أدلة أحكام السياسة الشرعية ومصادرها
لما كانت أحكام السياسة الشرعية أحكامًا شرعية، فإن مصادرها والاستدلال عليها يكون من خلال مصادر الشريعة نفسها. وهذه المصادر منها ما هو أدلة نصية، ومنها ما هو أدلة استنباطية أو استدلال.
هذا الدرس في حقيقته درس في أصول الفقه وليس في السياسة الشرعية، ومن ثَمَّ فالتعرض له لا يكون تعرضًا تفصيليًا أصوليًا، وإنما تعرُّض بما يخدم السياسة الشرعية. ولما كانت أحكام السياسة الشرعية أحكامًا شرعية، فإن مصادرها والاستدلال عليها يكون من خلال مصادر الشريعة نفسها. وهذه المصادر منها ما هو أدلة نصية، ومنها ما هو أدلة استنباطية أو استدلال.
الأدلة:
1- الكتاب، أي القرآن: وهو كلام الله المكتوب في المصاحف المتعبّد بتلاوته المتحدى به، فمن أمثلة ما جاء في السياسة الشرعية في كتاب الله قوله تعالى: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] في تنصيب الأئمة، وقوله تعالى: {إن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَإن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26-27] في الاستدلال بالأمارات والقرائن.
2- السنة: ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. وما ورد في السنة من أدلة السياسة الشرعية كثير، ومن أمثلة ما جاء فيها ما روي في كتاب الإمارة من كتب السنة.
3- اتباع سنة الخلفاء الراشدين: والخلفاء الراشدون هم الأربعة الخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والمراد بسنتهم ما اتفقوا عليه أو ما قاله أحدهم ولم يخالفه فيه أحد منهم. ومن سنتهم التي اتفقوا عليها في باب السياسة الشرعية العهد بالخلافة لصالحٍ لها بعد أخْذ رأي أهل الحل والعقد؛ كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في عهده بالخلافة لعمر رضي الله عنه بعدما شاور فيه الصحابة، وكذلك جَعْلها شورى في عدد صالح لها كما فعل عمر رضي الله عنه في جَعْلها في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ. وقد دل على اعتبار سنة الخلفاء الراشدين من القرآن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، فرضوان الله تعالى عمن اتبع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الصحابة، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون؛ دليل على صواب سنتهم وصواب متابعتهم فيها وعدم مخالفتهم. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: « » [1].
4- الإجماع: وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على نسبة أمر إلى الشريعة، ومن أمثلة ذلك في السياسة الشرعية: اتفاق الصحابة على صحة الطرق التي تولى بها الخلفاء الراشدون الخلافة، ومنها اتفاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهو أعلى أنواع الإجماع- على أن ولاية الأمر لا تكون بالغصب ولا بالقهر، كما لا تكون بالنص الشرعي على اسم ولي الأمر؛ وإنما تكون عن طريق الشورى بين المسلمين، وهذا ما دعا عمر رضي الله عنه في آخر خطبة له عند ما أحس بدُنُوّ أجله إلى أن يقول: "من بايع رجلًا على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا" [2]، أي: من بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين، فإنه لا بيعة له، ولا للذي بايعه؛ "تغرة أن يقتلا" أي: محذرًا لهما من القتل بتجاوزهما لحقِّ جماعة المسلمين واعتدائهما على حقهم في الاختيار.
ومما يعد من مسائل السياسة التي كانت في زمن الراشدين وكانت عن اتفاق منهم؛ عدم قبول تقاسم السلطة السياسية بحيث توزع السلطة على أكثر من أمير فيستقل كل أمير بجزء من السلطة، بل لا بد أن يكون للمسلمين جميعهم رأس واحدة؛ ففي اجتماع سقيفة بني ساعدة لما حدث تباين في وجهات النظر فيمن يولى الأمر بعد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قال صحابي من الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير"، موجهًا خطابه للمهاجرين، فأجابه عمر الفاروق رضي الله عنه بقوله: "لا يصلح سيفان في غمد واحد"، رفضًا لفكرة تقسيم الإمارة، وقد قبل كلام عمر جميع من كان حاضرًا وهم رؤوس الصحابة، فلم يعترض عليه أحد.
5- القياس (الميزان): وهو إلحاق مسألة لا نص فيها بمسألة حكمها منصوص؛ لاشتراكهما في علة الحكم.
6- الاستدلال أو الاستنباط: استخراج الحكم بطرق الاستثمار المعروفة في أصول الفقه، وهو الاجتهاد، وهو أنواع:
أ- المصلحة: والمصلحة تكون بجلب منفعة أو دفع مضرة. والمصلحة منها ما يدل دليل خاص على اعتبارها، ومنها ما يدل دليل خاص على إلغائها، ومنها ما هو ليس من القسمين السابقين، فلا يدل دليل خاص على اعتبارها أو إلغائها، وإنما تكون داخلة في أصل كُلِّي دلت عليه أدلة الشرع، وهو ما يطلق عليه مصلحة مرسلة؛ فالمصلحة المرسلة هي إجراء أو تصرف يتحقق به أصل كُلِّي دلت النصوص على أن تحقيقه مطلوب، فكأن المصلحة المرسلة تمثل الطريق العملي المحدد لتحقيق الأصل الكلي؛ فالطريقة التي وَلَّى بها أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه لم يدل عليها دليل معين، لكنه تصرُّف من شأنه أن يحقق حفظ النظام السياسي الإسلامي الذي دلت عليه أدلة كثيرة، فكانت طريقة تولية أبي بكر لعمر رضي الله عنهما من المصالح المرسلة.
فالمصلحة المرسلة تصرُّف لم يدل عليه دليل بخصوصه، لكنه يؤدي لتحقيق أصل كُلِّي يطلبه الشرع؛ كتأمُّر خالد بن الوليد رضي الله عنه في غزوة مؤتة، فإنه لم يدل عليه دليل معين، لكنه يحقِّق مطلوبًا دل عليه أصل كُلِّي، وهو الحفاظ على جيش المسلمين وصيانة دمائهم وإلحاق الهزيمة بأعداء الله ورسوله.
والمصلحة بمجردها لا تستقل بإثبات الأحكام دون رجوعها إلى أصل كُلِّي تستند إليه، وعلى من يعمل بالمصلحة توخِّي الحذر الشديد في تحقيقها حتى لا تشتبه عليه الأمور، فيظن مصلحةً ما لا مصلحةَ فيه، أو يجعل مصلحةً موهومة مصلحةً حقيقية، أو يكون ما رآه مصلحةً معارِضًا لمصلحة أخرى هي أَوْلَى منها بالمراعاة وأحق، أو يترتب عليها مفسدة تربو على النفع المجلوب بالمصلحة، وعليه النظر والتدقيق في المآلات المترتبة على ما عده مصلحة، فإن المصالح والمفاسد منها ما هو معلوم مُدرَك بالنصوص؛ كمصلحة العبادات من صوم وصلاة وحج وزكاة، ومثل: تناول الطيبات من المطعومات والمشروبات، ومثل: ستر العورات، واجتناب النجاسات، ونحو ذلك. وكذلك المفاسد منها ما هو معلوم مُدرَك بالنصوص؛ كالربا، وشرب الخمر، والسرقة، وقتل النفس بغير حق، والظلم، ونحو ذلك.
ومن المصالح والمفاسد ما هو مدرَك بالاجتهاد، لا سيما أن منها ما هو متجدد بتجدد الأزمان ويختلف باختلاف ظروف المكان. والمصالح والمفاسد المدرَكة بالاجتهاد يدخل الخطأ في إدراكها وتصويرها، وتحقُّقها في آحاد وأفراد الصور الواقعة كثيرًا؛ فقد يُظن ما ليس بمصلحة (حقيقية) مصلحة ينبغي تحصيلها، وقد يُظَنّ في الجانب المقابل ما ليس بمفسدةٍ (حقيقية) مفسدةً ينبغي دفعها وإزالتها.
ويعظُم هذا الخلط والاضطراب عند ما لا تتميز المصالح من المفاسد، فتكون المصلحة المطلوب تحصيلها تكتنفها مفسدة أو عدة مفاسد، ولا يمكن تحصيلها على الانفراد، وكذلك قد تكون المفسدة المطلوب دفعها مختلطة بمصلحة أو عدة مصالح، ولا يمكن دفعها على الانفراد، فيكون في دفعها دفع لتلك المصالح؛ لذلك فإن الفقه في هذا الباب لا يصلح أن يُقْدِم عليه المبتدئون أو الشادون في الفقه، وإنما هو بحاجة إلى فقهاء متضلعين تضلعًا كاملًا في فقه الشريعة بمعناه الشامل، إضافة إلى الخبرة الواسعة بالواقع، والعلم ببعض القواعد الفقهية التي تضبط هذا الأمر.
ب- الاستحسان: عدم إلحاق مسألة بنظائرها لوجود دليل يقتضي عدم الإلحاق، أو العدول عن إلحاق مسألة بحكم نظائرها لدليل أقوى يختص بهذه المسألة (الفرع). ويمكن التمثيل للاستحسان في السياسة الشرعية بقوله تعالى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33]، ثم عدل بالتائب قبل القدرة عليه من إلحاقه بالمحارب المقدور عليه، فقال تعالى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:34]، وهذا يُعَد استحسانًا بالنص. وربما نازع البعض في تسميته استحسانًا لأن الحجة فيه النص، فالنزاع في التسمية وليس في الحكم.
ج- سد الذرائع وفتحها: الذرائع جمع ذريعة، والذريعة الوسيلة أو الطريق. فالذريعة الوسيلة أو الطريق إلى الخير أو الشر، فالذرائع إلى الخير تفتح والذرائع إلى الشر تسد، والذريعة التي تسد هي وسيلة أو طريق غير ممنوع في نفسه، بل هو مباح، لكن لما أمكن أن يكون مؤديًا إلى شر أو فساد فإنه يمنع ويسد؛ كما امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين وقال: « »، فيكون صدًا لهم عن الدخول في دين الله.
لكن سد الذرائع ينبغي أن يكون محكومًا بضوابطه حتى لا يؤدي إلى الإخلال بقاعدة أخرى من القواعد الدينية، وهي رفع الحرج. فلا ينبغي التوسع في سد الذرائع توسعًا غير منضبط مما يترتب عليه الوقوع في الحرج. والفعل إذا كان النهي عنه سدًا لذريعة ولم يكن النهي مقصودًا لذاته؛ فإنه يُباح للمصلحة الراجحة.
د- تحكيم العرف العام: العرف العام هو ما تعارف عليه المسلمون، ودرجوا عليه أو جمهورهم من الإجراءات والتصرفات مما لا يخالف الشرع، فإذا خالف الشرع لم يُلْتَفت إليه ولو أجمعوا عليه عن بكرة أبيهم، وكذلك إن كان عرفًا خاصًا بمكان أو زمان فلا يتجاوز به مكانه وزمانه ولو كان مما لا يخالف الشرع.
ومما يمكن عَدّه من العرف في باب السياسة الشرعية:
1- عدم دخول النساء فيمن يختار ولي الأمر وكذلك أهل الذمة.
2- عدم توقيت مدة ولاية الخليفة بزمن، بل ولايته مطلقة عن التحديد بزمن ومقيدة بقدرته على القيام بتبعات وظيفته، واستمرار حفاظه على الشروط والصفات التي أهَّلته لذلك المنصب.
3- عدم اشتراط الإجماع على من يولى الأمر.
4- تحديد شخص الخليفة من صلاحيات أهل الحل والعقد ويتابعهم فيه المسلمون وطريقهم فيه الشورى.
5- عدم توريث الخلافة؛ فقد انقضت فترة الخلافة الراشدة ومدتها ثلاثون سنة، ولم يورث منهم أحد الخلافة لأحد من أهله. ولا يعارض هذا تولي الحسن بن علي بن أبي طالب الخلافة بعد أبيه؛ لأن أباه لم يستخلفه أو يعهد إليه، وإنما اختاره المسلمون بعد قتل أبيه رضي الله تعالى عنهما.
وكون ما تقدم يدل عليه العرف السياسي لا ينفي وجود أدلة نصية عليه، فهو بمنزلة توارد أكثر من دليل للدلالة على أمر ما، كما نقول مثلًا: وجوب الصلاة والزكاة والصيام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
وقد اعتبر أبو بكر رضي الله عنه العرف في تحديد قبيلة الخليفة، فعندما أراد الأنصار أن تكون الخلافة فيهم قال قولته الشهيرة: "ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا" [3]. فقد كان عرف الناس أن هذا الأمر في قريش، وأنه لا يقبل أن يتولاه غيرهم، ولذلك احتج به أبو بكر رضي الله عنه. ولا يعارض هذا الفهم الأحاديث الثابتة في أن الخلافة في قريش؛ لأن أبا بكر عندما قال مقالته لم يكن يعلم بهذا الحديث، ولو كان عنده حديث في ذلك لكان أَوْلَى أن يحتج به من الاحتجاج بالعرف. وقد دل على قوة العرف في مثل ذلك الأمر أن من سمع كلام أبي بكر من الأنصار وهم الذين كانوا يريدون أن تكون الخلافة فيهم، أقروا قوله فلم يعارضوا ما ذكره وأذعنوا له.
أثر تغيُّر العرف على الحكم:
الحكم الثابت بالعرف مرتهن بوجود العرف، فإذا تغير العرف، وحل مكانه عرف آخر؛ انتفى الحكم الأول لانتفاء دليله. أما الحكم الذي لم يكن العرف هو الدليل الوحيد عليه، فإن تغير العرف لا يؤثر في الحكم؛ مثال ذلك: عدم دخول النساء وأهل الذمة في جماعة أهل الحل والعقد، فإن هذا الحكم وإن دل عليه العرف فإنه أيضًا مدلول عليه بالنصوص الشرعية، فلو تغير العرف لم يتغير الحكم؛ وكذلك كون الأئمة من قريش، فلو تغير العرف لم يؤثر في تغير الحكم؛ لوجود حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «
». قال ابن حجر في "فتح الباري": "وقد جمعتُ طرقه عن نحو أربعين صحابيًا لما بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه لم يروَ إلا عن أبي بكر الصديق" [4]. إلا أن يعترض على ذلك بأن الحديث لم يكن مؤسسًا للحكم، بل كان كاشفًا عن العرف، والمسألة تحتاج إلى مزيد بحث.
كما أن العرف في عدم توريث الخلافة قد تغيّر وصار توريثها عرفًا على مدى عدة قرون، بداية بخلافة يزيد بن معاوية في القرن الأول حتى سقطت الخلافة منذ ما يقارب قرنًا من الزمان، لكن هذا التغير لا يؤثر في الحكم؛ لأنه مخالف للحكم الشرعي، حيث لم يعتبر العرف الحادث فيمن آلت إليه الخلافة توافر شروط استحقاق الخلافة، لكن هذا العرف الحادث يمكن التعويل عليه في السكوت على تلك المخالفة من أجل الحفاظ على وحدة الأمة واستقرار الأوضاع إذا كان من آلت إليه الخلافة قائمًا بما وجب عليه في الأغلب ولم يظهر منه ما يسوغ إخراجه عنها.
هـ- وجوب ما لا يتم الواجب إلا به: ما توقف امتثال الأمر أو النهي عليه بحيث لا يمكن الامتثال إلا به.
و- رفع الحرج: الحرج الضيق، فكل ما كان فيه حرج على المسلمين فهو مرفوع.
ز- الأصل في العادات الإباحة إلا أن يدل الدليل على خلاف ذلك، والعادات ما اعتاده النَّاس في دنياهم مما يحتاجون إليه، وقد قرَّر الرازي في المحصول: "أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع بأدلة الشرع"، وتبعه على ذلك الكثيرون من أهل الأصول.
وكل ما سبق له شروط وضوابط ينبغي مراعاتها.
وهذا الدرس كما ذكرتُ في أول الحديث أليق بأصول الفقه منه بالسياسة الشرعية، ومن ثَمَّ فلا يعنينا التفصيل فيه، وأكثر ما يستفاد من هذه الاستدلالات في باب السياسة الشرعية: المصالح المرسلة، وتحكيم العرف، خاصة العرف السياسي في دولة الراشدين.
تنبيه: في الاحتجاج بالسنة في باب السياسة الشرعية: السنة دليل شرعي في كل مسألة من مسائل الدين أتت بها نصوص السنة، لكننا ينبغي لنا الانتباه إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم بعدة وظائف دينية، منها التبليغ، ومنها الفتوى، ومنها القضاء، ومنها السياسة؛ وكل ذلك من فعله وقوله دين وشرع في الزمان كله والمكان كله، لكن الاقتداء به فيه إنما يكون على النحو الذي جاء عنه؛ فمثلًا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف الإمامة (إمامًا للمسلمين) فإنما يصلح القيام به ممن هو إمام، وما فعله بوصفه قاضيًا فإنما يصلح من القضاة، وهذه النقطة مما تهم المشتغلين بالسياسة الشرعية.
والفرق بين التبليغ والفتوى من أعماله الدينية: أن التبليغ هو مقتضى الرسالة فهو فيه مبلغ عن ربه، وأما الفتوى فهي إخباره عن حكم الشرع بما يجده في الأدلة.
ومن هنا، فإن التبليغ لا يجوز فيه الخطأ ولا السهو؛ فإنه مقتضى الرسالة والرسالة معصومة، أما الفتوى فليست بلاغًا عن الله، ومن ثَمَّ جاز فيها وقوع الخطأ.
وكذلك التصرف بالإمامة ليس بلاغًا عن الله فيجوز فيه حصول الخطأ، كما في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، وقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَولَّى. أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1-2]، لكنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على ما كان من خطأ في ذلك، سواء في التصرف بالفتوى أو التصرف بالإمامة، بل الله يبيّن له حتى تكون كل أفعاله وأقواله وتقريراته دينًا وشرعًا.
وممن اهتم بالفرق بين تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان الآثار المترتبة على ذلك؛ العلامة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المالكي في رسالته المعنونة بـ(الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام).
------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه أحمد برقم (17145) وغيره.
[2] أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6830).
[3] أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6830).
[4] "فتح الباري" (7/ 32)، وكان عَدّه من قبلُ من المتواتر (1/ 203) "فتح الباري".
محمد بن شاكر الشريف
باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.
- التصنيف: