(استقبال رمضان)
إن إدراكك رمضانَ نعمةٌ من الله عليك، فاشكُر الله أن بلَّغك رمضان، واسأله أن يمُدَّك بعونه وتأييده لأن تصومه وتقوم ليله، طاعةً لله، وإخلاصًا لله؛ كان سلفكم الصالح يدعون الله قائلين: "اللهم سلِّمنا لرمضان، وسلِّم لنا رمضان، وتسلَّم منا رمضانَ متقبلًا".

شرف على الدنيا هلال رمضان المبارك، الذي تهفو إليه نفوس المؤمنين وتتطلع شوقًا لبلوغه.
مرحبًا أهلًا وسهلًا بالصيام ** يا حبيبًا زارنا في كل عـــــــــام
قد لقيناك بحبٍّ مفعـــــــمٍ ** كل حب في سوى المولى حرام
فاقبل اللهم ربي صومنـــا ** ثم زِدْنا من عطاياك الجســــــام
نستقبل شهرًا عظيمًا وضيفًا كريمًا، وأنتم كنتم قد وعدتم أنفسكم قبله أعوامًا ومواسمَ، ولعل بعضكم قد سوَّف وقصَّر، فها هو قد مُدَّ له في أجَله، ونُسئ له في عمره، فماذا عساه يفعل؟ إن بلوغ رمضان نعمة كبرى يقدِّرها حق قدرها الصالحون المشمِّرون، إن واجب الأحياء استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، إنها إن فاتت كانت حسرةً ما بعدها حسرة، أي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في مساءلة بينه وبين جبريل الأمين؟ «يا محمد، من أدرك شهر رمضان، فمات، فلم يُغفر له، فأُدخل النار، فأبعدَه الله، قل: آمين، فقلت: آمين»؛ (رواه ابن حبان، وصححه الحاكم، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه).
إن في استقبال شهر الصوم تجديدًا لطَيف الذكريات، وعهود الطُّهر والصفاء، والعِفة والنقاء، ترفع عن مزالق الإثم والخطيئة، إنه شهر الطاعات بأنواعها من صيام وقيام، وجُود وقرآن، وصلوات وإحسان، وتهجد وتراويحَ، وأذكار وتسابيح، له في نفوس الصالحين بهجة، وفي قلوب المتعبدين فرحة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا رمضان قد جاءكم تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار، وتُسلسل فيه الشياطين»؛ (رواه أحمد والنسائي، من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الألباني).
كم في نفوسنا - يا عباد الله - من شهوة وهوًى، وفي صدورنا من دوافع غضب وانتقام، وفي الحياة من تقلُّب في السراء والضراء، وفي دروب العمر من خُطوب ومشاقَّ، ولا يُدافَع ذلك كله، إلا بالصبر والمصابرة، ولا يتحمل العناء، إلا بصدق المنهج وحسن المراقبة، وما الصوم إلا ترويض للغرائز، وضبط للنوازع!
فيا أهل الصيام والقيام، اتقوا الله تعالى وأكرِموا هذا الوافد العظيم، جاهدوا النفوس بالطاعات، ابذُلوا الفضل من أموالكم في البر والصِّلات، استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله، جدِّدوا العهد مع ربكم، وشُدُّوا العزم على الاستقامة، فكم من مؤمِّل بلوغه أصبح رهين القبور! قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
أيها المسلمون:
في الصيام معانٍ عظيمة، لا يدركها إلا من وفَّقه الله جل جلاله؛ ففيه تحقيق للاستسلام والعبودية لله جل وعلا؛ إذ الصوم يربي المسلم على العبودية الحقة، فإذا جاء الليل أكل وشرِب؛ امتثالًا لقول ربه الكريم: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].
وإذا طلع الفجر أمْسَكَ عن الأكل والشرب وسائر المُفطرات؛ امتثالًا لأمر الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وهكذا يتربى المسلم على كمال العبودية لله، فإذا أمره ربه عز وجل بالأكل في وقت معين أكَل، وإذا أمره بضد ذلك في وقت آخر امتثل، فالأمر ليس مجرد أذواق وشهوات وأمزِجة، وإنما هي طاعة لله تعالى وتنفيذ لأمره.
أيها المؤمنون:
ترسِّخ حقيقة الصيام الفضائلَ الجليلة طبعًا لا تصنُّعًا، وسجيةً لا تكلُّفًا، فلنجعل هذا الشهر الكريم انطلاقًا للسمو والترفُّع عن سفاسف الأمور، والحذر من كل ضلالة وزُور.
