ماضية في طريقها دون اكتراث بالمعارضين أو المحتجين، مهما فقدت من متابعين ومشتركين، فما يهمها هو إيصال رسالتها وفرض أطروحتها مهما كلفها ذلك.
الشركة لم تكتفِ بمجرد عرضها لأفكارها المشبوهة في الشرق الأوسط في الإطار الدرامي والسينمائي الغربي مثل بقية الشركات الإنتاجية، ولا حتى عمل دوبلاج لبعض منتجاتها الكرتونية التي ترغب في نشرها بتلك المنطقة، لكنها اتخذت خطوة أبعد وأوسع، وهي الإنتاج بلغات متعددة وعلى رأسها اللغة العربية، بلهجاتها المختلفة واللهجة المصرية تحديدا الأوسع انتشارا في البلدان العربية، ووجوه سينمائية من مختلف الدول الناطقة بتلك اللغات، بل واختيار موضوعات أكثر إثارة للجدل في المجتمعات العربية والإسلامية المحافظة، لتكون عملية الاختراق أجدى وأوسع وأصدم.
نتفلكس تجسيد مقيت للعولمة والرأسمالية الغربية، لا تعادي الأديان فقط بفرض رؤيتها المشوهة على الجميع، ولكنها تعادي الإنسان من حيث كونه إنسانًا أصلاً، تريد سلخه من إنسانيته وفطرته وقيمه وتحوله إلى مسخ حيواني وسلعة بلا شعور ولا مبادئ ولا زمام.
وإن مسؤولية الآباء تتعاظم في مثل ذلك الزمان، وأمام هذه الآلة الإعلامية الجبارة، فلم تعد الشاشة آمنة على الناشئة كما كان الحال قديما حينما كانت برامج الأطفال خاضعة لرقابة صارمة من الدولة، ومع الانتشار المخيف للمنصات الإلكترونية والهواتف النقالة باتت المسؤولية أكبر والمهمة أصعب.
_________________________________________
الكاتب: . محمد الغباشي
- التصنيف:
- المصدر: