الاعتكاف: فضله وأحكامه
إن الاعتكاف شرع لغايات وحكم عديدة، ومن أعظمها عكوف القلب على الله تعالى، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، والتفرغ لعبادته وذكره وتسبيحه واستغفاره، وقراءة كلامه جل وعلا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن مما ينبغي للعبد المؤمن أن يحرصَ عليه هو استثمار مواسم الخيرات والطاعات والعبادات، وإن من هذه المواسم شهر رمضان المبارك الذي كله خيرات وبركات، ومن بركات هذا الشهر مشروعية الاعتكاف في العشر الأواخر منه، تحريًا لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ولا شك أن الاعتكاف شرع لغايات وحكم عديدة، ومن أعظمها عكوف القلب على الله تعالى، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، والتفرغ لعبادته وذكره وتسبيحه واستغفاره، وقراءة كلامه جل وعلا، لذا شرعت في كتابة هذا المختصر في الاعتكاف، مبينًا فيه فضله وحكمه ومقاصده وأحكامه، لعل الله تعالى أن ينفع به، وبالله التوفيق:
مفهوم الاعتكاف لغة وشرعًا:
الاعتكاف لغة: لزوم الشيء والإقبال وحبس النفس عليه.
ومنه قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف من الآية:138]، وقوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء من الآية:52]، وقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} [البقرة من الآية:187].
وقيل: هو الإقبالُ على الشَّيْءِ والاحتباسُ فِيهِ مِنْ: عَكَفَ على الشَّيءِ: أي إذا أقبَلَ عليه مواظبًا لا يَصرِفُ عنه وجهَه، ومنه قيلَ لِمَن لازَمَ المسجِدَ، وأقامَ على العبادَةِ فيه: عاكفٌ ومعتَكِفٌ؛ «لسان العرب، لابن منظور (9/ 255)».
وقيل: هو المقام والاحتباس؛ « التعريفات، الجرجاني، ص23».
الاعتكاف شرعًا: لزوم المسلم المميز مسجدًا لطاعة الله تعالى.
وقيل: هو الانقِطاعُ للعبادةِ في المَسجِدِ مُدَّةً معيَّنةً.
وقيل: هو الإقامةُ في المسجد بنيَّةِ التقرُّبِ إلى الله عز وجل ساعةً فما فوقها ليلًا أو نهارًا؛ «المحلى لابن حزم (5/ 179)».
وقيل: هو لزومُ المسجِدِ على وجهٍ مخصوصٍ؛ «إحكام الأحكام، لابن دقيق العيد (1/ 292)».
وقيل: «هو لبثُ صائم في مسجد جماعة بنيةٍ، وتفريغ القلب عن شغل الدنيا، وتسليم النفس إلى المولى، وقيل: الاعتكاف والعكوف: الإقامة»؛ «التعريفات، الجرجاني، ص23».
حكم الاعتكاف:
الاعتكاف سنة من السنن، ومستحب من المستحبات، وقُربة من القربات التي داوَم عليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفاه الله جل وعلا، وهو ثابت في الكتاب والسنة الصحيحة، والإجماع؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
بمعنى: أن طهِّرا بيتي من كل رجس ودنس للمتعبدين فيه بالطواف حول الكعبة، أو الاعتكاف في المسجد، والصلاة فيه، ولقد كان الاعتكاف مشروعًا في الشرائع السابقة، وقال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُو} نَ ﴾ [البقرة: 187].
بمعنى: ولا تجامعوا نساءكم أو تتعاطوا ما يفضي إلى جماعهنَّ إذا كنتم معتكفين في المساجد؛ لأن هذا يفسد الاعتكاف، وهو الإقامة في المسجد مدة معلومة بنيَّة التقرب إلى الله تعالى.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذ مكانًا له يعتكف فيه من المسجد، فعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رَمَضانَ، قالَ نافِعٌ: وَقَدْ أَرانِي عبدُاللهِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: المَكانَ الذي كانَ يَعْتَكِفُ فيه رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَسْجِد»؛ (أخرجه مسلم/ ١١٧١).
ولقد داوم النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف في كل سنة، حتى توفاه الله جل وعلا.
فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رَمَضانَ حتى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْواجُهُ مِن بَعْدِهِ»؛ (أخرجه البخاري/ ٢٠٢٦).
ويبيِّن هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ظلَّ على هذه الحالِ يَعتكِفُ كلَّ رَمَضانَ العَشْرَ الأواخِرَ منه ولم يَنقطِعْ عنه (حتى توفَّاه الله، ثُمَّ اعتَكَف أزواجُه مِن بعدِه)؛ أي: ثُمَّ اعتَكَف أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن بعدِه مِثلَ اعتكافِه في العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ؛ وذلك أنَّهم كانوا يَعتكِفنَ في بيوتِهنَّ، وهو ما يُقال عليه مسجدُ بيتِها، وهو المَوضِع الذي تتَّخِذه في بيتِها مُصلًّى.
وفي الحديث دليل على جواز اعتِكافُ النِّساءِ بالضَّوابِطِ الشَّرعيَّةِ.
ولم يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في أحد السنوات، فقضاها في العام الذي بعده، فعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يعتكفُ العشرَ الأواخرَ منْ رمضانَ، فلمْ يعتكفْ عامًا، فلمَّا كانَ في العامِ المقبلِ، اعتكفَ عشرينَ ليلةً»؛ (الألباني، صحيح أبي داود/ ٢٤٦٣).
وقوله: (فلم يَعْتَكِفْ عامًا)؛ لأنَّه سافَرَ في ذلك العامِ، فلمْ يَعتَكفْ، (فلمَّا كان في العامِ المُقبِلِ، اعْتَكفَ عِشْرينَ لَيلةً)؛ أي: تَعويضًا للعَشرِ التي لم يَعتَكفْ فيها في العامِ الذي قَبلَه، كما ورد ذلك في حديث أُبيِّ بنِ كَعبٍ رضِي اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (كان يَعتكِفُ العشرَ الأواخِرَ مِن رمضانَ، فسافَرَ عامًا، فلمَّا كان مِن العامِ المُقبِلِ، اعتَكَفَ عِشرينَ يَومًا)؛ (شعيب الأرنؤوط، صحيح ابن حبان (٣٦٦٣)، وإسناده صحيح على شرط مسلم).
وفي هذا الحديث إشارة إلى حِرصِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على الاعْتِكافِ في رَمَضانَ.
ويفهم من الحديث أنَّ النَّوافِلَ المعْتادَة تُقضى إذا فاتَتْ كما تُقضى الفَرائِضُ.
وتَرَك النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكافَ مرَّةً، فقضاهُ في شهر شوَّال، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: «كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ أن يعتَكِفَ، صلَّى الصُّبحَ ثمَّ دخلَ في المَكانِ الذي يريدُ أن يعتَكِفَ فيهِ، فأرادَ أن يعتَكِفَ العشرَ الأواخرَ من رَمَضانَ، فأمرَ فضُرِبَ لَهُ خِباءٌ، وأمَرَت حفصةُ فضُرِبَ لَها خِباءٌ، فلمَّا رأت زينبُ خباءَها أمَرَت فضُرِبَ لَها خِباءٌ، فلمَّا رأى ذلِكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «البِرَّ تُردنَ» ؟ فلَم يعتَكِف في رمَضانَ واعتَكَفَ عشرًا من شوَّالٍ»؛ (الألباني، صحيح النسائي/ ٧٠٨).
ويشير الحديثِ إلى بيان ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الاجتهادِ في العِبادةِ وتَدارُك ما فاتَه من الخيرِ والأعمالِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان إذا عَمِلَ عملًا أثبتَه.
• وأجمع العلماء على مشروعية الاعتكاف، ونقل ذلك الفقهاء دون منازع أو مخالف.
شروط الاعتكاف:
إن للاعتكاف شروطًا لا بد من تحققها ليصح اعتكاف المعتكف، وهي:
1- أن يكون المعتكِف مسلمًا عاقلًا ومميزًا، فلا يصح ولا يقبل الاعتكاف من الكافر، ولا المجنون، ولا الصبي غير المميز، ويصح الاعتكاف من الصبي المميز وغير البالغ، والمرأة يشرع لها الاعتكاف كما يشرع للرجل، لكن بشرط ألا يترتب على اعتكافها مفسدة أو فتنة، فإن ترتب على ذلك مفسدة أو فتنة كضياع أولادها في بيتها، أو أن تهدر حقَّ زوجها، فليس لها أن تعتكف.
ولقد كان بعض أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهنَّ يعتكفنَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد وفاته كذلك، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما قالت: (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رَمَضانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْواجُهُ مِن بَعْدِهِ)؛ (أخرجه البخاري/ ٢٠٢٦).