من حِكَمِ رمضان أن يتفاعل المسلم مع إخوانه في شتى البقاع، ويتجاوب مع نداءات الفقراء والضعفاء، متجاوزًا بمشاعره كل الفواصل، متسلقًا بمبادئه كل الحواجز، يتألم لألمهم، ويحزن لأحزانهم، مبتدئًا بالموالاة والمواساة من بيته وموطنه، ولإخوانه من بني جِلْدَته، وصحبه وأقاربه، يستقبل رمضان بنفس معطاءة، ويدٍ بالخير فيَّاضة، ويبسُط يده بالصدقة والإنفاق: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
وماذا عن شهر رمضان؟ إنه شهر أنزل الله فيه كتابه، وفتح فيه للتائبين أبوابه، فلا دعاء فيه إلا وهو مسموع، ولا خير إلا وهو مجموع، ولا ضُرَّ إلا وهو مدفوع، ولا عمل إلا وهو مرفوع، الظافر الميمون منِ اغتنم أوقاته، والخاسر المغبون من أهمله ففاتَه، شهر جعله الله لذنوبكم تطهيرًا، ولسيئاتكم تكفيرًا، ولمن أحسن منكم صحبته ذخيرة ونورًا، ولمن وفَّى بشرطه وقام بحقه فرحًا وسرورًا، شهر تورَّع فيه أهل الفسق والفساد، وازداد فيه إلى الرغبة إلى الله أهل الجِدِّ والاجتهاد، شهرُ عمارات القلوب، وكفَّارات الذنوب، واختصاص المساجد بالازدحام والتحاشر، شهر فيه المساجد تُعمر، والآيات تُذكر، والقلوب تُجبر، والذنوب تُغفر، شهر تُكثر فيه الملائكة لصُوَّامه بالاستغفار، ويُعتِق فيه الجبَّار كل ليلة ويوم، وتنزل فيه البركات، وتعظُم فيه الصدقات، وتكفَّر فيه النكبات، وتُرفع فيه الدرجات، وتُرحم فيه العَبرات، وتنادي فيه الحُور الحِسان من الجنات: هنيئًا لكم يا معشر الصائمين والصائمات، والقائمين والقائمات، بما أعدَّ الله لكم من الخيرات، فقد غمرتكم البركات، واستبشر بكم أهل الأرض والسماوات.
فجديرٌ بشهر هذه بعض أسراره، وتلك بعض خِصاله، أن يفرح به المتعبِّدون، ويتنافس في خيراته المتنافسون، فما أكرم الله أمَّةً بمثل ما أكرم به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلم:
إن إدراكك رمضانَ نعمةٌ من الله عليك، فاشكُر الله أن بلَّغك رمضان، واسأله أن يمُدَّك بعونه وتأييده لأن تصومه وتقوم ليله، طاعةً لله، وإخلاصًا لله؛ كان سلفكم الصالح يدعون الله قائلين: "اللهم سلِّمنا لرمضان، وسلِّم لنا رمضان، وتسلَّم منا رمضانَ متقبلًا".
أيها المسلم، أقبلَ رمضان، فعلى أي شيء العزم؟ هل على نية طيبة، وتوبة نصوح، وعزيمة صادقة، وتنافس في صالح العمل؟ إنه شهرٌ في السنة كلها، فاغتنم أيامه ولياليه، واستعِنْ بالله على ذلك، وكُنْ مجتهدًا، وكُنْ صادق العزيمة، صادق التوبة، قويَّ الرغبة في هذا الشهر، فرِحًا به، مستبشرًا به، مستأنسًا به، ترجو أن يكون لك فيه نصيب عند ربك، بتوبة نصوح، ودعوات مرفوعة إلى الله، وإقلاع عن الخطأ، وعزيمة على الاستمرار في الطاعة، ورجاء من الله أن يحقق لك ما وعد به الصائمين، وما ذاك على الله بعزيز.
فاستقيموا على طاعة ربكم، واسألوا الله إذ قرَّبكم من هذا الشهر أن يبلِّغنا جميعًا صيامه وقيامه، وأن يجعل لنا فيه حظًّا ونصيبًا، وأن يُعيننا فيه على كل خير، وأن يُعيذنا فيه من نزغات الشيطان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
فيا عباد الله، إنه لا مندوحة للمؤمن عند استقبال رمضان عن تذكُّر أولئك الذين كتب الله لهم إدراك صيام شهر رمضان المنصرم، وكانوا منا ملءَ السمع والبصر، لكننا لا نراهم اليوم، فقد قعد بهم الأجل عن بلوغ الأمل في الحُظوة باستقبال هذا الشهر وبصيامه وبقيامه، فسكنوا الأجداث، وغيَّبتهم المقابر، ووجب علينا شكر ربنا لِما حبانا به من دونهم، وتعيَّن علينا أن نسأله سبحانه القبول والمعونة، وحسن التوفيق إلى محابِّه ومراضيه في رمضان وفي جميع الأزمان، وأن يختم لنا جميعًا بخير، وأن يصرِف عنا من الشرور والفتن والبلايا ما لا يصرفه غيره، وأن يجعل عاقبة أمرنا رشدًا.
أيها المؤمنون:
من فضائل الصوم:
1- أنه يغفر الذنوب: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه»؛ (متفق عليه).
2- الصائم يصبح متفائلًا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح، وإذا لقِي ربه فرح بصومه»؛ (متفق عليه).
3- الصائم يطمئن لقبول العمل وذلك بإخراج زكاة الفطر: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر؛ طُهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعمةً للمساكين))؛ (متفق عليه).
4- والصيام لا عِدل له: فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: مُرني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثْلَ له»؛ (رواه النسائي وغيره، وصححه الألباني).
5- الصائم يدخل الجنة ويشرب ولا يظمأ: فعن سهل رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة بابًا يُقال له: الرَّيَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يُقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا، أُغلق فلم يدخل منه أحد»؛ (متفق عليه).
وفي حديث ابن خزيمة مرفوعًا: «فإذا دخل آخرهم أُغلق، من دخل شرِب، ومن شرِب لم يظمأ أبدًا».
أَلَا وصلوا - عباد الله - على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
____________________________________________________________
الكاتب: د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
- التصنيف: