تدبر - [200] سورة طه (1)

منذ 2014-07-20

ليست المشكلة فقط في نوعية الإيمان وتفاصيله، المهم أن يكون إيمانًا تحت السيطرة، إيمانًا مدجنًا منزوع الإرادة، إيمانًا بالأوامر وعقيدة بلا عقيدة، إيمانًا رسميًا وحصريًا.

والخطاب الفرعوني المتجبر له خصائص ومحاور، يظهر جزء مهم منها في كلام فرعون في سورة طه

{قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُۥ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـٰفٍۢ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًۭا وَأَبْقَىٰ} [طه:71].

هذا الخطاب الفرعوني يمثل أربعة محاور مفصلية، تتجلى من خلالها نفسية الطغاة في كل زمان ومكان:
- السلطان على الفكرة. 
- التخوين والمؤامرة.
- القمع والبطش.
- ترسيخ ثقافة الخوف وصناعة العبرة.

 

1. لقد كان انزعاج فرعون في البداية بسبب التفلت من سلطانه على الأفكار، وسيطرته المحكمة على إيمان شعبه، وليس فقط طبيعة هذا الإيمان وفحوى تلك الفكرة.

ليست المشكلة فقط في نوعية الإيمان وتفاصيله، المهم أن يكون إيمانًا تحت السيطرة، إيمانًا مدجنًا منزوع الإرادة، إيمانًا بالأوامر وعقيدة بلا عقيدة، إيمانًا رسميًا وحصريًا. 

{قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ}!! 
القضية هنا في الإذن والتصريح، في التحرر من سلطاني والخروج عن طوعي واستقلالية الاختيار بمنأى عني.

 

2. إذا فهي المؤامرة! أيها الخونة المتآمرون، إنه كبيركم إذا، وما موهبتكم وصنعتكم السحرية إلا جزءً من تلك المؤامرة الكونية على دولتنا البهية. 

تناسى الطاغية في لحظات أنه هو من أتى بهم من أنحاء القطر الواسع، وجمعهم بجنده، واختارهم على عينه،
تناسى فجأة طبيعة الأشياء ،وضعف وسائل خصمه المادية، بالمقارنة بآلته الحربية وقدرته المادية وحضارته القوية،
فقط تجلت دعاية المؤامرة السوداء لتبرر ما سيحدث للخونة المتآمرين الذين كانت جريمتهم السجود، وخطيئتهم ترك الاستئذان قبل الإيمان، ونسيانهم الحصول على تصريح بالاعتقاد مختوم بالختم الفرعوني.

 

3. {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـٰفٍۢ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ}. 
إنه القمع إذن! سبيل الضعيف وإن لبس لأمته ووسيلة العاجز، وإن ادعى قوته وتمثل قدرته، السيف في مواجهة الفكرة، والبطش في مقابلة العقيدة، والعذاب لوأد الإيمان الذي لم يستأذن فيه الطاغي.

ولكن لماذا ؟! هل هو الانتقام وحسب؟! أم هو إسكات الصوت وكبح جماح الإرادة وقتل التحرر الإيماني من عبادة الطواغيت الذي مثله السحرة؟!
ربما كل ذلك وغيره، لكن المهم الآن هو:
 

4. صناعة العبرة وترسيخ الخوف.

{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًۭا وَأَبْقَىٰ}، لابد أن يعلموا، ولابد أن يعلم الجميع، لابد أن يبقى العبيد عبيدًا، وليكن هذا العلم عبر جسور الأشلاء الممزقة، وليسقى لمتعلمي العبيد مع عصير الدماء المسكوبة والأوصال المتطايرة، ثم ليكن الصلب على تلك الجذوع السامقة، فالمسألة ليست فقط في العقوبة، ولكنه النموذج الذي لابد أن يظهر للجميع، وليظل الإيمان المطلوب كما هو؛ إيمان رسمي حصري بالإذن، إيمان بلا إرادة وعقيدة، بلا حرية وأناس على دين ملوكهم، لكن كل ذلك يطيش بثبات أهل الإيمان؛ الإيمان الحقيقي، الإيمان بلا إذن والعقيدة الحرة التي لا يؤثر عليها مخلوق، فلا ضير إنا إلى ربنا لمنقلبون، و إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، والله خير وأبقى.  

المقال السابق
[199] سورة مريم (11)
المقال التالي
[201] سورة طه (2)