• ويستحب للمرأة أن تستتر بحاجز إذا اعتكفت في المسجد؛ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا أردنَ الاعتكاف أَمَرَنَ بأبنيتهنَّ، فضُربنَ في المسجد، ولأن المسجد يحضره الرجال لصلاة الجمعة والجماعات، وخير للرجال وللنساء ألا يرى أحدهما الآخر.
2- أن يكون مكان الاعتكاف هو المسجد لا غيره، ولقد ورد ذكر الاعتكاف في المساجد صريحًا في كتاب ربنا جل وعلا؛ قال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
بمعنى: ولا تجامعوا نساءكم أو تتعاطوا ما يفضي إلى جماعهنَّ إذا كنتم معتكفين في المساجد؛ لأن هذا يفسد الاعتكاف، (وهو الإقامة في المسجد مدة معلومة بنيَّة التقرب إلى الله تعالى).
ودلت الأحاديث الصحيحة الصريحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في المسجد، ولم ينقل ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في غير المسجد، فدلَّ هذا على عدم صحة الاعتكاف في غير المساجد.
3- أن يكون الاعتكاف في مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، لكونها واجبة عليه، ولئلا يتكرر خروجه من معتكفه للصلوات المفروضة، لكونه ينافي مقصود وغاية الاعتكاف، وهو المكث في المسجد.
والأولى والأفضل أن يعتكف المعتكف في مسجد جامع تقام فيه صلاة الجمعة، لئلا يخرج من معتكفه لأدائها، وإن خرج لصلاة الجمعة، فلا يؤثر ذلك على صحة اعتكافه.
ولا يشترط في حق المرأة أن تعتكف في مسجد تقام فيه الجماعة، فيصح اعتكافها في كلِّ مسجد، لعدم وجوب صلاة الجماعة في حقِّها.
4- النية، لكونها شرطًا لصحة سائر العبادات، فيمكث المعتكف في معتكفه في المسجد قربةً وتعبدًا لله جل وعلا، ويخلص النية لله جل وعلا في اعتكافه، فالأعمال بمقاصدها، لحديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّةِ، وإنَّما لِامْرِئٍ ما نَوى، فمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، ومَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُها، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ»؛ (أخرجه البخاري/ ٦٦٨٩).
5- الطهارة من الحدث الأكبر؛ إذ يشترط لصحة الاعتكاف الطهارة من الحدث الأكبر، لعدم جواز مكث الجنب، ولا الحائض والنفساء في المسجد.
• ولا يشترط الصوم لصحة الاعتكاف في المسجد، وخاصة في غير شهر رمضان المبارك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذِن لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، ومن المعلوم أنه لا صوم في الليل، فعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ عُمَرَ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً في المَسْجِدِ الحَرامِ، قالَ: «أوْفِ بنَذْرِكَ»؛ (أخرجه البخاري/ ٦٦٩٧).
وفي هذا الحديث دليلٌ على صحة الاعتكافُ ليلًا مِن غيرِ صومٍ، لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط ذلك على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومن المعلوم كذلك أن الصوم والاعتكاف عبادتان منفصلتان عن بعضهما، ولا يشترط لأحدهما وجود الأخرى؛ لكي يصح وقوعها، ولكن إن رافق الاعتكاف صيام فهو أفضل، وإلا إن اعتكف المعتكف وهو مفطر صحَّ اعتكافه.
زمن الاعتكاف:
لقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم العشرة الأول، ثم الأواسط، ثم قيل له: إنها - أي ليلة القدر - في العشر الأواخر من رمضان، ثم استقرَّ به الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ولا شكَّ ولا خلاف في أن أفضل الاعتكاف هو في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان تحريًا لليلة القدر؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوَّلَ مِن رَمَضانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ، في قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ على سُدَّتِها حَصِيرٌ، قالَ: فأخَذَ الحَصِيرَ بيَدِهِ فَنَحَّاها في ناحِيَةِ القُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا منه، فَقالَ:«إنِّي اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأَوَّلَ، أَلْتَمِسُ هذِه اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فقِيلَ لِي: إنَّها في العَشْرِ الأواخِرِ، فمَن أَحَبَّ مِنكُم أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ»، فاعْتَكَفَ النَّاسُ معهُ، قالَ: «وإنِّي أُرِيتُها لَيْلَةَ وِتْرٍ، وإنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَها في طِينٍ وَماءٍ»، فأصْبَحَ مِن لَيْلَةِ إحْدى وَعِشْرِينَ، وَقَدْ قامَ إلى الصُّبْحِ، فَمَطَرَتِ السَّماءُ، فَوَكَفَ المَسْجِدُ، فأبْصَرْتُ الطِّينَ والْماءَ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِن صَلاةِ الصُّبْحِ، وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِما الطِّينُ والْماءُ، وإذا هي لَيْلَةُ إحْدى وَعِشْرِينَ مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ»؛ (أخرجه البخاري ٨١٣، ومسلم ١١٦٧).
ويشير الحديث إلى أن رؤيا النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قد تحققت بأن سجَد في ماءٍ وطينٍ، وظهَر أثرُ الطِّينِ على جبهةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأَرْنَبَتِه؛ أي: أنفِه، ورؤيا الأنبياءِ حقٌّ، وكان ذلك صبيحةَ عِشرينَ، أي: ليلةَ الحادي والعشرين.
وفي الحديث إشارة إلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله تعالى عنهم على التزود من الخيرات والطاعات والعبادات، واستثمار أسمى وأفضل الأوقات للتقرب إلى ربِّ البريات سبحانه وتعالى.
• ويشرع الاعتكاف في كلِّ وقت، وهو مذهب جمهور العلماء أنه في كل وقت مسنون في شهر رمضان وفي غيره، إلا قولًا لبعض المالكية أنه مسنون في رمضان وجائز في غيره، والقول الراجح هو أنه مشروع في رمضان وغيره، وأفضله في رمضان وآكده في العشر الأواخر من رمضان، ولا شك أن أوقات الاعتكاف تتفاضل بحسب الزمان والمكان، وأفضل هذه الأوقات هو الاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فيها، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رَمَضانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْواجُهُ مِن بَعْدِهِ»؛ (أخرجه البخاري/ ٢٠٢٦).
أفضل الأمكنة للاعتكاف:
إن أفضل المساجد في الاعتكاف المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى، فهذه أفضل المساجد بالترتيب، ثم المساجد الأخرى الأفضل منها فالأفضل؛ قال ابن عثيمين: «الاعتكاف في المسجد الحرام أفضل من الاعتكاف في المساجد الأخرى، ويليه الاعتكاف في المسجد النبوي، ويليه الاعتكاف في المسجد الأقصى، ثم المساجد الأخرى الأفضل منها فالأفضل، ولكن هنا المسألة ينبغي أن نتفطَّن لها، وهي أن مراعاة ذات العبادة أولى من مراعاة زمانها ومكانها؛ أي: ما عاد للعبادة من الفضائل أولى بمراعاة مما عاد إلى مكانها أو زمانها، يعني أن الإنسان إذا كان اعتكافه في مسجد آخر غير المساجد الثلاثة، أكمل وأشد خشوعًا لله عز وجل وأكثره في العبادة، كان اعتكافه في هذه المساجد أفضل، يعني هذا الفضل يعود إلى ذات العبادة، ودليل هذا من السنة وكلام أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صَلاةَ بحَضْرَةِ الطَّعامِ، ولا هو يُدافِعُهُ الأخْبَثانِ»؛ (أخرجه مسلم ٥٦٠).
ومقتضى هذا الحديث أن يؤخر الصلاة عن أول وقتها؛ حتى يقضي حاجته من مأكول، أو تخلى، وهذا يستلزم تأخير الصلاة عن أول وقتها، مع أن الصلاة في أول وقتها أفضل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى مراعاة الزمن هنا من أجل إكمال العبادة ذاتها، ويرى أهل العلم أن رمل الطائف في طواف القدوم أولى من دنوه من الكعبة، وعللوا ذلك بأن الرمل فضيلة تتعلق بذات العبادة، والدنو من البيت فضيلة تتعلق بمكانها، ومراعاة ما يتعلق بذات العبادة أولى من مراعاة ما يتعلق بمكانها، وهذه نقطة ينبغي للإنسان ولا سيما طالب العلم أن يلاحظها، وهي المحافظة على فضيلة ذات العبادة أكثر من المحافظة على مكانها وزمانها»؛ (فتاوى ابن عثيمين، الاعتكاف والصيام/ 233).
وقت الاعتكاف:
يبدأ وقت الاعتكاف لمن أراد أن يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، من ليلة إحدى وعشرين لا من فجر إحدى وعشرين، وهو ما عليه جمهور أهل العلم، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوَّلَ مِن رَمَضانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ في قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ على سُدَّتِها حَصِيرٌ، قالَ: فأخَذَ الحَصِيرَ بيَدِهِ فَنَحَّاها في ناحِيَةِ القُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ الناسَ، فَدَنَوْا منه، فَقالَ: «إنِّي اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأَوَّلَ، أَلْتَمِسُ هذِه اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فقِيلَ لِي: إنَّها في العَشْرِ الأواخِرِ، فمَن أَحَبَّ مِنكُم أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ، فاعْتَكَفَ النَّاسُ معهُ»؛ (أخرجه البخاري ٨١٣، ومسلم ١١٦٧).
وذهب بعض العلماء أن ابتداء الاعتكاف من فجر وصبيحة اليوم الحادي والعشرين، فيصلي المعتكف الفجر من صبيحة اليوم الحادي والعشرين في المسجد، ثم يدخل في اعتكافه، واستدلوا بحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: «كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إذا أَرادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ وإنَّه أَمَرَ بخِبائِهِ فَضُرِبَ»؛ (أخرجه البخاري ٢٠٣٣، ومسلم ١١٧٢).
فكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعتكِفُ في العَشرِ الأواخِرِ مِن رمضانَ، وكانتْ عائشةُ رضِي اللهُ عنها تصنَعُ له «خِباءَه»، وهو خيمةٌ صغيرةٌ مِن صُوف، فكان يصلِّي الصُّبح ثمَّ يَدخُله، وينتهي الاعتكاف بغروب شمس آخر يوم من أيام شهر رمضان المبارك، وهي ليلة عيد الفطر.
مدة الاعتكاف:
لقد اختلف الفقهاء في تحديد أقلِّ مدة للاعتكاف، والصحيح الراجح أنه لا حدَّ لأقله، ويصح الاعتكاف مدة من الزمن قلَّت أو كثُرت، ولكنَّ الأولى والأفضل ألا تقلَّ مدة الاعتكاف عن يوم واحد أو ليلة واحدة، والأفضل الجمع بينهما، فيعتكف يومًا وليلة؛ لكونه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في خبر أو أثر أنهم اعتكفوا فيما دون ذلك.
• ويستحب للمعتكف أن يتفرغ للطاعة والعبادة، ويكثر من صلاة الليل، والاستغفار والتسبيح، والإكثار من أنواع العبادات والطاعات والقربات، وعليه بالتوبة والرجوع إلى الله جل وعلا، فالاعتكاف عبادة يخلو فيها العبد بخالقه ومولاه سبحانه وتعالى، وينقطع عن الدنيا وملذاتها، ويكون قريبًا من الله جل وعلا، يرجو رحمته ومغفرته وعتقه من النار، ويخاف عقابه وعذابه، والعياذ بالله تعالى.
• ويستحب للمعتكِف أنَ يمكث في مُعتكَفِه ولا يَخرُجُ مِنه إلا لِضرورةٍ أو حاجةٍ، ويباح له أن يكلَّم النَّاسَ الذين في المسجِدِ؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتَكفَ في قُبَّةٍ تُركيَّةٍ على سُدَّتِها قِطعةُ حَصيرٍ، قالَ: فأخذَ الحصيرَ بيدِه فنحَّاها في ناحيةِ القُبَّةِ، ثمَّ أطلَعَ رأسَه فَكلَّمَ النَّاسَ»؛ (أخرجه مسلم (١١٦٧)).
ويشير هذا الحديث إلى اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه خيمة تركيةً على بابِها حَصيرٌ يَسُدُّها؛ حتَّى لا يَنظُرَ إليه أحَدٌ، قال أبو سعيدٍ الخدري رَضِي اللهُ عَنه: فأخَذ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (الحصيرَ بيَدِه فنَحَّاها في ناحيةِ القُبَّةِ)؛ أي: أبعَدَها عن البابِ، ووَضَعها في جانبٍ مِن الخيمةِ، (ثمَّ أطْلَع رأسَه فكلَّم النَّاسَ)؛ أي: أظهَرَ رأسَه فقَط مِن الخيمةِ، فكلَّم النَّاسَ الذين في المسجِدِ.
• ويباح للمعتكف الخروج من المسجد لحاجة؛ كإحضار الطعام والشراب، وخاصة إذا لم يجد من يخدمه، وكذلك يباح له الخروج للوضوء، والاغتسال، وينبغي له أن يبتعد عما لا ينفع من الحديث، لكونه ينافي مقصود الاعتكاف وما شرع من أجله، ويباح له التحدث مع غيره فيما يفيد وينفع، وخاصة مع أهله، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث مع زوجاته وهو معتكف في المسجد، لحديث صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: «كانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا، فأتَيْتُهُ أزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فانْقَلَبْتُ، فَقامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وكانَ مَسْكَنُها في دارِ أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلانِ مِنَ الأنْصارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أسْرَعا، فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على رِسْلِكُما إنَّها صَفِيَّةُ بنْتُ حُيَيٍّ»، فَقالا: سُبْحانَ اللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: «إنَّ الشَّيْطانَ يَجْرِي مِنَ الإنْسانِ مَجْرى الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما سُوءًا، أوْ قالَ: شيئًا»؛ (أخرجه البخاري/ ٣٢٨١).
ولقد قسَّم الفقهاء خروج المعتكف من المسجد إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: جائز، وهو الخروج لأمر لا بدَّ منه شرعًا، أو طبعًا، كالخروج لصلاة الجمعة، والأكل، والشرب إن لم يكن له من يأتيه بهما، والخروج للوضوء، والغسل الواجبين، ولقضاء حاجة البول والغائط.
القسم الثاني: الخروج لطاعة لا تجب عليه؛ كعيادة المريض، وشهود الجنازة، فإن اشترطه في ابتداء اعتكافه جاز، وإلا فلا.
القسم الثالث: الخروج لأمر ينافي الاعتكاف كالخروج للبيع والشراء، وجماع أهله ونحو ذلك، فهذا لا يجوز لا بشرط، ولا بغير شرط؛ «مجموع الفتاوى، لابن عثيمين، كتاب الصيام (20/ 157)».
مبطلات الاعتكاف:
يبطل الاعتكاف ويفسد بعدة أعمال وتصرُّفات، وهي:
1- الجماع، فلا يجوز للمرأة أن يأتيها زوجها وهي في الاعتكاف، وكذلك المعتكف ليس له أن يأتي زوجته وهو معتكف، ولو كان ذلك ليلًا، أو كان خارج المسجد، لقول الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، ويلحق بحكم الجماع الإنزال بشهوة من غير جماع، كالاستمناء، ومباشرة الزوجة في غير الفرج.
2- الحيض والنفاس؛ إذ يشترط لصحة الاعتكاف الطهارة من الحدث الأكبر، ولعدم جواز مكث الجنب، ولا الحائض والنفساء في المسجد.
3- الخروج من المسجد لغير حاجة عمدًا وقصدًا؛ لكونه يخالف مقصود الاعتكاف وهو المكث في المسجد؛ لحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: (وَإنْ كانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وهو في المَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ، وكانَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إلا لِحاجَةٍ إذا كان مُعْتَكِفًا)؛ (أخرجه البخاري ٢٠٢٩).
4- ذهاب العقل بالجنون والسكر، لخروج المجنون والسكران عن كونهما من أهل العبادة، ولكون الاعتكاف يفسد بالجنون والسكر.
5- الردة، فمن ارتد وهو معتكف - والعياذ بالله تعالى - بطل اعتكافه، لمنافاتها للعبادة، ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
الحكمة من مشروعية الاعتكاف:
لقد شُرع الاعتكاف لحكم وغايات كثيرة، ومنها:
1- شـُرع للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالتفرغ لعبادته وذكره وتسبيحه، واستغفاره وقراءة القرآن.
2- الاعتكاف سبيل لتزكية النفس وتنقية القلب.
3- عُكوفُ القَلبِ على طاعةِ الله تعالى.
4- جَمعُ القلْبِ عليه، ووقْفُ النَّفْسِ له.
5- الخَلوةُ به سبحانه وتعالى.
6- الانقطاعُ عن الاشتغالِ بالخَلقِ، وتفريغُ القَلبِ مِن أمورِ الدُّنيا، والاشتغالُ به وَحدَه سبحانه.
7- صفاء القلب بمراقبة الربِّ والإقبال والانقطاع إلى العبادة في أوقات الفراغ، متجردًا لها، ولله تعالى من شواغل الدنيا وأعمالها.
قال ابن القيم: «لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفًا على جمعيته على الله، ولَمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإنَّ شعث القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله تعالى! وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثًا، ويُشتته في كل واد، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه - اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه: عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيتُه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبُّه، والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهمُّ كلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسُه بالله بدلًا من أنسه بالخلق، فيعده بذلك؛ لأنه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصودُ الاعتكاف الأعظم»؛ «زاد المعاد، لابن القيم (2/ 87)».
هذا ما تيسَّر إيراده فيما يتعلق بالاعتكاف وأحكامه، ونسأل الله جل وعلا أن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يتقبله، وأن يكون لوجهه الكريم خالصًا، والحمد لله رب العالمين.
_________________________________________________
الكاتب: أ. د. كامل صبحي صلاح
- التصنيف: